آلان باركر: الجمهور أولاً

محمد صبحي

الإثنين 2020/08/03
هناك أسباب وجيهة لتذكر المخرج البريطاني آلان باركر، الذي توفي يوم الجمعة في مسقط رأسه في لندن عن 76 عاماً. يعود واحد من أجملها إلى بداية حياته المهنية: مذابح فطائر الكريمة في أول أفلامه الطويلة. هذا قد يكون أول ما يتبادر إلى ذهن مُشاهِد غربي، لكن في الجانب الآخر من العالم لا تخلو أي كتابة عربية تمسّ آلان باركر من الإتيان على ذكر فيلمه "ميدنايت إكسبريس" (1978) والجدل المرافق له وقت صدوره. جانب من ذلك يعود إلى شهرة الفيلم وحصده حفنة من الجوائز الأعلى صخباً (جائزتي أوسكار وستّ جوائز "غولدن غلوب" وأربع جوائز "بافتا"). لكن الأساس في تلك الإشارة المتكررة للفيلم يعود إلى موضوعه ونبرته في رواية أحداث حكايته، فرأى فيه كثيرون مبالغة غربية وتحاملاً ليس على السلطات أو الدولة التركية وحدها، بل الإسلام في عمومه.


يروي "ميدنايت إكسبريس" القصة الحقيقية لبيلي هايز، شاب أميركي ذهب العام 1970 في رحلة إلى تركيا واستحوذت عليه فكرة مجنونة بأن يأخذ معه بضعة أرطال من الحشيش كتذكار. خبّأ الحشيش تحت ملابسه، لكن السلطات التركية ألقت القبض عليه. يقدّم الفيلم سجلاً واضحاً ومفصلاً عن المحنة الجسدية والنفسية والعاطفية والقانونية التي كان على هايز تحمُّلها لاتخاذه قراراً خاطئاً في الوقت والمكان الخاطئين. استند الفيلم على رواية هايز للأحداث، كما وثّقها في كتاب نشره بعد ذلك، شكّلت الجوهر الأساسي للسيناريو الخلافي الذي كتبه أوليفر ستون، وكتب كذلك شهادة ميلاد ممثل واعد هو براد ديفيس، الذي أصيب بفيروس نقص المناعة البشرية في عام إصدار الفيلم نفسه، وتوفي العام 1991 في سن الـ41.

بسبب الفيلم، توترت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا بعد عرضه الأول في مهرجان "كان" العام 1978. وربما كانت النبرة الشديدة للفيلم بسبب أوليفر ستون، الذي كان يحاول إثبات نفسه في هوليوود كمتخصص في قضايا الشرق الأوسط أو ما شابه، بدلاً من تمتين علاقته بشخصياته ورسم أبعادها بشكل أفضل. هايز، من ناحية أخرى، ما زال على قيد الحياة، وفي العام 2007، عاد إلى تركيا، حيث اعتذر علناً عن الصورة السلبية والنمطية التي قدّمها الفيلم استناداً إلى تصويره الشعب التركي في كتابه.


اكتسب باركر، المولود لعائلة من الطبقة العاملة في إحدى البلدات شمالي لندن، أولى خبراته في مجال الإعلان والدعاية. الصناعة الوحيدة التي عهدت إليه بكاميرا في ذلك الوقت، كما أخبر "نيويورك تايمز" في أوائل الثمانينيات. على ذلك، يمكن القول إنه كان "صنائعياً" سينمائياً، وليس صانع أفلام. يعرف كيف يقدّم حكاية جيدة ومؤثرة، مستعيناً بالتاريخ أو الموسيقى. لم يتوافق مع نهج أقرانه المحبين للفنّ، وبالتالي لم يرغب في الارتفاع فوقهم أو مقارنة نفسه بهم. أخذَ جانب المُشاهِد معلناً حبّه لأفلام النوع ومدللاً في الوقت ذاته على ذلك عملياً بالانتقال طوال مسيرته بين أمزجة وبيئات سينمائية مختلفة كثيراً. أراد فنّاً شعبياً، على قدر من الجودة الفنية والتقنية، يوظّف كل ما من شأنه جذب الجمهور وإثارة انتباهه. ربما يكون هذا أكثر وضوحاً في فيلمه الأكثر شهرة، "بينك فلويد – ذي وول". فعلى عكس مواطنه ريتشارد ليستر، في أفلامه السوريالية مع فرقة البيتلز، فإن باركر المخرج، يختفي، حرفياً، خلف صورة العقلين المدبرين لبينك فلويد، روجر ووترز وديفيد جيلمور.

ومثل ستون، ابتدأ باركر مهنته السينمائية لأول مرة، ككاتب سيناريو، وذلك في الكوميديا الدرامية "ميلودي" (1971، وارث حسين) الذي يروي الرومانسية العاطفية والبريئة بين ميلودي ودانيال، وهما مراهقان تأخذهما حماسة الصبا وثورية أغنيات البيتلز فيعلنان لأسرتيهما نيتهما الزواج، هنا والآن. في مواجهة إنكار الوالدين، والذي يتضمن بالطبع بعض الضربات، يتخذ المراهقان قرار الهروب معاً، مما يؤدي في نهاية الفيلم إلى ختامية أيقونية. ورغم الرقة الفائضة على القصة، يتضمن السيناريو بعض المشاهد تصوِّر العنف الذي تعرَّض له الأطفال في ذلك الوقت على أساس يومي، ليس فقط في منازلهم ولكن أيضاً في إطار المؤسسات التعليمية. نهج سيعود إليه باركر لاحقاً في فيلمه الغنائي مع فرقة الروك الإنكليزية "بينك فلويد" في فيلم "بينك فلويد - ذي وول" (1982).

أحد الأنواع التي تناولها المخرج البريطاني أكثر من غيره في فيلموغرافيته، هو أفلام الموسيقى الغنائية (الميوزيكالز)، الموجودة في خمسة من أفلامه الروائية الـ14. من ضمنها، إلى جانب فيلم بينك فلويد السابق ذكره، يجب أن نذكر "فيم" (1980)، الذي مدّدت شعبيته من عالمه وحياته في سلسلة تلفزيونية من ستة مواسم، و"ذي كوميتمنتس" (1991)، و"إيفيتا" (1996)، المستند إلى مسرحية موسيقية ألّفها لويد ويبر وتيم رايس واضطلعت بدور البطولة فيه مغنية البوب مادونا في دور إيفا بيرون (ممثلة أفلام الدرجة الثانية والسيدة الأولى للأرجنتين لاحقاً). وبالطبع فيلمه الأول "باغسي مالوني" (1976).

كما في "ميلودي"، دشن باركر مسيرته الإخراجية بخلق عالم طفولي جذّاب، لكن هذه المرّة بقصد أكثر مرحاً. إنها قصة عصابات تحتوي على جميع العناصر المحدّدة لهوية هذا النوع الفيلمي، لكن هنا تلعب دور البطولة مجموعة رائعة من الممثلين الأطفال يحملون بنادق تطلق قنابل الكريمة والحلوى. يشمل الطاقم التمثيلي الطفلة جودي فوستر، التي كانت في سن الثالثة عشرة قد لعبت بالفعل أكثر من 35 دوراً في السينما والتلفزيون، بما في ذلك المومس المراهقة في "تاكسي درايفر" (1976، مارتن سكورسيزي). كانت لدى فوستر تجربة هائلة لدرجة أن باركر نفسه قال إنه حتى إذا مرضَ أثناء التصوير، "فبمقدور الفتاة الاعتناء بكل شيء بهدوء".

ويُقال إن باركر أدار طاقم الممثلين، الذي بلغ متوسط أعماره 12 عاماً، بحزم وصرامة، وأحياناً انتهى الأمر ببعض الممثلين والممثلات الصغار بالبكاء، ودُفعوا إلى أقصى الحدود بحثاً عن النغمة المناسبة لأحد المشاهد. تلقّى "باغسي مالوني" ترشيحاً لجائزة أوسكار في فئة الموسيقى التصويرية، من تأليف بول ويليامز، رغم أنه في جميع أغنيات الفيلم استبدلت أصوات الممثلين الصغار بآخرين بالغين ومحترفين.

انتهت السبعينيات بشكل جيد مع باركر، حيث حصل على أول ترشيح لجائزة الأوسكار عن عمله في "ميدنايت إكسبريس". ثم ذهب للعمل في هوليوود، واستمرت الثمانينيات على المسار نفسه، بدءاً من "فيم" (شهرة) الذي دشّن نجاحه "ترينداً" معيّناً حينها. لم يكن "فيم" فيلماً جيداً، لكنه حقق نجاحاً تجارياً هائلاً وأحبّه الجمهور، وهكذا شهدت السنوات القليلة التالية صعود نجم الأفلام الموسيقية الشعبية، مثل "فلاش دانس" (1983، أدريان لاين) و"فوت لوز" (1984، هربرت روس) و"ديرتي دانسينغ" (1987، إيميل أردولينو)، والتي أصبحت مكوناً قياسياً من مكونات المشهد السينمائي في ذلك العقد. يمكن لعشاق سلسلة "Glee" و"Shake It Up" أو أفلام "High School Musical" تتبُّع بدايات هذا النوع (أفلام وسلاسل المراهقين) بالعودة إلى عمل باركر هذا تحديداً. في العام 1982، قبل أربعة أشهر من عرض "ذي وول" في مهرجان "كان" السينمائي، صدر فيلمه "شوت ذي مون" من بطولة ديان كيتون وألبرت فيني، وهو دراما رقيقة عن سعي امرأة لإبقاء رأسها فوق الماء وإعالة أطفالها بعد تركها زوجها.

بعد ذلك بعامين، ظهر "بيردي"، قصة صداقة بين شابين عائدين من حرب فيتنام، لكن أحدهما بدأ يفقد عقله، بسبب هوس الرغبة في أن يصبح طائراً. البطولة لماثيو مودين (الذي سيتعرَّف عليه الجيل الأصغر سناً لدوره في الموسمين الأولين من سلسلة "سترينجر ثينغز") ونيكولاس كيج. يتشارك الفيلم أيضاً عناصر مع عالم "ذي وول"، كخطابه المناهض للحرب، ومقاربة الاغتراب الإنساني والتمثيل العنيف لمؤسسات الصحة النفسية. تفاصيل سمحت للمشاهدين في ذلك الوقت ببناء جسور تآلف بين الفيلمين.

في العام 1987، صدر واحد من أفضل أفلامه: "أنجيل هارت". فيلم إثارة بوليسية مع عناصر خارقة للطبيعة، حيث يتم توظيف المحقق الخاص هاري أنجل (ميكي رورك في عصره الذهبي) من قبل رجل غامض (روبرت دي نيرو)، للتحقيق في اختفاء مغنية. الطريف أن باركر قال عن أداء دي نيرو (الذي قال الممثل أنه اتبع فيه منهج صديقه مارتن سكورسيزي) إنه "كان واقعياً بشكل شيطاني" لدرجة أنه فضَّل عدم التواجد في موضع التصوير خلال مشاهده، تاركاً الممثل لتوجيه نفسه.

تكريسه الحاسم كمخرج كبير جاء مع العرض الأول لفيلم "ميسيسيبي بِرنينغ" (1988)، وهو دراما بوليسية مستندة إلى أحداث حقيقية تناول فيها العنصرية في جنوب الولايات المتحدة في الخمسينيات. رُشّح الفيلم لسبع جوائز أوسكار، بما في ذلك أفضل مخرج، أفضل ممثل (جين هاكمان)، أفضل ممثلة مساعدة (فرانسيس ماكدورماند)، وفاز فقط بجائزة أفضل تصوير سينمائي، وذهبت إلى بيتر بيزيو، الذي عمل معه باركر في فيلميه القصيرين الأولين ("فوتستبس" و"آور سيسي"، وكلاهما من عام 1974)، و"باغسي مالوني" و"ذي وول"، والذي سيعود للعمل معه على "ذي روود تو ويلفيل" (1994).

يستند الفيلم على حادثة مقتل ثلاثة نشطاء في مجال الحقوق المدنية من قبل أعضاء المنظمة العنصرية كوكلوكس كلان والتحقيق اللاحق من قبل عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي لكشف ملابسات الجريمة. يرسم الفيلم صورة صارخة للمجتمع الأميركي، من دون تجنب المشاهد الدرامية الصريحة التي أتقنها باركر. القمع الذي استمر قروناً بحق الأميركيين السود في ولايات العبيد السابقة، ووحشية السادة البيض، يحضران في مشاهد آلان باركر الجذرية التي لم تفقد أياً من تأثيرها بمرور السنين. مثال واحد يكفي لبيان وحشية الفيلم. في حفل توزيع جوائز الأوسكار، حيث يرافق إعلان المترشحين لنيل الجوائز مقطع قصير من الفيلم الذي شاركوا فيه، كانت معظم المقاطع التي رافقت ترشيحات طاقم "مسيسيبي بيرنينغ" محمّلة بمشاهد عنيفة، وعلى إثر ذلك، أعلن هاكمان أنه لم يعد يريد المشاركة في أفلام يلعب فيها العنف دوراً بارزاً. لذلك رفض أن يكون جزءاً من فيلم "ذي سايلانس أوف ذي لامبس" (1991، جوناثان ديم"، كما كاد أن يكلّفه فقدان دور الشريف في فيلم "آنفورجيفن (1992، كلينت إيستوود)، والذي قَبله على مضض بعدما أقنعه إيستوود، حاصداً بهذا الدور أوسكاره الثانية. 


في التسعينيات، أصبح عمله معروفاً على نطاق واسع، خاصة في النصف الثاني منها. في "كم سي ذي باراديس" (1990)، 1990) يعود باركر، بفيلم مستند إلى نصٍّ له، إلى أحد هواجسه: الحرب. ثم يأتيه النجاح مع "ذي كوميتمنتس" (1991)، الذي عاد من أجله إلى بلده، محدثاً مفاجأة العام بكوميديا موسيقية من دون نجوم حول مجموعة من الشباب في دبلن يسعون لتأسيس فرقة لموسيقى السول على طريقة الفنانين الأميركيين السود في الستينيات. تأثر باركر بشكل واضح بدراما الطبقة العاملة لمواطنه مايك لي، لكن الفيلم عاش على محبة الجمهور لموسيقى وفنّ أوتيس ريدينغ وأريثا فرانكلين وويلسون بيكيت. موسيقى الفيلم وأغنياته أكثر نجاحاً من الفيلم نفسه. فيلمه التالي، "ذي روود تو ويلفيل" (1994)، يعالج بنبرة كوميدية شخصية الدكتور جون هارفي كيلوغ، مبتكر رقائق الذرة الشهيرة، الذي لعب دوره أنتوني هوبكنز. سينتهي العقد بدراما "رماد آنجيلا" (1999). منذ ذلك الحين، لم يصوّر باركر سوى فيلم يتيم يستند إلى أحداث حقيقية، "حياة ديفيد غيل" (2003)، حيث يلعب كيفين سبيسي دور رجل محكوم عليه بالإعدام.

ربما لم يكن باركر سينمائياً عظيماً، لكن موته يحرم السينما من فنان كان يعرف متى يكون أنيقاً، عاطفياً، رقيقاً، وحشياً. وهذا ليس بالشيء الهيّن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024