أميركا.. صراع الهويات لا السياسات

أحمد ناجي

السبت 2020/11/14
بدأت ابنتي سينا الذهاب إلى الحضانة منذ بضعة أشهر. كل صباح، أوصلها إلى الحضانة، وأعود لآخذها من هناك… في المساء أو الظهيرة أو الصباح، على حسب مزاجي ومزاجها.

مع الوقت، وبتوالي المرات، لاحظت الأمهات والآباء الذين ألتقي بهم صدفة على باب الحضانة. كذلك لاحظت الأطفال الآخرين، وأحياناً أقضي ساعات أنظر إلى شاشة الموبايل وأراقب سينا وهي تلعب مع أقرانها في فصلها الذي يشمل سبعة أطفال آخرين. أتابعها بمنتهى الشغف والغيرة منها.

أحسد سينا لأنها لم تتجاوز سنواتها الثلاث، وتأتي كل يوم إلى هذا المكان لتلهو وتلعب مع أطفال من كل الأعراق، والخلفيات الدينية والثقافية. في الحضانة، يتحدثون الإنكليزية والأسبانية، لكن هناك أطفالاً من أصول آسيوية وأفريقية، ومرة سمعت الإيطالية بين أب وابنه. كل هذا ونحن لا نعيش في مدينة كبيرة، ولا نذهب لحضانة دولية، وكل هؤلاء رغم تباين ألوانهم وألسنتهم وأديانهم، مثل سينا، هم على الأرجح أطفال أميركيون، طبقاً للعبارة الإنشائية الشهيرة، هم مستقبل أميركا.

أقارن كثيراً بين طفولتي وطفولة سينا. أتذكر أني في كنت في الصف الابتدائي الثاني (تقريباً 7 أو8 سنوات)، حين دخل طفل مسيحي إلى مدرستنا للمرة الأولى. أتذكر كيف تحاشاه الجميع، بل اندفع بعض الأولاد في الفسحة لمضايقته لفظياً وبدنياً، ثم أقارن مع سينا، والتنوع البشري المذهل في هذا البلد والذي اكتشف كل يوم مدى ثرائه وتعقيده.

هذا كله جديد، حتى على الأميركيين أنفسهم. يفخر الأميركيون بأنهم أمة من المهاجرين المتنوعين. لكن، حتى الستينات من القرن الماضي، كان هذا التنوع مجرد تنويعات على الهويات القومية للرجل الأبيض. فالبلد غالبية تركيبته السكانية من أصول أوروبية بيضاء، يفتخرون بالتنوع، فهُم من أصول فرنسية وألمانية، كاثوليكية بروتستانتية، لكنهم لا يقتلون بعضهم بعضاً مثلما يحدث في القارة الأوروبية. طبعا تلافت هذه الرواية الرسمية ذِكرَ الأفارقة الأميركيين، الذين، حتى الستينات، كانوا يعيشون بشروط الفصل العنصري البشعة والمتوحشة.

لكن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الزمن، بداية من حركة الحقوق المدنية التي رفعت بعض القيود عن المرأة والسود، وصولاً إلى زيادة معدلات الهجرة من كل مكان في العالم. ومع الوقت، بدأت هذه الأقليات الجديدة تسعى إلى تمثيل سياسي يناسب حجمها.

في خلال العقدين الأخيرين، تصاعد دور الأقليات في المشهد السياسي الأميركي، حتى وصلنا إلى ما حدث منذ بضعة أيام، حيث ولايات كاملة جرت العادة أن تصوّت للّون الجمهوري الأحمر، انقلبت هذه المرة وصوّتت للأزرق. يعود الفضل في الكثير من تلك الولايات، إلى كتلة الناخبين اللاتينيين، وهي ليست كتلة واحدة. الكوبيون والفنزويليون في فلوريدا، يرون في الحزب الديموقراطي مدافعاً عن الاشتراكية والأنظمة اليسارية الاستبدادية التي هربوا منها، لذا يصوتون للأحمر، بينما يصوت المكسيكيون للحزب الديموقراطي الذي بدوره يحتضنهم ويصعدون فيها سياسياً بيُسر، حتى أصبح لدينا للمرة الأولى امرأة ملونة في منصب نائب الرئيس.

تتعايش هذه الأقليات كلها في سلام اجتماعي، في بلد واسع جداً، ما عدا الغالبية البيضاء التي تشعر بالخطر والتهديد. ومنبع الخطر ليس أن المهاجرين يأخذون وظائفهم، بل منبع الخطر والتهديد يقع في قمة هرم السلطة البيضاء التي تشعر بأن المناصب القيادية والرئيسية لم تعد حكراً عليها، وكل يوم تضطر إلى تقديم تنازلات صغيرة وتشريعات، بأسماء مختلفة، من الصوابية السياسية إلى مكافحة التمييز العنصري، وكلها تشريعات تنتزع من الذَّكَر الأبيض المزيد من الامتيازات التي امتلكها لقرون. لذا، يصرخون في كل مكان: "المهاجرون يهددون نمط حياتنا". لكن الدقة أن المهاجرين يهددون احتكارهم للسلطة.

لا نتحدث هنا صراع عرقي تام ومحدد. فداخل الكتلة العرقية البيضاء، هناك ديموقراطيون ورأسماليون، يرون أن مستقبل هذه البلاد وريادتها، منبعها القدرة على استقطاب ألمع العقول من الجنسيات والأديان والأعراق كافة. لذا، حين بدأ ترامب إمعانه في سياسة التضييق على المهاجرين، وانتقل من وضع فقراء العمالة اللاتينية في الأقفاص إلى منع الشركات التقنية من تعيين غير الأميركيين، بل وتهديد الجامعات بترحيل الطلاب الأجانب، انتفض المجتمع الأبيض الرأسمالي ضده، فاضطر ترامب، تحت الضغط، إلى تخفيف هجومه على المهاجرين في حملته الانتخابية الأخيرة.

لا استقطاب سياسياً في أميركا. فالخلافات السياسية والاقتصادية بين الحزبين، كلها تفاصيل إدارية، بينما الجوهر الأيديولوجي واحد، وهو القومية الأميركية بصفتها أرض السوق الحرة المطلقة، حيث في إمكانك أن تكون أي شيء طالما ترتضي عبودية العمل وقواعد نقل وإدارة الثرو،ة طبقاً للشروط الليبرالية.

الخلاف السياسي في أميركا، جوهره عِرقي وهوياتي. ليس حول كيفية تغيير النظام أو إصلاحه، بل الخلاف حول أن هذه الأقليات العرقية تطالب بحقها في التعيين في المناصب القيادية وبنصيب من "كعكة" الاقتصاد والسلطة. وبينما يدافع الحزب الجمهوري الترامبي حالياً، عن تصور وصولي قديم، حين كانت أميركا أرض الجنس الأبيض، وكان العبيد الملونون في قاع الهرم، يرى الحزب الديموقراطي مستقبلاً آخر، الجميع فيه متساوون في العبودية.

النتيجة نراها في نتائج الانتخابات الأخيرة لمجلس الشيوخ، والتي أفرزت واحداً من أكثر الهيئات البرلمانية المفرطة في تنوعها.

ففي أقصى اليمين نجد "ماديسون كاوثورن"(25 عاماً)، والذي يدعو هتلر بالفوهور، ويفخر بصوره في المنزل الصيفي لهتلر، وهو متهم في قضايا تحرش عديدة. ومع ذلك، حصل على مقعده الانتخابي ودخل المجلس، ليكون بجوار لورين بويبرت ومارجوري تيلور جرين الداعمتين لجماعة "كوانان/ Qanon" الذين يؤمنون بأن الحزب الديموقراطي والدولة العميقة تجمعهما شبكة سرية لاختطاف الأطفال من أماكن عديدة، مثل محلات البيتزا، واغتصابهم، بينما تصور هيلاري كلينتون هذه الأفلام، وأنهم أحياناً يقتلون الأطفال ويبيعون أعضاءهم، ويمارسون طقوساً شيطانية لخدمة الشيطان الديموقراطي الأعظم.

هذه أفكار سنسمعها ونراها بوضوح في الفترة المقبلة، من سياسيين أميركيين، سيرون في ترامب رمزاً ونبياً لتيار سياسي جديد، يمزج الرأسمالية بالخرافة السياسية، لتكون النتيجة هستيريا عرقية تعبّر عن مخاوف الرجل الأبيض.

وفي الجانب الآخر، أظهرت انتخابات الشيوخ، نجاحاً كبيراً لمرشحي أقصى اليسار، بل إن المرشحين الذين أبدوا مواقف وسطية، تعرضوا للهزيمة أو أوشكوا على خسارة مقاعدهم. ودخلت المجلس، بواسطة لائحة الحزب الديموقراطي، أسماء جديدة، مثل سارة ماكبيرد أول امرأة "ترانس/عابرة جنسياً" في المجلس، مع ريتشي توريس أول عضو في المجلس مثليّ جنسياً وأسود، إلى جانب "العصابة التقدمية" التي تضم أليكس كورتيز، إلهان عمر، رشيدة طاليب، وأني بريسلي.

قبل انتخابات الرئاسة، توقع الجميع أمرَين، بغض النظر عن النتيجة:
1- الكثير من العنف والقتل خلال الانتخابات.
2- إذا خسر ترامب الانتخابات، فلن يغادر المنصب.

حتى الآن، الرقم 2 هو ما حصلنا عليه. لم يعترف ترامب وفريقه والحزب الجمهوري المختطف بالهزيمة حتى الآن. لكن المدهش بالنسبة إلي، أن الرقم 1 لم يحصل. فطوال العام الماضي، تزايدت أعمال الشحن من الطرفين، وارتفعت مبيعات السلاح، ومعها الحديث العلني عن حرب أهلية جديدة. لكن شيئاً من هذا لم يحدث!

مرت الانتخابات بهدوء، اللّهم إلا بعض الحوادث المعتادة، والشد الجذب في لجان انتخابية. بعض المدن شهد إطلاق نار، لكن بلا إصابات أخرى. طوال الأيام الماضية، أرسل ترامب الرسائل، وطلب من جمهوره النزول إلى مقرات الفرز ومحاصرتها. طمح ترامب إلى تكرار سيناريو العام 2000 في انتخابات جورج بوش وآل غور، حين اندفعت عصابات الحزب الجمهوري وحاصرت مقرات الفرز ونجحتْ في اقتحامها وإيقاف عملية عد الأصوات. لكن، هذه المرة، لم تظهر سوى مجموعات صغيرة من العجائز، وقفوا أمام مقرات الفرز هاتفين: "تزوير… تزوير"، أو صلّوا ليسوع كي ينزل غضبه وينصر المخلّص ترامب.

بالنسبة إلي، هذا هو النجاح الأكبر للتنوع العرقي في أميركا، أننا عبرنا عنق الزجاجة في الانتخابات بلا عنف ولا خلخلة اجتماعية أو أثمان بشرية فادحة. لكن الوحش الأبيض، صاحب الشعر الأصفر، لم يمُت، بل ما زال في البيت الأبيض رافضاً الاعتراف بالهزيمة، ولعله يجهز لخطوات جنونية ساحباً معه الحزب الجمهوري إلى حفرة بلا قرار.

لكنه مهما تمسك بمنصبه، ومهما حاول الحزب الجمهوري تثبيت ريادته، يعرف الجمهوريون البِيض أنهم سيخسرون في المدى الطويل، آجلاً أو عاجلاً. ومثلما قال ستيف بانون، مستشار ترامب السابق والمنظّر الأهم للـ"ترامبية"، فالجنس الأبيض مهدد، لأن معدلات تكاثره في انخفاض، بينما تزداد الأجناس الأخرى وتتكاثر بأضعاف معدلاته. لذا، فأهم ما فعله ترامب والحزب الجمهوري خلال السنوات الأربع الماضية، هو التوسع في تعيينات القضاة الفيدراليين. فخلال أربع سنوات، عيّن ترامب أكثر من 150 قاضياً فيدرالياً. بينما أوباما، خلال ثماني سنوات، لم يعيّن أكثر من 80 قاضياً. كما عيّن ترامب ثلاثة قضاة في المحكمة الدستورية العليا، لتصبح بغالبية بيضاء يمينية محافظة. هذه التحركات كلها، غرضها خلق أوليغارشية بيضاء جمهورية، لأنهم يدركون خسارتهم في المعارك الصندوقراطية في المستقبل.

الأيام المقبلة فاصلة جداً، وستُظهر مدى قدرة مؤسسات الدولة الأميركية، وعلى رأسها القضاء والجيش، على تحقيق انتقال سلمي للسلطة، وإجبار ترامب على المغادرة بأقل الأضرار. لكن السنوات المقبلة هي الأهم، إذ ستشهد انقلابات عاصفة في التراكيب العرقية والهوياتية لحكّام تلك البلاد.. وإن استمر "السيستم" كما هو. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024