برنامج رولا الحسين

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/06/09
ليست كتابة رولا الحسين سرداً وشعراً بمثابة "مشروع"، بل تكاد تكون سبيلاً من سبل كل ممارسة لا تريد أن تمت له بصلة. ووصفها بهذه الطريقة ليس تعليقاً عليها من باب لا يرتبط بالموضوعة الأولية التي تتناولها، تماماً كما هي الحال في روايتها الاخيرة، "بعد ظهر يوم أحد" (دار ألكا)، أي البطء في تمثله ككسل، أو توان، أو تأخر، أو لا-اكتراث، أو ملل الخ. على العكس، وصف كتابة الحسين بأنها ليست مشروعاً، ينطلق من موضوعتها، بحيث أنها، وبالانعقاد عليها، تقدم بادئ ذي بدء المعطل له، أو مخالفه. ففي حين أنه، وفي معناه الأساس، يفيد بالانتاج، بهوسه، فتلك الكتابة تبدو، ومن موضوعتها اياها، تقريظاً لتوقيفه، أو لإبعاد شبحه على الأقل. إذ إنها، وعندما تصير وثيقة لتمثلات البطء، تطرحها في مواجهته، لتتقدم بها على غير المحدد لها من قبله، إنما على انصراف منه: الكتابة ليست مشروعاً، هي، في مطلعها، تخلّص من كل مشروع.


لكن هذا التخلص، وإن بدا واضحاً من ناحية الموضوعة، من ناحية بناء رواية البطء، وقصيدة البطء، فلا بد من الإشارة إلى أنه كذلك في الكتابة بعيداً من معنى نصها. فالمشروع يركن الى الإكثار والاسهاب في إنتاجه بمثابة علامة على انجازه. أما تلك الكتابة، فتقوم، كما تقول الحسين، بالابتعاد عن الزوائد، التي "تذكرها بالغبار". بدلاً من الإفراط، كما يحبذ المشروع. اللازم من الكلام، بدلاً من تعظيم الأشياء، مثلما يحصل حيال هذا الغرض أو ذاك، إعطاؤها الحجم الذي تستحقه. فثمة، في سياق الكتابة هذه، عمل آخر، عمل يخالف المشروع، انتاجيته، تسويقيته، كل مساره، ليغدو قريباً من كونه برنامجاً، برنامجاً حياتياً، سمته الرئيسية أنه ليس إرادياً، بل ينم عن ضرورة. هذه الضرورة ليست، وعلى نحو الظن والتقدير، سوى الانتهاء من وطأة "المشروعية" التي تحتل عيشنا، وتحوله إلى شركة مساهمة: مشروع مهني، مشروع زواج، مشروع كتابة، مشروع  صداقة، مشروع عائلة....

في مقابل شكل-العيش هذا، تطرح كتابة الحسين برنامجها. وهو قد يصح تلخيصه بالاستناد إلى تمييز حدده ذات مرة برنار ستيغلر بين جهتين في زمننا اليومي. من جهة الـnegotium، زمن الإنتاج والإنجاز، ومن جهة الـotium، الزمن المخصص لأمر بعينه، وهو التمكن من أحوالنا، إبداع تقنياتها إذا صح التعبير، والذي يجعلنا متمسكين بفراداتنا، ومُثبِتين لها. على هذا النحو، تلك الكتابة، وبوصفها برنامجاً، تندرج في الجهة الثانية. لكن هذا لا يعني أنها ليست على علاقة بالجهة الأولى، بل على توتّر مستمر معها.

مردّ هذا التوتر أن الكتابة تقنية، لا تزاول الـotium من دون أن تكون، وفي الوقت نفسه، تفلتاً من الـnegotium. إذ أنها تفتح فيه كوّة هي رجاء للارتياح، والسكون، والتفكر، هي رجاء للحيلولة من دون القيام بشيء، في حين القيام بالكثير من الاشياء. كما مردّ التوتر كون الـnegotium ذاته له كتابته، التي تريد أن تكون "الكتابة". ففي مجال السرد، له رواية خاصة به، يحاول فرضها، لتكون على علاقة بآلياته: الروائي-المنتج-المنجز الذي يتقلب في قصه المباشر بين قتل اسلوبه وجذب جمهوره بجملة ليست معدة سوى للإقتباس! بالتالي، كتابة الـotium غالباً ما تعترضها كتابة الـnegotium، البسيطة، وتحاول أن تلحقها بها، أو تخبرها أنها هي الكتابة وحدها، ومعيارها ان تسويقها ناجح. ولا مناص من ذكر مردّ ثالث للتوتر أيضاً، وهو أن هؤلاء الذين يدافعون عن الـotium في زمن الـnegotium، ومن دون الوقوع في فخ نفيه بالمطلق، وتماماً كبرنامج حسين، غالباً ما يجدون أنهم أمام اشكالية محددة، وهي الاشارة إلى اهل الـnegotium ان جهتهم الزمنية لا تسير سوى إلى الخلف، او، وبعبارة واحدة من إيفان إليتش، أن إنتاجهم هو مضاد للإنتاج. فلا يؤدي سوى إلى نقطة انطلاقه، لكن بعد أن يكون قد دمّر كل إمكانات الإنتاج الفعلي، بما هو منطلق من تصنيع لتقنيات الـotium.

ما زال برنامج رولا الحسين في مطلعه، والتوتر فيه بين جهتي الزمن متواصل، وهذا يمد كتابته بنوع من الطاقة التي، وفي طريقها إلى "تَمارُسها"، لا تتوقف عن التهكم على المشروع. بهذا، تحيل هذه الكتابة الى معنى من معاني الأدب، بوصفه، ليس بناء للعالم، إنما، وقبل هذا، تأكيداً على كون كل عالم من العوالم التي نحيا فيها، أكان بطيئاً، أو متوانياً، أو لا-مكترث، ممل.... له الحق في الوجود بلا أي مسوغ.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024