"شفاء الأحياء": كيف تتحول الفاجعة إلى مكسب؟

أحمد شوقي علي

الخميس 2020/08/13
كيف تُقيَّم الفاجعة؟ قد يبدو السؤال وقحًا، لأن أي محاولة مادية للتقييم ستطرح في طياتها احتمالية المكسب. والفاجعة كصيغة لغوية فردية، تسمو على عمومية ما تقصده "الكارثة"؛ مصيبة مؤلمة توجعُ الإنسان بفقد ما يعزُّ عليه! 


إن انفجار مرفأ بيروت، مثلاً، لا تصح تسميته كارثة، لأنه وإن ضرب المدينة كلها، فقد استهدف قبل بناياتها، المواطن فردًا، وأفقده أعز ما يمكن له أن يمتلك؛ إحساسه بالأمان وباحتمالية الحياة، لذلك لم يخلف انفجار نيترات الأمونيوم في الميناء شعورًا جمعيًا بالتضامن، وإنما شعورًا فرديًا بالخسارة، يصبح معه أي اقتراح للمكسب، إن وجد، دربًا من دروب الوقاحة، أو بصيغة أخرى: القسوة، والأخيرة تحديدًا ما تختبره الروائية الفرنسية مايُليس دو كِرَانجال في عملها المترجم إلى العربية حديثًا "شفاء الأحياء"*.

لا ترصد دو كِرَانجال حدثًا ضخمًا، وإنما حادث سير عادي راح ضحيته شاب في عمر التاسعة عشرة، تحول على إثره إلى متبرع محتمل بالأعضاء. لكن القصة التي قد تبدو في صورتها العامة نمطية، تحولها الروائية الفرنسية إلى اختبار للقسوة؛ أن تمنح فاجعتك - عن طيب خاطر - إلى آخر ليستمد منها وسيلته الوحيدة للنجاة، عبر عملية مادية يتورط خلالها جميع أبطال الرواية، ليس المانح أو المستقبل فقط، وإنما القائمون على إجراء نقل الأعضاء كلهم، وكأنها عملية تجارية وإن كانت نبيلة تقايض الموت بالحياة.

عندما يرى أهل سيمون ليمبر، أبوه وأمه، ابنهما الذي توقف عقله عن العمل، يرقد في سرير العناية المركزة، والممرضة تسأله - كما لو كان على قيد الحياة - قبل أن تفتح له النافذة، أو تعدل من وضعية رأسه على الوسادة محاولة قياس نبضه أو درجة حرارة جسده، فإن كل فكرة عن سباته القائم تتلاشى لتحل بدلاً منها القصص المعروفة عن العائدين من الغيبوبة، وعن الذين ماتوا ودفنوا ثم اتضح أنهم على قيد الحياة، مثلما كان يحدث قديمًا في إنكلترا وابتكروا بسببه ممارسة جنائزية، أن يمرروا "حلقة في أصبع الشخص الذي سيدفن، موصولة بخيط رفيع يسمح بتفعيل جرس صغير على السطح إذا حدث أن استيقظ تحت الأرض"، كما تشير رواية "ماري هيجينز كلارك" (منزل ضوء القمر) التي يحتفظ بها "بيير ريفول" الطبيب المشرف على حالة الفتى في مكتبه، والذي بسبب ذلك الإرباك الطارئ، سينتحي جانبًا بالممرضة ليعنفها: لا يصح أن نكلم الموتى باعتبارهم أحياء، خاصة أمام ذويهم، وفي مثل تلك الظروف؛ إن المشهدين اللذين تضع الكاتبة القارئ في خضمهما، يجسدان اختبار القسوة، وفداحة التقييم المادي للفاجعة، الذي يحولها إلى مقايضة نبيلة ومنحطة في آن. 

إن والدَي سيمون ليمبر، كانا يتحدثان عن ابنيهما بصيغة الحاضر، أعياهما سؤال "توما" الممرض المسؤول عن ملف نقل الأعضاء، إن كان ابنهما في حياته كريمًا أم بخيلًا، كي يستدرجهما إلى اتخاذ قرارهما بالموافقة على نقل أعضائه. ومثل ذلك التصرف اللئيم، تبدو كل النوايا الطيبة لإقناع الأبوين بضرورة نقل الأعضاء لإنقاذ آخرين على شفا الموت من دون أجهزة ابنهما الحيوية، لكن الأبوين يتحولان أخيرًا إلى صيغة الماضي في الحديث عن طفلهما، يدخلان مع الممرض في فصال حول أي الأجهزة التي يمكن أن يتخلى عنها جسده الميت، يحركهما رعبًا من منظر ابنهما وقد تجوف جسمه بعد انتزاع أعضائه، وهو رعب لا يخفف من وطأته تعهدات الممرض بترميم الأطباء للجسد بعد انتزاع أعضائه، ليبدو ممتلئًا كما كان في سابق عهده، فيصران على عدم التفريط في عينيه. 

تحشد الروائية الفرنسية، الحائزة جوائز أدبية عديدة، عملها بتفاصيل كثيرة، عن كل الشخصيات الذين أخضعتهم لاختبارها، وتؤسس بنيتها السردية على جُمل اعتراضية طويلة تنفذ عبرها من الحدث الرئيس إلى حيواتهم الشخصية، كل على حدة، وكأن ذلك التكريس لازدحام الحياة وامتلائها بالتفاصيل، هو ما يزيد من وطأة الفاجعة الرئيسة، ويعرض شخصيات الرواية الآخرين كلهم إلى فاجعة مماثلة، وإن كان بصورة معكوسة، إن هم سلبت من واقعهم تلك التفاصيل، وكأن ثمة خسارة واقعة وأخرى محتملة، وكأن الجميع ينتظر دوره لمعايشتها، وكأنهم جميعًا نبلاء مكلومون. 

في اختبار القسوة الذي تفترضه دو كِرَانجال، لا مكسب في الحقيقة، فالفاجعة ليست إلا خسارة لا نهائية، لا يتحقق الشفاء منها إلا بإعادة المسلوب، الذي وإن كان مستحيلًا، فإنها تحاول إدراكه مجازيًا، عندما تجعل "توما" يذيع صوت البحر (معشوق سيمون الأزلي) في أذن الشاب الميت بعد ترميم جسده، قبل أن يشيعه بأنشودة جميلة عبر صوته العذب، ثم تترك الأحياء يدفعهم إلى العيش مآسيهم وأفراحهم على السواء، تفاصيل الحياة التي تمنح الكلمة لسيرورتها وتمنح أرواحهم الشفاء. 

(*) صدرت الرواية عن دار آفاق بالقاهرة، بترجمة لراوية صادق، غير أن ثمة مشاكل تعتري تلك الترجمة، التي قد تُصعب قليلًا من استيعابها، في ظل بنائها المركب، نظرًا لورود عدد من الأخطاء الإملائية والنحوية في بعض أسماء الإشارة والضمائر، فيبدو إنها كانت في حاجة لإعادة تحرير أو مراجعة تقوم بها المترجمة أو دار النشر، والتي ربما قد لا يتحقق دون ضبطها قصد الكاتبة من عملها بصورة متكاملة... تقول مايُليس دو كِرَانجال على لسان الراوي في "شفاء الأحياء": "يستعد هو للكلام مثلما يستعد للغناء، يجعل عضلاته تسترخي، يضبط تنفسه، مدركًا أن علامات الترقيم هي تشريح اللغة، بنية المعنى". 

(**) مايُليس دو كِرَانجال: كاتبة فرنسية من مواليد 1967، ولدت في مدينة طولون وأقامت في الولايات المتحدة وأسست دار نشر متخصصة في كتب الأطفال، وقد حصلت على العديد من الجوائز وترجمت أعمالها إلى قرابة عشرين لغة، وقد حصدت روايتها "شفاء الأحياء" عشر جوائز وتم تحويلها إلى فيلم وإلى مسرحية. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024