شعب المواطنين (اللبنانيين)... وشعب الزبائن والموالي العصبي

وضاح شرارة

الخميس 2019/10/24
 
أحد المتظاهرين في الممر الطويل بين ساحة رياض الصلح غرباً وساحة الشهداء شرقاً يوم الأحد في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، أربعيني هادئ، سألته المراسلة المتجولة بين الصفوف عن الناحية التي جاء منها في اليوم المختلط هذا، فقال إنه قادم من الشوف. فأعربت المذيعة المتدفقة عن عجبها من قدوم شوفي، وهو على أغلب ظنها وظننا درزي وجنبلاطي، إلى ساحات بيروت، وفي مستطاعه وربما من فروضه التظاهر في عاليه مع "إخوانه" الذين احتشد بعضهم فعلاً في عاليه، ورفعوا علم الحزب "التقدمي الاشتراكي" الذي ظلل كمال جنبلاط به أنصاره وبرّأهم من وصمة الاسم المذهبي والطائفي. فأجاب الرجل: لم أتظاهر في عاليه لأن التظاهر هناك نزول على طلب جنبلاط وانضمام إلى جماعته، وأريد أن أتظاهر نزولاً على رأيي أنا، ومع أمثالي.

وقد يكون تعليل الشوفي عَلَماً على المتظاهرين وتظاهراتهم في أنحاء لبنان، وتفسيراً لانتشار التظاهرات في مدن المحافظات والمناطق والطوائف، وضوءاً على انقسام الجماعات المذهبية الكبيرة والمنظمة، وقيام بعضها المحتج والمندد على بعضها الآخر المنضبط والمتمسك بخط قيادته وسلطتها و "نظاميتها". فما لم تقسم المطالبة اللبنانيين وجماعاتهم الأهلية ورؤساءهم (قياداتهم) شطرين: واحداً محروماً ومغبوناً ومظلوماً ومن الدرجة الثانية، إلى آخر النعوت التي تُرفع منذ نحو قرن (هو عمر الدولة)، وآخر يتمتع بالامتيازات ويكيل بمكيالين ويقتطع الحصة غير المستحقة والأكبر لنفسه- وعلى هذه القسمة ومرادفاتها الاجتماعية والسياسية رست المنازعات-، وَسِع اللبنانيين الانفكاك من حلة جماعاتهم وجدرانها والتحرر منها بعض الوقت، على ما هي الحال اليوم.

وهذا ما حدس فيه اليسار المحلي وحدست فيه تياراته المتفرقة. ولكنها لم تقطف ثماره إلا في منازعات جزئية وموضعية، ولم تبلغ يوماً مقداراً ضئيلاً من سعة الحركة الراهنة والقائمة. وعند اندلاع أزمات وطنية عامة، لم يبخل بها نصف القرن الموشك على الانقضاء، ارتمت تيارات اليسار في مياه أهلية عكرة، تستّر على عكرها اختلاط المصالح وتضارب المعايير وانقلاب الجبهات. ولا يشبه اليوم البارحة من أكثر من وجه. ووجه الافتراق أو الاختلاف البارز هو خروج جماعات جزئية- من الشباب (من الجنسين)، والمتعلمين، والعاطلين عن العمل، وأصحاب المراتب الدنيا والمتوسطة من الإدارة والأعمال الخاصة-، واسعة على الأرجح، من عباءة جماعتها "الكبيرة" ورئاساتها (زعاماتها وقياداتها) الحاكمة أو النافذة. وبعض الخروج من الجماعات خروج على رئاساتها المكرسة والمتربّعة في سدة النفوذ والتحكّم المباشر في توزيع المنافع.

وخروج اليوم، القريب من الانشقاق الداخلي في معظم الأحوال، يعود إلى توحيد الجماعات الكبيرة، قسراً في أحيان كثيرة، في مرحلة طي الحروب الملبننة (1975- 1990) تحت عباءة اتفاق الطائف (1989)، في إطار الوكالة السورية الأسدية عن معظم القوى الإقليمية والدولية (تمهيداً لـ "حل" المسألة الفلسطينية). وتولّت "القيادة" السورية، بواسطة أحلافها الإقليمية والمحلية وصنائعها ووسطائها الجدد والمستجدين، وفي عهدة وحداتها العسكرية واستخباراتها والمنظمات المسلحة المختلطة، إلزام الجماعات الأهلية بالانضواء تحت "علم" مشترك يتولى رعاية مصالحها. وتُختصر هذه في حصتها من الريع، من غير التخلي عن انقساماتها العصبية وتكتلاتها المتنافسة.

فبرزت الجماعات الكبيرة والجماعات الفرعية المأذونة، ما عدا المسيحيين، في صورة كتل متراصة. واضطلع برصها وتوحيدها قادة لا يبعدون كثيراً من العصمة، ويستمدّون بعض هالتهم من عظمة المهمة التي أوكلت إليهم، وهي الحرب المقسّطة على مراحل على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وبعضها الآخر من خدمة قواعدهم و "شراء" تشردها وعوزها ودماء أبنائها بالتعويضات والترفيعات والدخول في طاقم سياسي واقتصادي واجتماعي جديد. ونُدب شطر من الشيعة إلى القتال و "التحرير" تحت لواء خميني إيراني. ونظّم الشطر هذا "مجتمع حرب"، و "مجتمعاً نقيضاً"، على قياس قتاله وحربه، وموّله قطبه ومرشده. ودخل الشطر الآخر، بعد أن جرّدته حرب المخيمات والاقتتال الأهلي في الفصل الأخير منها من سلاحه وقياداته العسكرية والتنظيمية، (دخل) "جنّة" الوظيفة والتوسّط.

وأُلحق رفيق الحريري في "مقاومة الإعمار"، على ما قيل يومها. ووُلّيَ، على هذا ولقاء موقع سني قوي على رغم تقييده، توظيف علاقاته الخليجية والدولية في عبور أو ضخ استثمارات (احتُسبت هبات إلى "لبنان المقاوم" ولوجهه) ضخمة إلى لبنان، وإلى "الوصي السوري" على "المقاومة" وعلى "الإعمار" معاً. وسمّى أحد الوسطاء الحال المرجوة هذه "سين سين". وافترضت سلطة الوصاية والاحتلال الشرهة أن ركن إدارتها ووصايتها واحتلالها هو الفصل القاطع بين السياسة والدولة- أي القيام بالحرب والقضاء في الصداقات والعداوات في علاقتها بالحرب، وبين "المجتمع"، وهو حقل الحاجات الحياتية ووسائلها من تناسل ومعاش وصحة وتعليم وسكن ونقل إلخ. أي الاقتصاد على أوسع معانيه.
فمن يتولى الحرب، أي السيادة والسلطة حصراً، لا يُسأل عن تدبير حقل الحاجات الحياتية. ومن يتولى التدبير الاقتصادي والاجتماعي يُسأل أولاً عن رعاية الحرب والمقاتلين. ولا يجوز له أن يتمتع برأي في المسائل السيادية. وعلى عاتقه وحده، في الظروف كلها- وربما تمادى أهل الحرب في التهور واستعداء الأعداء وخفض الجناح "للأصدقاء" الأوصياء المحاربين- تقع مهمات حماية سعر صرف الليرة، وتعديل ميزان المدفوعات، واستدراج الاستثمارات بالنقد الأجنبي، و "خلق" فرص عمل ووظائف، وزيادة إنتاجية الإدارات والمنشآت على حد سواء. وذلك من غير رفع سعر الفائدة على سندات الخزينة بعملة محمية بسعر صرف "خيالي"، ومن غير دولرة سندات الدين، ولا تأليف المصارف والصناديق الدولية وهيئات التقويم، ولا مراقبة النفقات. وفي الوقت نفسه يسع الحزب الخميني شن حرب "تحرير" أو حرب أهلية متى شاء وارتأى.

والحق أن رفيق الحريري رضي بـ "الصيغة" المدمّرة هذه. واختار القطب السوري الرجل بناءً على عقد فاوض عليه نافذون كثر. وربما عوَّل الحريري على "عقلانية" اقتصادية وإدارية شاع يومها، غداة تصدّع الاتحاد السوفياتي و "نموذجه" البيروقراطي، أنها تتمتع بقوة قاهرة و "نهائية". ولا علة لبقاء الجهاز السوري المتآكل والمتهاوي بمنأى من العقلانية المفترضة (والحقيقية في أطر أخرى). ولما بدا أن تعويله في غير محله، وأن القسمة السابقة بين السيادة وبين حاجات المجتمع لم تطوَ، وذلك على رغم انسحاب المحتل الإسرائيلي وإنجاز "التحرير"، وأن الحروب إلى تناسل بذريعة وبغير ذريعة، والمعارضة والمفاوضة من داخل مستحيلتان- إذ ذاك اغتيل الرجل. وخرجت القوات السورية وجلت عن الأراضي اللبنانية.

وتولى الحزب الحرسي إدارة "الملف" اللبناني من المحل السوري الأسدي. والمجتمع اللبناني، بديهة، جزء من "الملف". والحزب العتيد يجمع، على خلاف المحتل الذي خلفه، موقعين: موقع صاحب السلطة الداخلي وموقع المرجع الخارجي الذي أخلته القوات والاستخبارات السورية. وجزء من الموقع الأول "مجتمع" الحزب و "أهله" و "شعبه". والأعوام الثلاثة عشر، وقبلها الأعوام الستة، التي انقضت على حرب صيف 2006 وعلى الجلاء الإسرائيلي من قبلها، أضعفت تدريجاً الشرنقات والحواجز المذهبية التي أقرتها السياسة السورية، وجددها "تعاقد" نصر الله- عون في الأثناء، ولحاق سمير جعجع وسعد الحريري به.

ويستميت "الجهاز" الشيعي ومعه "الجهاز" المسيحي اليوم، في الدفاع عن فصله أقانيمَه، "التحرير"- "المقاومة"- "السيادة"، عن الأحوال السياسية (أركان التمثيل السياسي والمشروعية الوطنية) والاقتصادية التي ولدتها أقانيمه، وصوّرتها على صورة حاجاته. ويعترض بلوغَ الاستماتة هدفها احتدام المنازعات الإقليمية والدولية، وعصف الحروب الأهلية والاجتماعية في مجتمعات الجوار (وإيران الخمينية عامل قوي في انفجارها ومساراتها، وليس وحيداً). وفي الأثناء استنفدت القسمة الخمينية- الأسدية، وهي عميقة الجذور في التاريخ الإقليمي، شطراً عريضاً من معقوليتها وفاعليتها. فإعالة "الدولة" شعباً من "الزبائن" والموالي، يقوم منها مقام "عصبيتها" وبيروقراطيتها وجيشها، دونها (دون الإعالة) الأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتقاسمها الدول والأمم المعاصرة.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024