وجيه غالي... "التطبيع القاتل"

محمد حجيري

الجمعة 2020/12/11
لا أدري إن كانت الشاعرة المصرية، إيمان مرسال، اختارت رواية "بيرة في نادي البلياردو" لوجيه غالي، لتقرأها وتترجم قسماً منها، بسبب أنها رواية مثيرة، أم لأن صاحبها انتحر. لا أدري أيضاً إن كانت تصح المقارنة بين انتحار عنايات الزيات (عطفاً على مقال "إيمان مرسال بين انتحارين أو أكثر")، التي كتبتْ عنها إيمان روايتها، أو وجيه غالي الذي ترجمتْ قسماً من روايته. فالتجارب مختلفة ومتباعدة، وإن ربط بينهما الزمن الناصري، طفولة معذبة يذكرها غالي كثيراً في كتاباته، وحياة قاسية عاشتها عنايات مع زوجها قبل الانفصال. 
بالمختصر، وبعض النظر عن الإسقاطات، أعادت إيمان مرسال تسليط الضوء على وجيه غالي، مصرياً وعربياً (وكذلك عنايات الزيات). كتبت أنها قرأت "بيرة في نادي البلياردو" في صيف 98 وكانت مهاجرة جديدة في مدينة بوسطن الأميركية... تقول: "لم يكن ممكناً أن أمارس الكتابة ولا حتى كنت قادرة على وصف ما أمر به بعيداً من القاهرة التي كنت أعدها مدينتي لأصدقائي. قرأتها في وقت كنت أحتاج فيه أن أقرأها لأفهم اغترابي في البلد الجديد، لا في ضوء نوستالجيا سهلة للوطن، لكن في ضوء تأصيل اغترابي الذي لم أفهمه كلياً عندما كنت أعيش فيه. بدأت بترجمة هذه الرواية ليس لأنها رائعة وحسب، لكن لأنها أحد الأعمال القليلة التي أشعر تجاهها بالامتنان. وقد ترجمت أكثر من نصفها بحماس، ثم بدأت أتشكك في موقعي كمترجمة وانشغلت بأشياء أخرى وتخوفت من أن تنضم إلى قائمة الأحلام التي لا تتحقق فاقترحت على صديقة تعرفت عليها عندما انتقلت لأعيش في كندا، أن تقرأ العمل وأن تترجم نصفه الآخر على أن نحرره كله معاً، وقد تحمست للمشروع، وكانت تجربة عمل مشتركة ممتعة".

لم تكن رواية غالي مجهولة، وإن كانت مهمشة (عربياً) باعتبار أنها صدرت بالإنكليزية، فالكاتبة المصرية أهداف سويف وصفتها بأنها "واحدة من أجمل الروايات التي كتبت عن مصر..."، كما حررت هدى الجندي كتاباً صدر عن قسم اللغة الانكليزية في جامعة القاهرة، يحتوي على دراسة عن الرواية، وهذا يعني بحسب ايمان مرسال، أن الرواية معروفة "على الأقل لبعض المثقفين والأكاديميين المصريين". وقد تعرّفت ايمان على عنايات على أحد أرصفة القاهرة، وكتبت عنها رواية، وقرأت رواية غالي في مدينة أميركية، وكتبتْ عنها مقالاً يرصد مسار أبطالها و"تعقيداتها سواء في ما يخص هوية شخصياتها أو تداخل الثقافات واللغات وأشكال السرد بها أو حتى في فهم تعقيدات قراءاتها حيث توضع الرواية في ضوء أدب ما بعد الكولونيالية حيناً، وكنموذج ممثل لكوزموبوليتانية ما قبل التحرر الوطني حيناً آخر".

لا ضرورة الآن لسرد مسار شخصيات رواية غالي، فقد كُتب عنها الكثير وصدرت في طبعتين وترجمتين بالعربية، أما قضية انتحاره فما زالت موضوع جدل لا ينتهي. فالروائي ابتلع في 26 ديسمبر 1968 علبة كاملة من الحبوب المنومة، في شقة الناشرة والكاتبة الانكليزية ديانا أثيل، ومات في إحدى مستشفيات لندن في 5 يناير 1969. ربما تكون هذه المعلومة الوحيدة الأكيدة التي نعرفها عنه، من دون أن يكون مصدرها كتابته أو تصور الآخرين عنه. بحسب ايمان مرسال، ترك غالي الذي يوصف بالشبحي، روايته الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو" ومسودتين بخط يده لرواية كان يعمل عليها في الشهور السابقة لانتحاره، فقد درس في "فيكتوريا كولدج" في الفترة من 1944 إلى 1947، كما أنه في يومياته وأثناء زيارة أحد أصدقائه- الممثل المصري أحمد رمزي للندن في سبتمبر67- يشير لصداقتهما منذ الطفولة وتزاملهما في الدراسة. تقول إيمان أنه، من يوميات غالي وروايته، وكتاب أثيل عنه المعنون "بعد الجنازة"، يمكن رسم صورة "غائمة لطفولة مشتتة بين بيت جده لأمه وبيوت بعض الأصدقاء. كان طفلاً وحيداً ولا يتذكر والده الذي مات باكراً. فقر والدة غالي لم يمنعه من الحياة ملحقاً على أسرتها الارستقراطية رغم وعيه بهذا التناقض. يذهب إلى باريس ليدرس الطب في السوربون، لكنه لن يحصل على شهادة، ويغادرها إلى لندن في مايو 53 ثم إلى مصر بعد انتهاء مدة جواز سفره المصري وخوفه من السجن لأنه ضرب ضابط شرطة انكليزي أثناء تظاهرة ضد العدوان الثلاثي العام 1956.

يعود غالي إلى القاهرة ويكتشف أن طبقته ما زالت تتمتع بنمط حياتها، رغم ثورة يوليو، وتبدو شخصية غالي مثل روايته، آتية من عالم هجين اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. وفي الجانب الاجتماعي، يبرز توازن وجيه غالي، الهش، فهو كان يسقط في الحب بسرعة تثير الدهشة، كانت العلاقة التي نشأت بينه وبين ديانا أثيل - كما وصفتها الأخير في كتابها "بعد الجنازة" - هي التي كشفت النقاب عن هشاشة وجيه. كان يحبها على طريقته (لم يكن يخاطبها إلا بقوله "يا حبيبتي")، ويشعر نحوها بدَين ثقيل لأن اعتماده عليها كان كاملاً. غير أنه كان ينفر منها جسدياً. ونشأ من ثم اشتباك أو صراع لم تدخر ديانا آثيل جهداً في وصفه، بكل ما فيه من تفاصيل مؤلمة. تروى ديانا أنه كان يسجل في يومياته، بدقة وصرامة، كل التفاصيل. بل انه كتب في يومياته، ذات مرة، وهو في وهدة اليأس، عما إذا كان الموت هو البديل الوحيد عن الشعور الدائم بالمهانة والذنب. ورأى أنه من السخف أن يكون الأمر كذلك؛ فباستطاعته أن يسترد كرامته فى أي يوم بأن يجد عملاً والبدء في كسب قوته. صحيح أنه يمقت العمل أشد المقت، لكنه ينبغي أن يعترف بأنه أقل سوءاً من الانتحار. وتساءل قائلاً: إذا كان باستطاعته إدراك ذلك، فلماذا لا يستطيع أن يعمل بمقتضى هذا الإدراك؟ لماذا لا يستطيع الاعتماد على نفسه؟ 

بلغ تأزم العلاقة بين وجيه وديانا أوجّه عندما أتيح لها أن تقرأ بعض يومياته أثناء غيابه عن غرفته. وجدته يكتب قائلاً على سبيل المثال: "لا جدوى من الكذب أو النفاق. لقد بدأت أمقتها (ديانا). أجدها لا تحتمل. صحيح أنني مريض. وجزء من هذا المرض، أو واحد من أمراضي... أن ردود أفعالي العقلية تتوقف على استجابتي الجسمية للأشياء. ومثال ذلك أنني أتحدث عن الحب، لكن الحب بالنسبة لي هو الرغبة الجسمية لا أكثر ولا أقل. وهو ما يفضي بي إلى أن تكون ردود أفعالي ناجمة عن نفوري الجسمي من ديانا. أنا أجد من المستحيل أن أكون في الشقة نفسها مع شخص يجعل جسمي ينكمش". وفي الوقت الذي كان يقيم علاقة جنسية مع نادلة في حانة، ربطته بديانا علاقة مركبة، فيها كثير من الأمومة والانتهازية، وقليل من الحب بل الكره المبطن، وكثير من الحرج بين من يقدّم الإحسان(الشفقة) ومن يتلقاه، فقررت ديانا تدوين كتابها "بعد جنازة" لتتخلص من التجربة ومن تراكمات العلاقة في وعيها بالكتابة عنها، كما صرّحت في حديث مع "الغارديان" قبل مدة.

أما المسألة الثانية الأكثر تعقيداً في مسار غالي، فكانت ميوله المبكرة نحو التطبيع، فابن العائلة الارستقراطية والمتشرّد والماركسي اليساري والانتهازي البائس، أقدم في العام 1967 على الانتحار السياسي... ففي شهر يوليو، في خضم تداعيات الهزيمة والحرب الاسرائيلية العربية، ذهب الى اسرائيل، اذ تعاقد مع صحيفة "التايمز" اللندنية على أن يكتب لها رسائل صحافية من اسرائيل، ونشر مقاله الأول في 10 أغسطس 1967، وقدمته الصحيفة باعتباره "قبطياً ملتحياً" وأنه "على يسار عبدالناصر، وأنه مناصر للسلام مع اسرائيل". كان سفره الى اسرائيل حدثاً مهولاً بين المثقفين المصريين، وتم التنديد به، ونُظر اليه كخائن، وسُحب جواز سفره (المصري) منه، ويقول بعض النقاد الانكليز انه راهن على أن سفره الى اسرائيل سوف يفتح أمامه الحواجز في أوروبا لحل مشكلاته، فقد تراكمت ديونه وفقد الرغبة أو الأمل في أي مستقبل. ولم يتحقق له شيء من ذلك، وانتهى به الأمر أن انتحر في العام 1968.

وتقول ديانا أن وجيه، في وصيته، أوصى بكتبه. كانت بداية الفقرة الأخيرة فى يومياته: «سأقتل نفسي هذه الليلة. آن الأوان. أنا بطبيعة الحال سكران. لكن لو أنني كنت مفيقاً لكان ذلك أمراً صعباً جداً جداً جداً... لكن ماذا عساي أفعل غير ذلك يا حبيبتى... لا شيء، لا شيء فى الحقيقة... كان لا بد أن يحدث ذلك يا حبيتي". ابتلع 26 قرصًا ثم هاتف صديقًا وترك رسالة انتحار: "كان من غير المحتمل أن يكون هناك رجل تعيقه كل الأشياء التي ارتكبت في حقه وهو طفل أعزل، حتى أنها جعلته حرفياً وتحديداً لا يحتمل نفسه. كان الجزء منه الذي يسميه عقله الذهني، يقف جانباً ليشاهد الجزء الذي يسميه عقله العاطفي. يشاهد ويحكم بلا طائل".

(*) أول نشر لغالي باللغة العربية كان فصولاً من روايته، في جريدة "أخبار الأدب" العام 2006، في ترجمة لإيمان مرسال وريم الريس. وفي العام ذاته، صدرت الرواية عن دار نشر "العالم الثالث"، بترجمة هناء نصير. ثم صدرت ترجمتان لغالي عن "دار المحروسة"، الأولى مجموعة قصصية بعنوان "الورود حقيقية وقصص أخرى"، وتضم سبع قصص في كتيب من 65 صفحة، والثانية "رسائل السنوات الأخيرة" في 304 صفحات، والكتابان من تحرير وترجمة وائل عشري. هذا الى جانب يومياته التي صدرت عن دار "الكتب خان".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024