روجيه عوطة
لا يعطي ريشا شكلاً للحديد، لا يكرهه على إطاعته ليتشكل، بل إن الحديد، وعلى إثر متانته الهندسية، يحصل على شكله بواسطة إتقان النحات له. الإتقان مختصره نوع من التصادق بين الحديد ونحاته، وهذا التصادق يحمل طرفيه على جعل الشكل بمثابة مشتركهما، الذي يجمع بين حدية المادة ووقع لقاء الفنان بيده بها. بالتالي، الحديد ليس مجرد مادة ميتة، وسيط تعبير، يتلقى تشكيله من نحاته، بل إنه منخرط في هذا التشكيل، الذي وبدوره ينخرط النحات فيه، ليكون قصيدهما. وفي بعض الأحيان، يكون القصيد موارباً، وفي أحيان أخرى، يكون مباشراً. لكن، في الوضعين، يظل حاداً وجذلاً بلا أي تجمد فيه. فغالبية منحوتات ريشا تستوي على حركة كما لو أن شكلها لا يتغير من مرحلة إلى أخرى، بل إنه يتبدل في مطرحه أيضاً.
لكن الشكل الذي يبرز من الحديد نتيجة اتقان النحات له، لا منحى واحداً له، إذ يتحرك في سبل مختلفة: تكعيبي، وتركيبي، وتمثيلي. ومن الممكن الحديث عن هذه السبل على أساس تصادق الحديد ونحاته. ففي شروعه، يرسو الشكل على تكعيبه، ولما يصل إلى أوجه، يرسو على تركيبه، ولما يهمد أو يسكن، يرسو على تمثيله. وفي السياق نفسه، تكعيبياً، الحديد والنحات يتصادقان. وتركيبياً، ينقلان تصادقهما إليه ليزاوله بتجاوره مع غيره من المواد، أو في تحوله إلى ماكينة. وتمثيلياً، يسكن التصادق، وعندها، يأخذ الشكل صورة، مجسداً إياها، ليكون أداة زراعية، أو حيوان، أو مشهد من مشاهد العيش إلخ.
نظراً إلى صلته هذه بالحديد، وهي صلة وافرة، لطالما لقب ريشا بـ"أخوَت الحديد"، لا سيما أنه كان يقضي وقته مع هذه المادة في ورشته، محاولاً التعرف على احتمالاتها المتعددة. على أن هذا اللقب، الذي يريد وصف صلة ريشا بمادته، وكحال الوصف في خبر الوكالة الوطنية، ليس في محله أيضاً، فالنحات لم يكن مجنون الحديد، بل إنه صديقه، الذي يشعر بجنونه. وهكذا، صداقة أحدهم مع غيره، وعلى قول آخر العظماء في القرن العشرين، تفيد بأن الإثنين ينتبهان إلى جنون بعضهما البعض، وأنهما يحبان جنون بعضهما البعض. أما الفن، فهو أن ينخرطا معاً في تشكيله.
(*) تعرض "غاليري أليس مغبغب" عدداً منها كتحية إلى بولس ريشا (حتى نهاية الشهر الحالي).