خرافة الخوف من الورقة البيضاء

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/07/21
ثمة خرافة تتكرر في الحديث عن الكتابة وأوضاعها، ومفادها أن ممارسيها، وما أن ينتقلوا من التهيؤ لها الى الشروع فيها، حتى يخافوا من الورقة البيضاء أمامهم، وبفعل هذا الخوف، ينصرفون عن كتابتهم. بالتالي، تبدو الورقة البيضاء، أو معادلها الالكتروني، مصدراً للخوف، أو لما سماه ذات مرة أنتونان آرتو "الانهيار المركزي للروح"، وهذا، بسبب أنها تنطوي على أمر معين، يتعلق بلونها، أي فراغها. فممارسو الكتابة، وحين يتوجهون اليها، يصطدمون بهذا الفراغ، الذي يحثهم على السير فيه، على التقدم فيه، من دون أي علم مسبق بسبل وكيفيات الذهاب في ذلك، ما يحملهم على الخوف من هذه الرحلة الخطيرة، ومما قد يقعون عليه خلالها.

في النتيجة، الخوف من الورقة البيضاء أولياً هو خوف من الفراغ، وهذا ما يحيل الى تقديس المملوء، أو الكثير، المفرط، الى التعلق به، على أساس أنه علامة العيش في النعيم والرغد. فالخوف من الفراغ هو خوف من ترك المملوء، من خسارته، وبالتالي، من مبارحة جنته، لا سيما أن هذه المبارحة، وفي سردها الشائع، تكون مسبوقة بارتكاب خطيئة، أي تكون بمثابة عقاب. فالخوف من الفراغ، في هذا السياق، قريب من الخوف من الاتهام بارتكاب خطيئة، والخوف من المقاصصة في إثرها. ولهذا، الكتابة، ولكي تتحقق ممارستها، أو عندما تتحقق ممارستها، تنطوي على عصيان لأمر الهي، ولهذا، يصح القول أن كل دين، وفي علاقته مع الكتابة، ينطوي على العصيان نفسه أيضاً.

ربما، من الممكن هنا تعريف هذا العصيان بربطه بالفراغ، بكونه الايمان بما بعد الجنة، بلا-حدها، باللا-حد. وهذا الإيمان لا يتبلور إلا بتشييد الحد، بتشييده من أجل قطعه ("الحدود ضرورية لتخطيها"). على هذا المنوال، الخوف من الفراغ هو انعدام الايمان باللا-حد (واللا-احد أيضا) ، وبسبب ذلك، هو انقباض من بناء الحدود، ومن قطعها، من هذين الفعلين الذي يمكن عدهما من أحوال الكتابة.

على أن الخوف من الورقة البيضاء بما هو خوف من مبارحة الجنة يحيل الى الاستفهام عن المملوء: أين يقع المملوء؟

ذات مرة اعترض جيل دولوز على خرافة الورقة البيضاء تلك، بحيث أنه، وفي معرض حديثه عن الرسم، ميّز، وبالاقتباس من كانط، بين الـdatum والـfactum، أي بين- واذا صح التعريب، وعلى الأرجح لا- المعطى والصنيع. وفي اثر هذا التمييز، أشار الى ان الورقة البيضاء ليست بيضاء البتة، على العكس، هي ورقة طافحة، بماذا؟ كل المعطى، أي الأفكار المسبقة، الكليشيهات، الاحاديث، المقولات، الأحكام إلخ... كل المعطى في هذه الورقة. وبهذه الطريقة، الكتابة هي الصنيع، الذي من الممكن تلخيصه بكونه محواً، إزالة، تبديداً. فحين نكتب، فإننا نقدم على محو المعطى لنا، وهذا العمل، أي المحو، عويص للغاية.

بالارتكاز على اعتراض دولوز، من الممكن الإجابة على ذلك الاستفهام بأن المملوء يقع في الورقة البيضاء، أو أن الجنة تقع في هذه الورقة. بالتالي، الخوف منها هو خوف من مملوئها، من المعطى عبرها. وهذا ما يحمل على ملاحظة أنها، وبما هي موضع لمبارحته، لمحوه، ليست أمام ممارسي الكتابة، إنما هي في محل ثان، أي في خواطرهم. الورقة البيضاء لم تكن يوماً أمام هؤلاء، كانت دوماً خلفهم، في حولهم، تمسكهم، تقبض عليهم بالمعطى، فيتحررون منه بالصنيع، بالعمل.

على هذا المنوال، يتبدل معنى الخوف من الورقة البيضاء: من خوف من فراغها، الى كونه خوفاً من مملوئها، ومن كونها أمام ممارسي الكتابة الى كونها، وكجنتها، خلفهم. أما الكتابة، فبدلاً من أن تكون مالئة الورقة، تكون مبارحة لها، انتهاء منها. فما الكتابة اذاً؟ من الممكن الرد على هذا السؤال الفكاهي بأنها رمي للورقة البيضاء، التخلص منها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024