عن أبلسة الطبقة الوسطى

رشا الأطرش

الجمعة 2020/05/15
منذ اندلاع ثورة 17 تشرين اللبنانية، ومع تسارع تطوراتها، قبل إجراءات كورونا التي تفوقت على قوى القمع الأمني في إفراغ الحيز العام من المحتجين.. ونحن نسمع أصواتاً موازية لصيحات الثوار، تصيح بدورها في وجوه تشكيلات لا تنتمي تعريفاً إلى أعداء الثورة المعروفين والمفترض أنهم عابرون للطوائف والمناطق والطبقات. وهذه التشكيلات هي: الطبقة الوسطى، "مؤسسات النخبة"، والمجتمع المدني. والأرجح أن الطبقة الوسطى هي "الوصمة" التي تختزل الثلاثي. 


فبموازاة جدلية العنف الثوري في مقابل الحفاظ على السلمية، استمرّت الأصوات قائلة إنها شعارات الطبقة الوسطى الميالة إلى الخنوع، المنفصلة عن الواقع اللبناني العام في محميّاتها وقيمها التي تخصها وحدها. وذلك، رغم أن الاغتباط بتكسير واجهات المصارف، التي ترتدي الآن سترات الحديد، لم تنحصر في الأطراف والضواحي الأكثر فقراً. بل سمعنا أصداءه أيضاً في الحمرا والأشرفية وسواهما، باعتباره أقلّ ما يمكن فعله إزاء ما تقترفه تلك المؤسسات المالية، بحماية النظام العام، من جرائم يومية في حق المواطنين.

ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية، وتوحش عصابة المصارف ومافيا الصيرفة، وألاعيب حاكمية المصرف المركزي، تابعت الأصوات قائلة إن ثقافة الطبقة الوسطى وأساليبها في السياسة والاقتصاد، تحول دون تصعيد الثورة. أو أنها، في الحد الأدنى، نشازها، مكمن ارتياب، بذرة تخاذل واجب حرق خطابها -الآن وهنا- كي لا تنبت. واستمرّت الأصوات، قبل هذا كله، وبعده، مع مسخ مطلب حكومة التكنوقراط، في تسمية نائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، حسان دياب، رئيساً لحكومة اللون الواحد بأجندتها المغايرة لكل ما طالب به ملايين اللبنانيين في الشارع. دياب الذي لا يسعه، ولو بالحلم، أن يختصر في شخصه "المديوكر" صرحاً بحجم "الأميركية" وتاريخها وتأثيرها في النسيج اللبناني والعربي. فقيل: هذه هي "نخبة الطبقة الوسطى"، هكذا تخرُج أو تُخرَج إلى السياسة والحُكم. وهكذا "احتلّت" مبنى "البيضة" في وسط بيروت، وحاولت ابتلاع نبض الثورة في فقاعتها الرقيقة. رغم أن "البيضة" ليست سوى مكان، مكان واحد من ضمن فضاءات عامة شتى، لا شيء يمنع تجاوُر نشاطاتها، ولا مِترَ يلغي مِتراً آخر، والثورة ليست ثورة إن لم تكن وعاء كبيراً، ولن تنجح إلا بمدّ رقعتها ما أمكنها.

وفي مواكبة لمختلف أشكال التعبير عن الثورة ومنها، ثم "غفوتها" على صدر الوباء مع هواجس اقتصادية وأمنيّة وحرياتية جمّة، ظل الخطاب المُشتبِك مع الطبقة الوسطى، بفرعيها "الثقافي" و"المدني"، مسموعاً بلا انقطاع، رغم تركزه في بعض دوائر المنشغلين بالثورة والمشتغلين فيها. ورغم أن معظم هؤلاء ينتمي، بشكل أو بآخر، رمزياً أو مهنياً أو اقتصادياً، إلى الطبقة أو الجماعة نفسها التي يتهمونها – تقريعاً أو سخرية – بتنفيس الثورة وخطابها.

التهمة الأساس هي أن هذه الطبقة، رغم مناصرتها للثورة، وغالباً انخراطها فيها، تنتج خطاباً وممارسات تنشد الاستقرار بمعناه "المهادن" للنظام القائم، للحفاظ على مصالحها المرتبطة به، بدلاً من هدم المعبد. وأنها، عمداً أو عفواً، تعيد إنتاج المنظومة التي قامت عليها الثورة، وإن سعت إلى بعض التعديلات المفصلة على مقاسها، فيما هدفها الأبعد هو حصر الخسائر في الحد الأدنى الممكن. أما رافعة هذه التهمة، فهي، باختصار، تلك الفكرة-الدوغما في التعويل على "الفقراء" وقوداً أوحد للثورة، ومعهم كل من يختار أن يخرج على طبقته أسوة بخروجه على طائفته، ليلتحق بالبروليتاريا ويصير منها ولها، لا سيما ثقافياً وسياسياً.

وهنا، تحضر تلك الحكاية الطريفة، عن قيادي يساري كان يحاول استقطاب بائع جوال بسيط في إحدى القرى، فقال له: هدفنا أن نجعل "البيك"، ساكن هذا القصر وصاحب هذه السيارة، مثلك، ومثل نظرائك من البسطاء. فأجاب الرجل باستغراب: لكننا نريد أن نصبح نحن مثله!

وكأن أبناء الطبقة الوسطى، هُم خَوَنة، مسبقاً، لسائر الطبقات المكونة للمجتمع اللبناني.. بالضبط لأنهم شديدو الإخلاص لطبقتهم ووعيها الذي لا ينفك ذلك الصوت يقول: "أنا أعرفه جيداً، أحفظه عن ظهر قلب، وأدينه كيفما تحوّل، أتعرّف عليه مهما أتقن تنكّره، وجاهز لمعاداته". ويحار المرء، ههنا، وبمنطق الأصوات النابذة نفسها: كيف لمَن لا ينتمي إلى طبقة، أن يدّعي هذه المعرفة العضوية بها وبوعيها؟ وإن انتمى إليها، وانشقّ عنها ليلتحق بصفوف الجماهير (أسلوبياً إن لم يكن طبقياً)، فكيف تمكن من الخروج من وعيها إلى وعي مغاير طالما أن الوعي الطبقي، بحسب ما يُستشَفّ من نبرة تلك الأصوات، حتمي ولاصق، مثل القَدَر ولون العينين؟ ثم يأتي السؤال الأهم: هل المشكلة فعلاً في أن ننشد، جميعاً بكل طبقاتنا، الاستقرار والرفاه، ما استطعنا إليهما سبيلاً؟ أم أن المعضلة في كيفية تحقيقه، وسقوف الأثمان التي قد يكون كل منا على استعداد لبذلها من أجله؟ وهل يفترض بنا جميعاً أن نكون نسخاً كربونية في ما نقدمه من أجل التغيير؟

من نافل القول أن الناشطين المدنيين ليسوا ملائكة. فالمجتمع المدني، شأنه شأن سائر القطاعات، فيه الغث والسمين، وهو ليس بمنأى عن الفساد المتغلغل في مفاصل البلد كافة. والمؤسسات الثقافية والأكاديمية ليست جُزُراً في البحر اللبناني. والطبقة الوسطى ليست أيقونة جامدة منذ أن كانت رافعة "سويسرا الشرق" ورأس المال الرمزي للبنان الخدمات والكفاءات والانفتاح، عندما كان ماسح الأحذية يستطيع تنظيم نزهة لعائلته في الأماكن نفسها التي يرتادها أصحاب الأحذية من زبائنه، على ما يروي لنا أهلنا من ذكرياتهم. الطبقة الوسطى متضررة في الصميم من الأزمات اللبنانية الراهنة، مدخرات العمر، تعليم جيد، طبابة مؤمّنة، كلها مهددة. ووعيها نفسه الذي ينظر إليه البعض بعين الشك، هو ما يمكن التعويل عليه للانتفاض على ما ومَن يقوّض هذه المصالح المواطنية. بل إن الطبقة الوسطى كانت من المشتغلين الأساسيين في صوغ "روح 17 تشرين"، التي فاخر بها اللبنانيون، وتشاركوا بسببها تلك اليوفوريا الجماعية طوال أسابيع.

وفي العام 2020، لا بد أن يمسي بديهياً وعادياً، بلا أبلسة، أن النشاط المدني هو مهنة، مثلها مثل الصحافة والكتابة الإبداعية والفنون والطب. العيش من مداخيلها، لا يلغي "رسالتها" وأهمية الموهبة والاستقامة لدى ممارسيها. مُنتَجها عرضة للنقد والغربلة والنقاش العام، كونه على تماس مباشر مع الشأن العام. لكنها حِرفة، سواء من خلف شاشة كومبيوتر أو على الأرض، ولا عيب في هذا. أما الصروح الثقافية الكبرى، فهي في النهاية مؤسسات، عملها، كأي مؤسسة، عرضة للهنّات والصراعات. وناسُها، قبل أن يكونوا ناسَها، هم نسبة معتبرة من المجتمع. وعيُهم لم تشكله هذه المؤسسات بمعزل عن المعترك اللبناني الأكبر. وفي هذه المؤسسات، مِنح تعليمية وتبادل طلابي، أي أنها، في داخلها، ليست أحادية الهوى الطبقي. والأصوات إياها تنسى أو تتغافل عن أن التحليل الطبقي يقصُر عن الإحاطة بالحالة اللبنانية كاملة، وعن تأثير المعطيات السياسية الطائفية والإيديولوجية في نظامنا المعتلّ. وإلا فلماذا لم يتحدّ مهمّشو الطوائف، تاريخياً، ضد مستغليهم؟ ولماذا ضرب فقراءٌ فقراءَ في شوارع الثورة؟ ولماذا نسمع هتافات للزعيم في صفوف مختلف الطبقات ضمن "العونيين" أو "المستقبل" أو "حزب الله".. كما تُسمع هتافات ضده من مختلف الطبقات، ضمن الجماعة وخارجها؟

هل حان الوقت لإعادة إحياء جذوة 17 تشرين؟ نعم.
لإعادة التفكير في تكتيكاتها واستراتيجياتها في ظل تطورات الاستعصاء اللبنانية الحالي؟ طبعاً.
والمؤكد أنه كلما اتسعت شبكة التحالفات الثورية، الكاملة أو الجزئية، كلما صار الحلم أقرب. وإذا كنا قد اكتوينا جميعاً، في محطات سابقة كثيرة، بخواء "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وأدركنا أهمية النقد الدائم والمستمر ومن الداخل، فهذا ما يجب أن يرافقه حرص على عدم تشتيت الطاقات أو بعثرة التركيز على السلطة المالية والسياسية، الطائفية والمليشيوية، كهدف أول لضربات الثورة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024