موارنة القرن الـ19: أفراحهم وأتراحهم بعَين رحالة فرنسي

جوزف بدوي

الخميس 2020/09/03
كُثُرٌ هم الرحّالة الأوروبيون الذين زاروا منطقة الشرق الأوسط ولبنان خلال القرن التاسع عشر. الفرنسيون منهم كانوا في الطليعة، حرّكتهم رغبات باكتشاف هذا الشرق الساحر وإطلاق العنان لهواجس أصابت أحيانا وبالغت أحيانا أخرى.

بين الكتّاب الرحالة المهووسين بالشرق مَن كانوا ذائعي الصيت وكباراً مثل فيكتور هوغو ولامارتين وشاتوبريان، وبعضهم الآخر بقي مغموراً فاقتصرت أعماله على نشر مقالات في دوريات فرنسية، او إصدار كتاب يتيم لم يأخذ حقه من الانتشار.

الكاتب الرحالة اف. بارت هو واحد من الكتّاب الذين لم يحظوا بشهرة الكبار، ولم أعثر له سوى على كتاب واحد من 239 صفحة صدر في مدينة ليموج الفرنسية العام 1883، خصصه لمنطقة جبل لبنان وللموارنة تحديداً، بعنوان "مشاهدات ولوحات من الحياة الراهنة في الشرق – جبل لبنان".

كاتب مقدمة كتاب بارت، كزافييه مارمييه، يبدو أشهر من صاحب الكتاب نفسه، فهو أستاذ جامعي فرنسي مرموق تسلَم وظائف رسمية ودخل الأكاديمية الفرنسية لينضم الى "الخالدين" العام 1870. يقول مارمييه في مقدمته للكتاب عن بارت: "عندما قرر التوجه الى لبنان لم يكن يدّعي السعي لكتابة ألياذة شعرية ولا لتأليف كتاب علمي... سافر تحرّكه رغبة داخلية جامحة بالتجول في هذه الجبال، مدفوعاً بمشاعر مسيحية عميقة وفضول صادق. حمل عصاه وجال في مناطق وعرة، فتنقل بين وديان عميقة وجبال شاهقة، ليزور قرى صغيرة وأخرى كبيرة تبدو كأنها حدائق معلَقة على حوافي الجبال".

يتابع مارمييه عن بارت: "كان يراقب ويسأل ويستمع الى سكان هذه المناطق قبل أن يدوّن بشكل صادق ما يشاهد ويسمع. لقد وضع كتاباً جيداً ونقل مشاهداته بأمانة، وقدّم في النتيجة رواية أمينة لرحلة قام بها وركز فيها على تفاصيل عادات الموارنة وتقاليدهم".

واللافت لدى الكتّاب الأوروبيين الذين غامروا بزيارة الشرق، رغم الإعتبارات الأمنية وأخطار الأوبئة، أنهم كانوا يكتبون بأسلوب مباشر وصريح بعيداً من المجاملات والتوازنات، خصوصاً أن من سيقرأ كتبهم من سكان الشرق لن يكونوا كثيرين. فالكاتب الفرنسي مثلاً، المدفوع بإيمان كاثوليكي، قد يمدح الموارنة بشكل خاص، وقد يصف الأرثوذكس والأقباط بالهراطقة، كما لن يتورع عن مهاجمة المسلمين والإسلام، أو الكلام عن "مجموعات مسلحة من المتاولة" في هذه المنطقة أو تلك.

لكن بارت لم يكن من هذا الصنف. لم يخف إعجابه بما أنجزته الإرساليات الكاثوليكية في جبل لبنان، من دون أن يتعرض لمعتنقي الديانات الأخرى عندما التقى بهم.

الجديد في كتاب بارت أنه يخصص فصولاً كاملة للكلام عن العادات والتقاليد لدى الموارنة من سكان جبل لبنان "حيث يصنعون الخمر ويبنون المنازل من دون دفع الإتاوات للسلطنة العثمانية"، في إشارة الى حكم المتصرفية. فيصف أفراح الموارنة وأتراحهم وأنواع طعامهم ومنازلهم ومستواهم العلمي والثقافي، من دون الدخول في تفاصيل التطورات العسكرية والسياسية. فهو يفضّل إعطاء رأي في ثورة الفلاحين في كسروان، في حين يتجنب الدخول في تفاصيل مجازر 1860 الطائفية.

"بيروت... الأغنى"
أبحر بارت، في أواخر سبعينات القرن التاسع عشر، من فرنسا الى منطقة الشرق الأوسط، على متن سفينة بخارية فرنسية، فيوقف في باليرمو وإزمير واللاذقية وطرابلس، قبل أن يصل الى بيروت التي يصفها بأنها "الأغنى على الشواطئ السورية". ويوضح أن بيروت قبل مجازر 1860، كانت عبارة عن "بلدة صغيرة، بيوتها متواضعة وشوارعها ضيقة ووسخة وغالبية سكانها من المسلمين". بعد تلك المجازر وصلها الكثير من السكّان المسيحيين "ولم تعد العام 1880 المدينة نفسها، حيث انتشرت فيها الأبنية الجديدة والمحلات التجارية الواسعة والغنية ببضاعتها المحلية، وتلك القادمة من أحدث ما تنتجه مصانع أوروبا".

يجول بارت على المؤسسات التربوية المسيحية في بيروت مثل مدرسة سان فانسان دي بول ومدرسة الناصرة، والجامعة اليسوعية، وينقل مشاهداته عنها بإعجاب. لكنه يحرص على القول في الوقت نفسه، إن سكان بيروت "الذين يتقنون الأعمال التجارية بشكل جيد، كانوا عاجزين عن الدخول في نقاش أدبي أو علمي أو فني".

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان الجميع في بيروت يتكلم العربية، أما لغة الأعمال فتراوحت بين الإيطالية والإنكليزية، في حين كانت الفرنسية تنتشر بين من هم دون الأربعين بعدما أتقنوها في مدارس عينطورة وغزير في كسروان ولدى اليسوعيين. ويقول بارت إن عدد سكان بيروت تجاوز الستين ألفاً في تلك الفترة، وتتوزع مهن سكانها حسب الطوائف الى حد ما. فكان "المسلم تاجراً وجزاراً وبائع خضر وصانع أقفال وفراش، وكان الماروني يعمل في صناعة الحرير والألبسة القطنية، والأرثوذكسي في نحت الحجارة وفي الأفران والمطاعم، في حين توزع الأرمن على الصناعات الحرفية بالذهب والفضة والخشب".

"كسروان موطن الأمّة المارونية"
يسرد بارت بعض الإنجازات التي تمت في تلك الفترة وجعلت بيروت تتصدر مدن شرق المتوسط. من أبرزها قيام شركة فرنسية بشق طريق لعربات الخيل بين بيروت ودمشق تتيح الإنتقال بين المدينتين خلال 12 ساعة عوضاً عن ثلاثة أيام أو أربعة على ظهور الخيل والجمال، وقيام شركة بريطانية بجر مياه الشفة من نهر الكلب الى بيروت عبر شبكة أقنية حديثة.

عندما يعبر الكاتب بارت نهر الكلب قادماً من بيروت، يعتبر أنه بات "في قلب كسروان موطن الأمّة المارونية". السكان هناك كانوا يقتاتون نوعاً من الخبز يعتبره "بدائيا"، إضافة الى الخضر والفاكهة، في حين لم تكن اللحوم تزور منازلهم "إلا في الأعياد الكبرى، خصوصاً خلال عيد المرفع حيث كانوا يتوقفون عن العمل لنحو أسبوعين!".

منازل الفقراء منهم، وهم الغالبية الساحقة، تتألف من غرفة واحدة يعيش فيها الجميع. لا مفروشات ولا كراسي ولا خزائن، هناك صندوق كبير يحتوي على الثياب وبعض المقتنيات الأخرى في زاوية، وجرار للماء في زواية أخرى، في حين أن الفراش يُمَدّ ليلا ثم يُكوَّم صباحاً. ورغم إعجابه بالمستوى التعليمي، لا سيما الفرنسي منه، يرى بارت أن "بطريرك الموارنة يستطيع تقديم تعليم أفضل لهم، خصوصاً أن هناك بضعة كهنة في كل قرية، ولا تمشي ساعة من الزمن إلا وتلتقي ديراً للرهبان أو الراهبات". كما يطالب بألا يمضي الرهبان والراهبات كلَ وقتهم في "الصلوات والتأمل والزراعة" بل بأن يخصصوا وقتاً أكبر للتعليم، قبل أن يتساءل "هل هذا يعني أن العامة كانوا غارقين في الجهل؟ لا... فكثيراً ما نشاهد صبيانا يجلسون تحت سنديانة كبيرة أو يتفيأون ظل حائط كنيسة لتعلم القراءة والكتابة ومتابعة الدروس الدينية على يد أحد الكهنة".

مدرسة عينطورة "تضاهي جامعات باريس"
يبدو أن مدينة جونية أبهرت الكاتب فهي "بجبالها الجميلة الخضراء يمكن أن تصبح نابولي ثانية لو كان ميناؤها أكبر"، معتبراً أن هذا المرفأ لا يحتاج أشغالاً كثيرة ليصبح قادراً على استقبال سفن أكبر. وفي زوق مكايل يصنع الحرفيون المناديل والكوفيات والأحذية والأحزمة والكراسي والمخدات.

يصل الى قرية عينطورة، المشهورة بمدرستها التي تؤمّن التعليم "لمن يصبحون لاحقاً مترجمين وموظفين في المصارف والشركات الأجنبية"، مضيفاً أن هذه المدرسة "تخرّج أشخاصاً يتكلمون ويكتبون الفرنسية بشكل يضاهي حَمَلة الشهادات من جامعات باريس".

بعد عجلتون "المليئة بأشجار الصنوبر"، يدخل غوسطا عرين آل الخازن، الذين يتقاسمون إدارة المنطقة مع آل شهاب. اللافت هنا أن الكاتب ينقل مشاهداته لآثار دمار لا تزال في البلدة تعود الى ثورة الفلاحين في كسروان 1859-1860. ولا يخفي انتقاده لهذه الثورة معتبراً أن الفلاحين "حملوا السلاح ساعين الى الحرية والتمرّد على الإقطاع، لكن كل ما فعلوه كان سلب الأغنياء أموالهم في حين خسروا فرص عملهم".

"الوعر ولا الإحتلال"
رداً على سؤال للكاتب عن سبب عدم الاهتمام بشكل أفضل بطرق هذه المنطقة، يجيبه أحد سكانها "لو أن طرقنا كانت واسعة وأرضنا ليست وعرة، لكان الجنود الأتراك احتلوا أراضينا منذ زمن طويل وفقدنا استقلالنا". وفي جبيل يجد القلعة في حالة يرثى لها وغير محصنة، أما أسواق المدينة فهي متواضعة جداً يباع فيها الزيتون والتين المجفف وأجبان قبرصية. وعندما أراد المبيت فيها لم يجد أفضل من غرفة أثاثها الوحيد حصيرة على الأرض.

ويصل الكاتب الى البترون حيث يبلغه المكاري المرافق له أن قنصل فرنسا في بيروت توفي صباح اليوم. يتعجّب كثيراً ويسأل كيف يمكن أن يصل الخبر بهذه السرعة والساعة كانت لا تزال الثامنة صباحاً، وبيروت تبعد عن البترون مسافة ساعات سيراً على الأقدام؟ عندها يوضح له المكاري المرافق له أن أقرانه في هذه المهنة يوصلون الأخبار المهمة عبر المناداة بين بعضهم البعض من جبل الى آخر، ولا عجب إذا وصل خبر وفاة قنصل فرنسا الى البترون في أقل من ساعة.

في البترون تسترعي إنتباهه كمية الآثار الموجودة فيها، لكنه ينتقد الإهمال الذي يطالها، معتبراً أنها يمكن أن "تنافس مدينة طروادة اليونانية بآثارها لو حظيت بالاهتمام اللازم".

مدينة طرابلس هي المدينة الوحيدة غير المسيحية التي يجول بارت في أرجائها ويقدم صورة عنها وعن أبنائها قبل توجهه الى غابة الأرز وإهدن.

"طرابلس... الأنظف"
يقول عنها إنها أنظف من غالبية مدن السلطنة العثمانية، منازلها موزعة بشكل منسق هندسياً وأسواقها مليئة بالبضائع. المياه تصل الى منازل طرابلس عبر شبكة من الأقنية، ولكل منزل خزّانه الخاص بالمياه لتأمين حاجاته وريّ مزروعاته. لكنه يحرص على القول إن توزيع المياه سيئ للغاية والسبب الإدارة العثمانية الفاسدة. مرفأ المدينة بسيط للغاية "وبالكاد نستطيع ان نصفه بالمرفأ لأنه صغير للغاية والسفن التي تصله تسعى للمغادرة بأسرع وقت ممكن".

يعيش سكان طرابلس على الزراعة خاصة "في السهل الممتد بين المدينة والبحر" والذي يرويه نهر قاديشا وتتوزع فيه الحمضيات وأشجار الزيتون والرمان وأنواع الخضر. عند غروب أيام الصيف الحارة يخرج سكان المدينة الى منطقة التل لاحتساء القهوة وشرب النارجيلة قبل أن يعودوا الى منازلهم للنوم.

يقول الكاتب إن من الصعب إعطاء صورة دقيقة عن الحياة الاجتماعية في طرابلس، ويوضح أنه في حال استقبال ضيف غريب في المنزل فإن النساء والأولاد لا يظهرون ولا يشاركون في الطعام.

"تنين يلتهم القمر"
يروي بارت حادثة جرت معه في طرابلس. فقد عاد الى غرفته المستأجرة بعد يوم طويل من التجوال في المدينة وأخلد الى النوم. بعد فترة قصيرة استيقظ مذعوراً على صراخ وعويل في الشارع، وشاهد أشخاصاً يركضون ويصيحون ويطلقون النار في الهواء قبل ان يطرقوا باب المنزل الذي يؤويه بعنف. أصيب بالذعر والهلع وشهر مسدسه، خاصة أنه، حسب قوله، لم يكن قد مر زمن طويل على مجازر 1860 التي قتل فيها آلاف المسيحيين. عندها، دخل عليه صاحب المنزل، ورداً على استفساراته قال له بتعجب "ألا تعرف أن هناك تنينا مرعباً يلتهم القمر وكاد أن يبتلعه بالكامل؟ لكنه تراجع خوفاً من صراخنا ومن طلقات الرصاص!". ويوضح بارت أن ظاهرة خسوف القمر لا تزال تنشر الرعب لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء، باستثناء "من تلقى علومه في مدارس اللغة الفرنسية".

أما الحادثة الثانية في طرابلس التي يوردها فهي تجري مع شخص يصفه بأنه "ذكي ومنفتح"، لكنه لم يكن ليصدِّق ما يقوم به جهاز التلغراف الذي كان بدأ العمل به للتو في طرابلس. يتوجه بارت معه الى مكتب البريد والتلغراف ويتم بالفعل إرسال برقية، وبعد دقائق، يأتي الجواب، فيخرج هذا الشخص من المكتب وهو يصرخ بأعلى صوته "الفرنج شياطين والله شياطين!!".

يخنة وأرز في زغرتا
يقرر الكاتب زيارة غابة الأرز وإهدن، فيغادر طرابلس ويصل مع هبوط الليل الى زغرتا مع مرافقيه، فيدعوهم أحد سكانها الى المبيت في منزله.

يصف بارت الليلة التي أمضاها في زغرتا. فقد دعاه رب المنزل الى العشاء الذي يقدَّم للجميع على طبق واحد عريض احتوى على أرزّ مع يخنة. لا أشواك ولا ملاعق ولا سكاكين ولا أكواب ولا كراس. يقرر مراقبة مضيفيه والإقتداء بهم، فيجلس معهم القرفصاء على الأرض حول الطبق العريض الذي يوضع على طاولة صغيرة دائرية في حين تُصَفّ أرغفة الخبر تحتها. يشاهد رب المنزل يقطع الخبز ويضع الأرز في لقمة منه قبل أن يبتلعها بشهية. وعندما يحاول القيام بالمثل يفشل ويوقع الطعام على ثيابه، فيضحك الجميع ويحاولون تلقينه أصول تناول الطعام بلا شوكة ولا ملعقة، والشرب من الإبريق مباشرة من دون أن يلمس الفم!

بلدة إهدن التوأم الصيفي لزغرتا يصفها بالجميلة بفاكهتها وزراعاتها المتنوعة في الصيف، في حين أن شتاءها لا يحتمل صقيعه. والطريف هنا أنه عندما يمر بجانب بلدة بشري، يشير الى الخلافات التي تنشب بين أبنائها وأبناء إهدن قائلاً "غالبا ما تنشب الشجارات بين البلدتين ومن السهل أن يتبادل سكانهما إطلاق النار في بعض الحالات!". ويقف بالطبع مشدوها أمام غابة الأرز على غرار غالبية الكتّاب المستشرقين الذين زاروا لبنان حيث "يحتاج جذع إحدى شجرات الأرز لستة رجال للإحاطة به". ومن الأدوات الموسيقية كان الموارنة في جبل لبنان يعرفون الطبلة والمزمار، وفي مقارنة ظالمة مع فرنسا، أشار الى قلَة الصحف والمجلات المعروضة للبيع في جبل لبنان.

ويخصص الكاتب فصولاً عديدة لوصف كيفية تعاطي الموارنة مع أبرز مظاهر الحياة اليومية من عادات وتقاليد وأفراح وأتراح.

الزواج
يوم العرس يتوجه أهل العريس الى منزل العروس، وهناك تحصل تمثيلية يقاوم خلالها أهل العروس سعي أهل العريس لأخذ العروس معهم، في حين يصر أهل العريس على ذلك. وفي النهاية يحرز أهل العريس الفوز وينقلون العروس الى منزل زوج المستقبل. هناك، تكون والدة العريس على الباب، في انتظار العروس مع نسوة العائلة بشكل خاص. بعدها يحضر الكاهن الى المنزل ويُتمّ مراسم الزواج الدينية على طاولة بسيطة تضاء عليها شمعتان. أما التهاني، فقد "تتواصل أحياناً ثلاثة أيام، فيجلس العريس الى جانب العروس التي يوضع على رأسها منديل طويل يغطي جسدها".

دفن الموتى
يبدي الكاتب استغرابه للعدد القليل من الأشخاص الذين يشاركون عادة في جنازة الفقراء من الموارنة. بعد الوفاة يُلَفّ الجثمان بكفن ويُرفَع على الأكف على محمل بسيط من الخشب ويوارى الثرى في "حفرة غالباً ما تكون مليئة بالحجارة، ثم يغطى ببعض الأشواك لمنع الحيوانات من الاقتراب من الجثمان، قبل أن يرمى التراب فوق الجثة (...)  وهذا كل شيء بعد صلاة سريعة للكاهن".

أما إذا كان الفقيد الماروني ثرياً في كسروان فالوضع يختلف تماماً. يُغسل الجثمان ويعطّر ويسجّى في منزله وتجلس ست نساء حوله مهمّتهن العويل والبكاء. ويروي الكاتب مشاهداته "لابنة متوفٍّ تدخل بلباس أبيض وشعر منكوش وتتوجه الى الجثمان فتحضنه وسط عويل النساء، وكلما تراجعت نسبة العويل تقوم إحدى النساء بحثّ الأخريات على رفع منسوب الصراخ". أما الرجال في الخارج من أبناء القرية أو من أبناء القرى المجاورة فيتجمعون في الباحات حول المنزل "ويدخلون في نقاشات وأحاديث وكأنهم في بازار وليس في مأتم". بعدها، يُخرج أربعة رجال النعش ويطوفون به حول المنزل مراراً وتكراراً حتى يطلب الكاهن من الجميع التوجه الى الكنيسة حيث يسجّى الجثمان مجدداً. ويحرص الكاتب هنا على وصف أثاث الكنيسة بـ"البسيط جداً". وبعد انتهاء الصلاة وسط الترانيم السريانية يُنقل الجثمان الى مدفن قريب من الكنيسة حيث يوارى الثرى. وللدلالة على ثراء عائلة الفقيد تقضي التقاليد بدعوة الجميع الى تناول الطعام في المنزل العائلي عن روحه. ويروي الكاتب أيضاً أنه في حال كان الفقيد مشهوراً او مقاتلاً معروفاً، يقوم اقرباؤه كل يوم طيلة أربعين يوما بسوق حصانه والدوران فيه في شوارع القرية وسط بكاء النسوة وترحّم الرجال عليه.

حصاد القمح "من عهد النبي موسى"!
يقول الكاتب إن حصاد القمح في جبل لبنان كان ما زال يتم بالطريقة نفسها التي كانت في عهد النبي موسى! وبعد حصد حقول القمح بالمناجل يمدَّد المحصول على البيادر ويُفصل الحب عن سنابل القمح عبر سحقه بلوحة خشبية ثقيلة مستطيلة تدعى المورج أشبه بالباب يجرّها ثوران أو حماران ويقف عليها بضعة أشخاص. وبعد فصل حبوب القمح عن السنابل ينتظر الفلاح يوماً تكون فيه الريح قوية، فيرمي الحبوب المجموعة مع القش المعروف بالتبن في الهواء، فتسقط الحبوب الثقيلة الوزن في المكان نفسه، في حين يتناثر التبن على مسافة أبعد، ليقوم أخيراً بجمع المحصولَين.

حكم القضاء... عند المطران!
بالنسبة الى القضاء يقول إنه بعد إقرار نظام المتصرفية اثر مجازر 1860، حظي سكان الجبل وبينهم الموارنة في كسروان بامتيازات، فتم استثناؤهم من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، وكانوا يتدبرون أمور خلافاتهم بعيداً من أجهزة السلطنة العثمانية.

يروي بارت أنه في حال حصول خلافات بين السكان كان الموارنة يلجأون الى مطارنتهم لبتّ الأمور. وللفصل في خلاف حول ملكية أرض أو حول مسؤولية شخص تسبب بشجار، كان الشخصان المتداعيان يزوران مقر المطرانية المارونية معاً وهما يحملان الهدايا مثل القهوة والسكر. ينظر المطران في الخلاف من دون الرجوع الى إي كتاب قانون ويصدر حكمه الذي غالباً ما يكون عبارة عن غرامة بسيطة اوالطلب من شخص الإعتذار للآخر، ويغادر الإثنان عادة راضيين بهذا الحكم السريع. ويعلق الكاتب على هذا النظام القضائي قائلاً "لا حاجة لقوانين مكتوبة ولا لقضاة ومحامين كما هي الحال في فرنسا، هنا عند الموارنة المطران هو الذي يصدر الحكم!".

ما يقدمه بارت في النهاية هو كتاب يتضمن مشاهدات دقيقة وقيِّمة، واضحة وصريحة، لطريقة عيش موارنة جبل لبنان خاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بعيداً من الحسابات والتوازنات والحساسيات السياسية والدينية التي لم يكن كتّاب تلك الفترة يأخذونها في الاعتبار.

وقد تزامنت زيارة الكاتب الفرنسي مع فترة بدء نهوض مدينة بيروت وازدهارها ما أتاح لها بعد نحو أربعين عاماً أن تكون عاصمة دولة وليدة. فالاستقلال النسبي الذي تمتع به جبل لبنان تحت حكم المتصرفية، يضاف إليه التحسن الملموس للوضع الاقتصادي والتعليمي لبيروت وجبل لبنان، هما اللذان أتاحا للفرنسيين الإنطلاق من هذا الواقع وتلبية مطلب البطريرك الماروني الياس الحويك بتوسيع حدود المتصرفية وإعلان ولادة دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024