جورج بباوي ولاهوته الشرقي

شادي لويس

السبت 2021/02/06
"الأخ المبارك المحبوب، وصلتني رسالتك الطويلة جداً. ولم أفهم منها إلا قليلاً لأنني لم أتعلم مثلك. طريق الحياة الأبدية طريق واحد، وباب الحياة ضيق. ولذلك عليك أن تكون إما قاضياً وإما تلميذاً". 
(رسالة من الراهب الأب فيلمون المقاري إلى جورج حبيب بباوي في 3 أكتوبر 1965). 

حملت الرسالة تحذيراً ونبوءة عن مستقبل بباوي الذي كان يدرس حينها التاريخ الكنسي في جامعة كمبريدج. سيعيش بباوي، اللاهوتي القبطي ذو الأصول اليهودية (مواليد 1938) ، حياة طويلة وممتدة، سعى فيها لأن يكون تلميذاً حقيقاً، وستجلب عليه تلمذته ومغامراته اللاهوتية وسلاطة لسانه، غضب قضاة كنيسته، وصداماً متواتراً معهم.

يُرجّح أن الراهب كاتب الرسائل هو نفسه بباوي، وأن كتاب "رسائل أبونا فيلمون المقاري"(2008) ليس سوى نموذج حديث لأدب المراسلات القبطي ذي الأصول الإنجيلية، حيث يضع المؤلف أفكاره على لسان غيره. يتضمن الكتاب في مقدمته بعض المحاورات أيضاً، لكن ليس على النسق السقراطي، بل بحسب تقاليد آباء الصحراء، حيث تجري المحاورة في اتجاه واحد، بين معلم وتلميذه، وتأتي الإجابات دائماً في صيغة ملغزة، ويتظاهر خلالها المعلم نفسه بالجهل والعجز عن الإجابة. لكن، ورغم البساطة التي كتب بها بباوي كتابه هذا ومعظم كتبه أيضاً، فإنه وضع فيه عدداً من تنظيراته اللاهوتية الجذرية، والتي ستجلب عليه الكثير، حرماناً من تدريس اللاهوت في الكلية الإكليريكية في القاهرة العام 1978، ولاحقاً فصله منها نهائياً في العام 1983، وإصدار قرار-لن يتم التراجع عنه- بحرمانه كنسياً في العام 2007.

بلُغة سياسات الهوية، حمل لاهوت بباوي بُعداً نسوياً، وإن لم يستخدم هو نفسه المصطلح. فتنظيرات بباوي ظلت أصولية بمنطق احيائي، مقتصرة في مرجعياتها على القرون الخمسة الأولى للمسيحية وقاموسها اللغوي. في كتابه "المرأة والتناول"(2016)، والمؤسَّس على دراسة أقدم له بالإنكليزية بعنوان "المرأة في التراث الشرقي"، يرفض بباوي قواعد الكنيسة القبطية التي تحرم المرأة المشاركة في طقس التناول في أيام الحيض. يستشهد بـ"هو ليس ذكراً ولا أنثى"، إلا أن منطقه ليس مجرد دعوة مساواتية ترفض الهيراركية الجندرية، بل تذهب أبعد من ذلك. فهو يعارض ما يُطلق عليه "قانون الإفرازات الجسدية"، والثنائية الأفلاطونية للجسد والروح، واحتقار المادة في الأفكار الغنوصية. ويقفز من رفض نجاسة الجسد إلى طهارته، دفعة واحدة، برفع المادي والدنيوي إلى مصاف الروحي والأبدي، محتفياً أيضاً بالرغبة، حين يكتب "الشهوة هي كلمة حسنة".

من وجهة نظر الدراسات الثقافية، يمكننا رؤية تنظيرات بباوي كنموذج للاهوت ما بعد استعماري. ففي سلسلة من محاضراته أمام طلبة اللاهوت بالقاهرة وطنطا، تم جمعها في كتاب "المدخل إلي اللاهوت الأورثوذكسي"(2012)، يوضح بباوي ما يعنيه بـ"اللاهوت الشرقي" في مقابل الآخر الغربي، راجعاً إلى أصوله السامية وهو يشير إليه بلفظته السيريانية "لاهوثا". لا يقودنا بباوي إلى ثنائية جذرية بين الشرق والغرب، فهو يقبل بـ"تعدد الشروحات" للحقيقة وتعايشها. فالعقيدة لديه ليست مجموعة من القواعد أو الأفكار، بل هي عملية تاريخية متواصلة بعناصر وجودية. يقول: "اللاهوت والتاريخ وحدة واحدة"، أما "الوعي فيبدأ بالوجود في الزمان" و"النقد فعبر الاختبار (العيش)". وتأتي معارضة بباوي للاهوت الغربي، في القرون الوسطى وعصر الاصلاح البروتستانتي لاحقاً، لـ"أسباب سياسية" وليست عقائدية.

فعقائد "الكفارة" و"الفداء" و"ميراث الخطيئة الأصلية" التي ينسبها لأوروبا مطلع القرن الثاني عشر، ليست سوى منتج اجتماعي لمنطق التنوير الغربي، بجوانبه العقلانية والقانونية والنفعية. في المقابل، يسعى هو لاسترداد التراث الشرقي، بالعودة إلى أفكار آباء القرون الأولى، ومحاولة تجسير القطيعة اللغوية معهم، بعد التحول الكنسي من اليونانية إلى القبطية، ولاحقاً من القبطية إلى العربية. تلك الدعوة تهدف أساساً إلى نبذ أفكار المبادلة ودفع الدين وتمرير الملكية، وإعادة اكتشاف منطق أخلاقي مغاير، مبادئه هي "المحبة قبل العدل" و"الإيمان قبل المعرفة"، وفي إطار دعوته تلك انخرط بباوي في ترجمة عدد من كتابات الآباء، ومن ضمنها رسائل البطريرك المقدسي "صفرونيوس"، ونقلها إلى العربية.

بحسب مدارس الفلسفة، سيبدو لاهوت بباوي منتمياً إلى ما بعد الحداثة بالمعنى الفضفاض للكلمة/ في مرجعه الكبير "موت المسيح على الصليب"(2006)، الذي يكتبه "لأجل المستقبل وديعة الآتين بعدنا"، لتصبح أفكاره أكثر وضوحاً. فهو يرفض فقه اللغة إجمالاً، كأساس للاهوت، ويفكك منطق الحجة اللغوية، وهو يلعب على معاني حروف الجر في النص المقدس، بعقد مقارنة بين "عن" و"لأجل"، ويبين استحاله ضبط المعنى في الترجمة من لغة إلى أخرى، ويقول ببساطة "اللغة ليست مصدر الحقيقة". ويضع بباوي مفهوماً أنثروبولوجياً لحقيقته، فـ"العقيدة هي مجموعة علاقات، والعلاقات هي ممارسة"، وتلك الممارسات تجد تمثلها الأسمى في طقوس العبادة، تلك التي يرفض اعتبارها رموزاً ويعارض تحليلها سيموطيقياً. فالطقس بالنسبة إليه هو "تحول الفرد إلى شخص، ومن حالة العزلة إلى حالة الشركة"، أي "التحول الذي يطرأ على الفرد في وسط الجماعة"، فالمجموع هنا مصدر الحقيقة، أو كما يقول "الجماعة سبقت الكتاب (الوحي)، فهي مصدر الكتاب وليس العكس".

بقليل من الرطانة يمكننا أن نرى لاهوت بباوي كمحاولة طوباوية لتجاوز الاغتراب الذي فرضته أفكار الحداثة الغربية ولاهوتها الأوروبي، ومواجهة "الفردانية" بشركة الجماعة، تلك التي ظنها متجذرة في الوطن والتاريخ كصيرورة والتجربة الوجودية للفرد. كتب بباوي هذا كله، وعبّر عنه في نصوص بسيطة، بلُغة ساذجة أحياناً، وبكثير من الحدة ضد قيادات الكنيسة معظم الوقت. وفي تردده بين موقع التلميذ ودور القاضي، ظل مخلصاً للاهوته الشرقي حتى وفاته، قبل يومين، في الولايات المتحدة الأميركية، مغترباً عن وطنه وبعيداً من كنيسته التي أحبها دائماً. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024