عمر قدور
الخفّة في مقام الكلاسيك
يُروى أن صلاح جاهين أصيب بالكآبة الشديدة إثر نكسة حزيران1967، ما أبعده عن نوعية الكتابات الوطنية التي اشتُهر بها من قبل. على نحو أدق ربما، عُرف جاهين بإيمانه بالناصرية ومسايرته صعودها، قبل انكسارها على دفعتين، أولاً بهزيمة حزيران وتالياً بوفاة عبدالناصر. بحسب توصيفات تقليدية، راحت أشعار جاهين تنوس بين مجالين، التأمل والخفة. المثال الأبرز على الخفة الذي يستُحضر في هذا السياق، وأحياناً لا يُستحضر سواه، أغنية يا واد يا تقيل. ذلك قبل نحو نصف قرن من الآن، وهو زمن كافٍ ليضع الأغنية في مقام الكلاسيك، على الرغم من أن تقادمها لم يُثقّلها بالمعنى السمج للثقل.
قد لا تُكتب لأغنية سوى لمرة واحدة كلمات من نوع "عنده برود أعصاب اسم الله ولا جرّاح بريطاني"، أو "ويوقف ويقول: أنا هو أنا هو.. تمثال رمسيس التاني"، أو "ما تقولش أمين شرطة اسم الله ولا ديبلوماسي!". ثم تمرّ هذه العبارات بسلاسة تامة، مع أنها لا تنتمي إلى الكلام السائد في الغناء العاطفي؛ يا لمحاسن الخروج عن الناصرية! على هذه العبارات، التي اعتبرها البعض مبتذلة، وجّهت انتقادات إلى جاهين، فهي ليست بالعمق الذي يراه البعض في الرباعيات، وليست من نوع البساطة "الشعبية" المقبولة على غرار الحوار في أوبريت "الليلة الكبيرة". أحدهم انتقد جاهين، متأسفاً على انتقاله من "خلي السلاح صاحي" إلى "خلي بالك من زوز".
يقول الممثل حسين فهمي في حوار تلفزيوني أن كمال الطويل لحّنَ الأغنية وانتهى من اللحن في سهرة في بيت صلاح جاهين، جمعتْ سعاد حسني وحسين فهمي والكاتب والملحّن. ثم، فور انتهائه من إنجاز اللحن على البيانو في وقت متأخر ليلاً، اتصلوا بمدرس موسيقى ليأتي ويدوّن النوتة، لأن كمال الطويل لا يعرف التدوين. لم يكن الطويل وحيداً في هذه الصفة، فابن جيله "الشهير أيضاً" محمد الموجي كان لا يعرف كتابة النوتة رغم اتقانه العزف على العود منذ طفولته.
يعزّ على كثير من المختصين الاعتراف بمكانة هذه الأغنية، بوصفها أغنية فحسب. طبعاً من السهل ردّها فوراً إلى جنس الاستعراض، لتبقى لصيقة بالفيلم ولا تغادره، على الرغم من أن تلك الحقبة وما قبلها شهدا عدداً ضخماً من الأفلام التي كُتبت من أجل مطربين وأغنيات بقيت شائعة بخلاف الأفلام. أيضاً من السهل تبرير براعة سعاد حسني الصوتية في الأغنية بردّها إلى قدرات تمثيلية عالية "لا غنائية"، تتمكن بموجبها من السيطرة على طبقات صوتها وتلوينها بما يتناسب مع لحن لا يعتمد جملة موسيقية واحدة يسهل تكرارها.
وضعُ الأغنية على طاولة التشريح الموسيقية الباردة لا يجيب عن أسباب انتشارها فور عرض الفيلم، واستمرارها طوال نصف قرن بشعبية تفوق أغانٍ تصنّف في الطبقة الأولى لمطربي الطبقة ذاتها. مثلاً حظيت الأغنية، بأحد تسجيلاتها المنشور مؤخراً على يوتيوب، بأكثر من 400 ألف مشاهدة خلال أقل من أربعة أشهر وهو رقم يتفوق على أغاني مطربات ومطربين معترف بهم من الزمن نفسه موجودة على القناة ذاتها. على يوتيوب أيضاً، سنعثر على تسجيل لأغنيتها "مانتش قد الحب يا قلبي" وقد حظي بثمانية ونصف مليون مشاهدة خلال عشر سنوات، وهذا رقم يُعتد به رغم أن الأغنية الأخيرة لم تلتصق بسعاد حسني وبراعة أدائها كما هو الحال مع "يا واد يا تقيل".
في وسعنا التفلّت من معلمي الموسيقى الصارمين المتجهمين، والإعجاب بالأغنية على أهوائنا وعلى "نشازاتنا". لكن لا بأس إن أنصتنا إلى البعض منهم، ليحدّثنا عن التنقّل السلس الرشيق بين مقامات النهاوند والكرد والبيات. لا بأس إن أنصتنا من موقع "التحيز الأعمى"، واستعارة التعبير الأخير من البلاغة التقليدية تجد أفضل مكان لها هنا لكثرة ما استمع الناس إلى الموسيقى مغمضي الأعين، إذا تحاشينا الخوض في التحيز لنجمتنا وجواز أن يكون أعمى أو بأعين مفتوحة على اتساعها. في سياق متصل، نستطيع إغماض أعيننا أثناء الاستماع وتخيّل ما تعنيه "كده هو" في كل مرة تتكرر فيها في الأغنية، ونستطيع ألا نتخيل أية هيئة على الإطلاق بما أن رهان الأغنية في مواضع أخرى.
إذا أنصتنا بانتباه، نستطيع بلا مُرشد موسيقي اكتشاف قدرة سعاد حسني على التلوين الصوتي، بما يحتمل المبالغة والمرح أحياناً، وبما يحتمل الشجن الخفيف أحياناً أخرى، مع ذلك الفائض الحسي الذي يُبقي صوتها طازجاً حتى الآن. الكوبليه الثالث واحد من الأمثلة على المقدرة الخفية للصوت، وعلى انتشال العادي من أجل التسامح معه! من المرجح أن هذا الكوبليه بُني على مطلعه "أكلّمه بحرارة.. يرد بالقطّارة"، لتأتي بعده كلمات عادية جداً، لا صعود أو جديد فيها كما في "عنده برود أعصاب اسم الله" أو "ما تقولش أمين شرطة ولا ديبلوماسي" في الكوبليه الأول والثاني. إننا نلهو ونمرح ولا بأس بشيء من العادي، هذا ما تكاد تقوله لنا نبرة سعاد حسني الضاحكة في نهاية الكوبليه الثالث عند "ويوقف ويقول أنا هو أنا هو.. أطول واحد في الحارة". هنا واحد من مواضع المهارة العالية، فصوت سعاد حسني يأتينا كأنما يغالب ضحكة خفيفة، أو يسايرها بخفة أيضاً، وبشيء من التدقيق لا تخفى تلك الاستفادة المتقنة من مخرج حرف الحاء اللفظي، لتأتي النبرة الضاحكة بين حرفي الحاء في كلمتي "واحد" و"الحارة" كأنما المسافة بينهما هي بين قرار الضحكة وجوابها.
مقام سعاد حسني
لطالما جال في خاطري المثَلُ المعروف "الناس مقامات"، وهو كما نعلم متداول للدلالة على التفاضل والتفاوت بين الناس من حيث الجاه أو الثروة.. إلخ. للمثَل شطر ثانٍ لا أتذكره، وما كان يهمّني من الشطر الأول لو نظرنا إلى الناس كمقامات بالمعنى الموسيقي، حتى لقد فكرت فيما مضى بكتابة رواية ينطوي كلّ من شخصياتها على مقام موسيقي مختلف، وتحدثت عن الفكرة لصديق موسيقي، مستكشفاً ومتخوفاً من شطط فيها، فأجابني: طبعاً، الأمر هو كذلك؛ أنا أرى الناس هكذا، كل منهم على مقام موسيقي خاص. وأردفَ محذّراً من كتابة الفكرة، لما تحتاجه من خبرة عميقة في الموسيقا والكتابة معاً. تحذير لم أكن أحتاجه لاعتبر الفكرة مجرد خاطر طائش.
ثم إن احتجاز الأشخاص ضمن مقام فيه ما فيه من التنميط، رغم معرفتنا بإمكانية استنباط عدد لا نهائي من الألحان على كل مقام. ذلك لا يمنع وجود أشخاص، وشخصيات عامة أكثر من الأشخاص العاديين، في مقام اختاروه لأنفسهم، أو اختاره لهم إعلام أو نقّاد وارتضوه لأنفسهم بالتواطؤ الذي تتطلبه الشهرة. نستطيع مثلاً تخيّل نجاة الصغيرة من مقام الصبا، لكثرة ما وضعت على وجهها قناع الحزن والشجن حتى صار هو وجهها، كأنها بإصرار ودأب شاءت أن تكون من هناك. ربما تواطأت الظروف لتضع فاتن حمامة في مقام الراست، وقد استهوتها الرصانة وإظهار الاستقامة مثلما استهوت بعض الجمهور ونقاداً أطلقوا عليها لقب "سيدة الشاشة العربية". كما الصورة النمطية لمقام الراست تتضمن الاستقامة والانضباط الشديد والرصانة، ينبغي على السيدة، سيدة الغناء أو الشاشة، التحلي بالروح المعروفة عن المقام الذي يُوصف أيضاً بسيد المقامات.
نفتح جملة اعتراضية طويلة للإشارة إلى تراتبيةٍ في النظر إلى المقامات الموسيقية، تطل على نحو خاص عبر الثقافة المعادية للفرح والبهجة وما يتصل بهما من خشية الانزلاق إلى المتع. يتشارك في الخشية أيديولوجيون شموليون من مختلف الاتجاهات، ويتميز الإسلاميون بأنهم أكثرهم جهراً بها. على سبيل المثال، صارت مهمة القارئ القرآن أصعب من قبل مع صعود الإسلاميين بحساسيتهم الشديدة إزاء اللحن، فاللحن من وجهة نظرهم بهجة وغواية على حساب النص، مع أن جولة سريعة على يوتيوب ستُظهر لنا من زمن القرّاء الكبار تلك الشهرة الذائعة التي حظيت بها تلاوات مثل نهاونديات الشيخ محمد صديق المنشاوي أو الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، مع تلوينات لحنية من الروح ذاتها، والاستماع إليها قليلاً كفيلٌ بتوضيح الفرق بينها وبين التلاوات الجامدة المتجهمة التي يُراد لها الاستفراد بالساحة.
بخلاف لقب "السيدة"، ذي الوجاهة، لا يوحي لقب "سندريلا الشاشة" الذي أُطلق على سعاد حسني بمعنى واضح، لا اتفاق على دلالته عربياً كما هو الحال في ثقافات تعطف الدلالة على القصة المعروفة بهذا الاسم. هو، في سياق تجربة السينما المصرية، أشبه بجائزة ترضية لمن تستحق التصنيف في المقدّمة من دون أن تُحتجز في مقام السيدة وأغلاله. جانب من مزايا أغنية "يا واد يا تقيل" ما تكشفه لنا دفعة واحدة عن سعاد المغنية ببراعة، والممثلة بيسر يُنسينا أنها تمثّل أو أنها تبرع في التمثيل، والراقصة التي لا تحاول إظهار مهارتها بقدر ما تهدئ منها.
اجتماع المواهب هذا يستعصي على التنميط، وقد يكون "مؤرقاً" عندما نضيف إليه ما يظهر كتدفق حسي عارم يصعب ضبطه. نظلم سعاد حسني عندما نضعها في مصاف النجمات اللواتي نغدق عليهن بالمديح السهل، وبأسماء التفضيل التي جوّفَها مدّاحون نمطيون أيضاً. يليق بها البقاء بيننا بعفويتها، تتوعد بمرح ولهوٍ كل ما هو ثقيل، وعلى مقامها هي، المقام الذي لا يُنسب إلى مألوف ما سمعناه ورأيناه. يليق بسعاد حسني أن نغادر قليلاً المألوفَ، كأن نحتفي بها في ذكرى ميلاد صلاح جاهين.