اللاهوت السياسي ينفي علمية السياسة

أحمد جابر

الأحد 2019/03/31
كتب كارل شميت اللاهوت السياسي، وسار به من محاججة قانونية إلى سجال لاهوتي، وأنهاه بسؤال عن الحريات الثلاثة، وكثافة العدوانية في كل منها، كذلك حدد الأفكار المتسلسلة التي تشكل ممراً ضرورياً حديثاً وعلمياً غير متلهوت، للكلام عن إنهاء اللاهوت السياسي الذي ذهب إليه خاصة المفكر بيترسون، الذي ناقش من موضع المخالف لأطروحة كارل شميت، فردَّ له هذا الأخير التحية السجالية بأوسع منها، وبما يليق بمكانة "تاج رجال القانون في الرايخ الثالث"، أي بصاحب هذا اللقب الذي خصّه به من عاصره ومن تعرَّف على أفكاره.


يستحضر عنوان الكتاب "اللاهوت السياسي" لاهوتاً آخر هو لاهوت التحرير، أو لاهوت الثورة، لكن ما عرضه الكاتب في مصنفه لا ينتمي إلى هذا العالم، هو المحافظ والمدافع عن سلطة هتلر وعن ضرورة الديكتاتورية في بعض الاستثناءات التاريخية.

يذهب بعض المتابعين إلى أن كارل شميت هو أول من استعمل تعبير اللاهوت السياسي منذ العام 1922، هو الذي اعتبر أن المفهوم السياسي يتقدم على ما عداه في نظرية الدولة، وخصوصاً على مفهوم الحق والقانون، فالنظام السياسي هو الذي يضع النظام القانوني موضع التنفيذ بواسطة الحاكم السيادي، أما السياسة فإن أحد أهم تجلياتها هي القدرة على التمييز بين الصديق والعدو، ودرجة الترابط والتفكك بين البشر. لقد عرَّف الكاتب الحاكم السياسي بأنه السلطة التي تقرر في نهاية الأمر، من دون الحاجة إلى استعمال تبريرات قانونية، هنا يحيل إلى حاكم بملامح ديكتاتورية يقرر في الحالات الاستثنائية.

وإذ يعرض كارل شميت لمسألة الديمقراطية التي يرى أن المساواة بين المواطنين تشكل جوهرها، فإنه يرى أن شرط الديمقراطية الضروري هو أن يكون الشعب موحداً سياسياً.


هذا الانصراف إلى السياسي والاشتغال عليه قاد الكاتب إلى "تنبوء في العام 1962" أطل من خلاله على الخطوط العريضة للوضع الدولي الذي نعيشه اليوم، من خلال نظريته المعروفة بنظرية الأنصار، فلقد تحدث شميت عن نهاية عصر الكيانات الدولتية، واختفاء نظام الدولة ذات السيادة، وظهور مجالات كبرى على المسرح الدولي عوضاً عن الدول الموجودة، ثم ما لبث أن قدَّم الولايات المتحدة الأميركية مثالاً على ما ذهب إليه، فوصفها بالقوة القائدة ذات المجال الكبير الذي تشع فيه أفكارها وتأثيرها السياسي والاقتصادي والثقافي. في متن كتاب اللاهوت السياسي ناقش شميت العلاقة الوثيقة بين علم اللاهوت وعلم التشريع، وعمد إلى وصف تطور اللاهوت الحديث في نظرته إلى المسائل السياسية والقانونية والسوسيولوجية، من خلال عرضه النقدي لأطروحات المفكرين الذين عالجوا تلك الموضوعات، وخصَّص فصلاً كاملاً من كتابه لنقد آراء ثلاثة من المفكرين الكاثوليك في مسألة فلسفة الدولة، لأنه رأى فيهم ممثلين لتيار مضاد للثورة في اللاهوت السياسي، هؤلاء الثلاثة هم: دو ميستر، وبونالد، وكورتيس. إلى هؤلاء وجَّه الكاتب اهتمامه إلى تفنيد مقولة إنهاء اللاهوت السياسي التي نادى بها إيريك بيترسون، الذي كان لاهوتياً بروتستانتياً وأستاذاً جامعياً.


لقد كان بيترسون المذكور، حسب رأي شميت، ذا دوافع دينية وسياسية وشخصية، جعلته يجزم بإنهاء اللاهوت السياسي المعاصر له، بالاستناد إلى تاريخ ذلك اللاهوت في القرون المسيحية الأولى.

لقد توَّج كارل شميت سجاله المسهب مع بيترسون بتسجيل سلسلة من الأفكار الضرورية الواجب اعتمادها ليكون ممكناً إنهاء كل لاهوت سياسي حسب ما نادى به بيترسون، إنهاءً حديثاً علمياً وغير "مُتَلهوِت". في هذا السياق "الأفكاري" سجَّل شميت عدم وجود لاهوت علمي قابل للمناقشة، ونفى أيضاً وجود لاهوت سياسي جديد، لا بالمعنى السياسي الديمقراطي، ولا بالمعنى السياسي الثوري، أمّا نفي "اللهوتة"، فهو في الوقت ذاته نفي للتسييس والقوننة والأدلجة والتورخة. إلى نفي اللاهوت هذا، المنزوع العلمية، قدَّم شميت فكرته الثانية القائلة بأن الإنسان الجديد ينتج نفسه بنفسه، لكنه ليس آدم جديداً وليس أكثر آدمية، بل هو من إنتاج عملية التقدم المهيأة للعمل بإيعاز من نفسها، هذه العملية التي تنتج إنسانها، وتعيد إنتاج نفسها في الوقت ذاته.

في السياق هذا، الذي يحدده نفيان، يقدم كارل شميت فكرة موجبة، بعد فكرتيه السالبتين، فيعتبر أن حرية الإنسان هي القيمة الأعلى، وشرط إمكانيتها اللازم، كامن في حرية قيمة العلم والمعرفة الإنسانية، أما شرط تمام الحرية فهو في "استعمال" نتائج العلم بحرية أيضاً. عليه، يتلازم مصير الحريات الثلاث، حرية القيمة وحرية الاستعمال وحرية التقويم كبيئة لإنتاج الإنسان الجديد، الذي هو كما تقدم، ليس إلهاً جديداً، وعلمه ليس لاهوتاً جديداً.

موقف كارل شميت من هذا الإنسان الجديد "سلبي"، فهو يصفه بأنه عدواني من حيث حركة التقدم الدائمة، وما تولِّد من نزاعات دائمة أيضاً، لذلك يختم الكاتب سلسلة أفكاره بسؤال "فلسفي" عن الإنسان الذي صار إنساناً يتحول، الإنسان الذي صار إنساناً باستثناء الإنسان نفسه.

وبعد، أي ختاماً، كم يبدو كارل شميت في "لاهوته السياسي" معاصراً، حيث الإنسان الجديد يكاد يطابق إنسانه الموصوف، وحيث الحرية حلّت محل العقل، والحداثة اتخذت لذاتها مكاناً هو ذات المكان الذي كان للحرية.


(*) صدر عن المركز العربي للأبحاث ودارسة السياسات، ترجمة رانية الساحلي وياسر الصاروط.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024