الجامعة الأميركية في بيروت: دفاعاً عن الالتباس

سامر فرنجية

الخميس 2019/06/06
منذ بضع سنوات، وفي ذروة صعود مشروع الهيمنة الثقافية لـ"حزب الله"، نشرت جريدة "الأخبار" عدداً من المقالات عن الجامعة الأميركية في بيروت، فصوّرتها كاختراق إمبريالي لمجتمع مقاوم، يجب تطويعه من خلال حملات مقاطعة وتأميم وتعريب. فالجامعة، بحسب تلك التحليلات، قلعة بورجوازية، طلابها آتون "من طبقة ارستقراطية أو بورجوازية"، "قليلاً ما يتكلّم هؤلاء العربية" ويجهلون مناطق مثل "الكولا، حي اللجا، الضاحية، أو حتى الجنوب". ويرتبط الطابع البورجوازي للجامعة، كما يدرك أي يساري، بدوائر رأس المال العالمية. فالجامعة، بحسب هذا الارتباط، تؤدّي دوراً تطبيعياً، يقدّم غطاءً ثقافياً لسيطرة رأس المال. إنها مجرّد "عامل مسرّع لتقبّل أفكار وأذواق ومفاهيم يسوّقها الاستعمار". لم تؤدِّ الجامعة هذا الدور فحسب، بل بدت مصرّةً عليه وعلى "تكريم صهاينة وبشكل متكرر" واستضافتهم "كل آخر شهر حزيران من السنة، بحجة الإنجازات الأكاديمية"، فضلاً عن التكريمات السرية لـ"جمع معلومات انتروبولوجية لغايات استعمارية عن أوضاع المخيمات الفلسطينية". وما دام هذا هو الواقع، فمن الطبيعي أن "يأتي يوم يتسلّم فيه شمعون بيريز دكتوراه فخريّة من تلك الجامعة"، هذه "الجزيرة الأميركيّة" أو "المستعمرة في قلب الوطن العربي". ولإقفال أي باب يمكن أن يتسلل منه بعض الالتباس، كان لا بدّ من التذكير بأنّ هذا المعقل البورجوازي فاسد، وغير قادر حتى على أداء دوره بطريقة شفافة، ذلك أنّ "الفساد ينخر جامعتكم" كما كتب أحدهم محذِّراً طلاب الجامعة.

لكن، كيف نواجه البورجوازية والإمبريالية والفساد والقمع والذكورية التي تنخر الجامعة الأميركية؟ تبدو الحلول، وفقاً لأولئك الكتّاب أنفسهم، بسيطةً تشبه تحليلاتهم السهلة. فلا بدّ أوّلاً من الانفتاح على المجتمع اللبناني وكسر "ثقافة الانسلاخ عن الداخل" وعملية "فرض الطلاب ذوقهم على المنطقة"، أي منطقة رأس بيروت. لكنّ هذا الانفتاح ليس إلا الخطوة الأولى ضمن سيرورة، هدفها النهائي ليس إلا التأميم، على الطريقة الإسكاندنافية كما يوضح الكاتب اليساريّ منعاً لأي التباس. فقد بات من الضروري "أن تصل ثورات الكرامة العربية الى الجامعة الأميركية في بيروت"، وهي كرامةٌ ثوريّة تستثني، بطبيعة الحال، الثورة السورية.

ليس هذا النقد للجامعة إلا عيّنةً من منطق كتّاب الممانعة وموقفهم من المؤسسات الثقافية التي لا تخضع لسيطرة فكرهم المقاوم. إنّه منطقٌ يخشى الالتباس ويرتاب من الحيّز المستقل للمؤسّسات الثقافية ويخاف من تعقيد التاريخ، ويرفع في وجه هذه الرمادية رايةَ وضوح السياسة وضرورة الإلغاء والمقاطعة والتأميم والخلع. ففي وجه الالتباس، لا بدّ من "طهارة" السياسة.


مرّ الزمن على هذا السجال القديم، وفشل مشروع الهيمنة الثقافية للممانعة، واستُبدل بمنطق السيطرة الأكثر ضمانةً للحكّام الجدد، والذي لا يحتاج تلفيقات بعض اليساريين من أجل صونه. بيد أن هذا السجال البائد، الذي يعود طيفه بين الحين والآخر بأشكال مختلفة، بات اليوم مدخلاً لطرح سؤال أوسع عن وضع الثقافة ومؤسّستها في زمننا الحاضر. فبعد مقالة نشرت في موقع "المدن" واتهمت الجامعة ببعض الإخفاقات، وردّ بعض الأساتذة موضحين حقيقة بعض الاتهامات والافتراءات، قدّمت الصديقة رشا الأطرش الرواية السياسية للدفاع عن الجامعة. وبعيداً من سجال الاتهامات والرد عليها، فإنّ ما يهمّنا هنا هو تلك الرواية التي يفترض بها أن تواجه خطاب الممانعة الذي، بحسب الكاتبة، "يلقي بظلال واسعة على النقاش الأكاديمي والطلابي الداخلي". بيد أن تلك الرواية، والتي ربّما كانت تصلح في لحظة ذروة المواجهة، أصبحت اليوم أقرب إلى ممانعة مقلوبة، تتصارع مع الخطاب الممانع على أرضية مشتركة، يجمع بينهما رفض الالتباس المكوّن للثقافة ومؤسّساتها.

تبدأ رواية المواجهة من جدلية الداخل والخارج ذاتها التي ينطلق منها خطاب الممانعة، وإن كانت تقلب المعايير رأساً على عقب. ففي خطاب الدفاع عنها، لا تكفّ الجامعة عن كونها اختراقاً خارجياً، لكنّه اختراق حضاريّ وتنويريّ، يقوم على التزام "قيم غربية تحترم الاختلاف والحريات والأفكار والحوار". ويقف هذا الاختراق الخارجي في مواجهة مطلقة مع الداخل المخترَق منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً، وهو داخل لم يبقَ فيه من تلك القيم الخارجية إلا "النزر اليسير". هكذا تبدو الجامعة في الروايتين أسيرة أصلها، من دون أن تنجح السنوات المئة والخمسون التي مرّت على وجودها في رأس بيروت في فكّ أسرها هذا.

والواقع أنّ ما يحرّك جدلية الداخل والخارج هذه، هو مبدأ التلوث والعدوى. فإذا كان هناك في رواية الممانعة خارجٌ أجنبي يلوّث الداخل الطاهر، فإنّ اتجاه العدوى يصبح معكوساً في الرواية المقابلة، إذ يتسلّل الداخل من فوق جدران الجامعة ليضفيَ جواً من "الديماغوجية" التي تتفاقم عند الطلاب والأساتذة على حدٍّ سواء. وتبدو الإشارات لهذا التسلّل عديدة، بحسب الكاتبة، وهي تتراوح بين "فهم مبسّط ومراهق للقضية الفلسطينية" و"مقارعة مجموعة من الأساتذة لإدارة الجامعة تحت عناوين معايير التوظيف وسلّم الرواتب وعقود تثبيت الأساتذة في مَلاك الجامعة" وتصدّي بعض التلاميذ "لاستضافة أكاديمي أميركي «تعاون» مع الجامعة العبرية" أو حتى "الاحتجاج على إلغاء إدارة الجامعة لاستضافة أكاديمي إيراني درءاً لمغبّة خرق العقوبات الأميركية". وإزاء تعدُّد هذه الإشارات وتنوّعها، يبدو أن أي اعتراض على إدارة الجامعة، في ظل هذه الجدلية، ما هو إلا انتصار لديماغوجية "الداخل" على منظومة "القيم الغربية" التي "تحترم الاختلاف والحريات والأفكار والحوار". بكلام آخر، لا يشكّل الاعتراض، في رواية الدفاع عن الجامعة، جزءاً من الاختلاف والحريات والحوار.

لكنّ التماثل بين الروايتين يذهب أبعد من الاتكال على الجدلية ذاتها، ليطاول الموقف من الغرب والريبة المشتركة من ترجمته في منطقتنا. فإذا كانت جماعة الممانعة تحذّرنا من التطبيع الكامن في النظريات الغربية والخطر من استيرادها إلى أراضينا الطاهرة، تقوم الرواية المقابلة على تحذير شبيه من استيراد نقد الغرب لذاته. فكما كتبت الأطرش، يتنامى في الجامعات ضمن الولايات المتحدة "جو أكاديمي يساري الهوى، مناصر لفلسطين، ونقدي لإسرائيل ومتربّص بالأداء «الاستعماري» الأميركي". وإذا كان هذا الجوّ حميداً هناك، كما توضح الكاتبة، فإنّ استيراده إلى أراضينا القابعة تحت وطأة الممانعة يحوّله إلى رديف للخطاب المحلي لـ"يسبغ مصداقية ومشروعية ما على ديماغوجيا أقرانهم اللبنانيين والعرب في الجامعة". فالغرب المتخيَّل في الروايتين، أشبه بالحليب الطازج الذي يفقد صلاحيته عندما يسافر، لينتهي بوجع بطن. 

أما الطلاب والأساتذة، فيسقطون في الروايتين في ثغرات هذه الجدلية. ففي رواية الممانعة، يشكّل الأساتذة والجسم الطلابي مجموعة من الضحايا الذين "لم يجرأوا حتى على انشاء نقابة تحميهم من قمع إدارتهم"، وهم يخافون من "أن «يعربش» بعضهم على جثث البعض الآخر، اذا ما رفع احد منهم صوته محتجاً". أمّا في الرواية المقابلة، فيتحوّل الأساتذة من ضحايا إلى "تربة مخصّبة بابتذال الأداء النقابي العمّالي" تشكّل خطراً على "مؤسسة أميركية غير ربحية، تشكل الهبات والتبرعات شرياناً أساسياً لبحوثها واستمراريتها". فالجامعة، في الروايتين، موجودة رغم أساتذتها وليس بفضلهم، تقوم بدورها التخريبي أو التنويري بمعزل عنهم. ليس هذا تفصيلاً صغيراً. فالطلاب والأساتذة، في تنوعهم واختلافاتهم ومساراتهم وتعاقبهم الجيلي، هم من يضفي بعض الالتباس على الجامعة. ولمّا كان الالتباس ممنوعاً في الروايتين، فعلى هذا الجسم الطلابي والأكاديمي أن يسقط من الرواية ويتحوّل إلى تربة من الضحايا.

تتصارع الروايتان حول الجامعة إذاً في جدلية مغلقة لم تعد تثير على الأرجح اهتمام قرّاء الصحف الورقية والإلكترونية. فلا تشكل مشاكل مؤسسة تربوية، حدثاً قد يهز البلد أو الجماهير. والجامعة، بعكس الفولكلورات المعتادة، ليست رسالة أو منارة أو اختراقاً أو عائلة كبيرة، بل هي مجرّد مؤسسة تربوية تشكل جزءاً مهمّاً من الحقل الثقافي اللبناني. وربّما كان هذا التوصيف يشكّل مدخلاً أسلَم للبحث في علاقة السياسة بالثقافة في زمن الممانعة ومعارضيها. ففي مقابل رواية الممانعة التي تريد تسطيح كامل مستويات المجتمع، تحت جرافة الصراع مع الغرب وضرورة إرساء ثقافة مقاومة، سقط معارضوها في فخّ معاكس يتشارك التسطيح ذاته في دفاعه عن الثقافة. ففي وجه أبلسة الغرب، رُفع الغرب نفسه إلى مستوى القيم الأخلاقية. وفي وجه الاعتراض الثقافي، قام دفاع مستميت عن صورة وهمية عن الثقافة. وفي وجه مناهضة الحداثة، رُوِّجت صورة نمطية للحداثة. إنّه صراع على أرضية مشتركة، حدّد معالمها الخصم الممانع.

منذ نهاية الحرب الأهلية، ساد دفعٌ دؤوب نحو القضاء على الأجسام الاجتماعية واختراق الحقول الثقافية العديدة، بغية تطويعها. وما وقوفنا اليوم عزّل أمام مشروع "حزب الله"، إلا نتيجة لذلك المسار. ربّما كان الأجدى، بدلاً من الدفاع عن الجامعة من خلال هذا الخطاب المعكوس، النظر إليها كأحد آخر الأماكن التي استطاعت المحافظة على شيء من الاستقلالية. وهذه الاستقلالية ليست نتيجة إرث تنويري وقيم غربية، بل هي حصيلة صراعاتها الداخلية ونقاشاتها وخلافاتها. بهذا المعنى، فإنّ الخلاف حول عقود التثبيت أو المطالبة بزيادة الرواتب أو النقاشات حول المقاطعة أو السجالات حول المناهج أو نشاطات الحركة الطلابية، هي ما تقدّم للجامعة، أو أي مؤسسة ثقافية، كثافتها المؤسساتية وحيزها المستقل. ولا تقوم حماية هذه الاستقلالية على مقارعة خطاب الممانعة التسطيحي فحسب، بل أيضاً على الحدّ من الضغوط القانونية والتدخلات الإدارية والسياسات الاقتصادية وتحكّم منطق السوق بالعمل الأكاديمي. يمرّ الدفاع عن الجامعة أيضاً من خلال حمايتها من دفاع يريدها رسالةً تنويريةً خاليةً من أي خلاف.

ليست الجامعة رسالة أو منارة خالدة. ربّما كانت ميزتها الأساسية هي أنّها مكان، أو بكلام أدق، لحظة زمانية تتعايش فيها أجيال مختلفة وتتعاقب عليها واحدة تلو الأخرى، لكي تضفي على مرور الزمن حسّاً ملموساً. ولهذا الإحساس بالزمن ميزة خاصة لمن يعايشه، وهو الإدراك اليومي بأننا ننتمي إلى جيل مرّ عليه وعلى صراعاته الزمن، وباتت خطاباته وحدودها غير قادرة على التقاط الحاضر. قد يكون، في هذا السياق، خطاب التخرّج الذي ألقاه الطالب كريم صفي الدين والذي انتهى بدعوة للتضامن مع طلاب الجامعة اللبنانية وأساتذتها مدخلاً أكثر رصانة للدفاع عن الجامعة من الروايات الثقافية عن دورها التنويري. فأن تكون متفوقاً في مجالك ونقدياً تجاه مؤسستك، مدركاً للامتيازات التي تقدمها وواعياً لحدودها، قادراً على الاعتراض على الخطاب الممانع وسياسات أخصامه، واعياً لإخفاقات مؤسستك ومحافظاً عليها، أو بكلام آخر، أن تكون كسرت جدلية الخارج والداخل لكونك خارجاً وداخلاً في آن واحد، هو أصلب دفاع عن مؤسسة ليست بحاجة أصلاً لأي دفاع. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024