"روساريو" لخورخي فرانكو.. كلما قتلتْ شخصاً زاد وزنها

وجدي الكومي

الأحد 2020/07/12
 
"تلقت روساريو رصاصة من فوهة المسدس الملصقة بجسدها بينما هي تتلقى قبلة، فاختلط عليها ألم الحب وألم الموت"... بهذه العبارة الاستهلالية الرائعة. يستهل الروائي الكولومبي خورخي فرانكو روايته القصيرة  "روساريو"، ترجمة المصري مارك جمال.

أقول إن الجملة الاستهلالية رائعة لأنها شكلت علامة عمل أدبي ممتع وشيق، وعلى الرغم من قصره، إذ لا يرتبط الجمال الأدبي بالضرورة بالتخمة السردية... فالرواية قصة تنشأ بين فتاة من فتيات تجار المخدرات الكولومبيين، ورجلين من أبناء الطبقة الغنية في مدينة "ميديين" الكولومبية، أحدهما يتولى دفة السرد، والثاني يقع دائما في حيز المفعول به، والشخصية الرئيسة روساريو، الفاتنة المنيعة عن القتلة، فلا أحد يستطيع أن يقتلها لأنها كالعشبة الضارة على حد وصفها.

تنطلق الرواية من مشهد النهاية.. البطلة مصابة برصاصة في المستشفى، ويعود ساردها إلى الخلف مستعيداً الحكاية من أولها.. من أول التعرف على روساريو مع صديقه "إيميليو" قائلا: أُعجبنا بروساريو جميعاً، ولكن "إيميليو" هو الوحيد الذي تحلى بالجرأة الكافية. وهكذا كل جريء يفوز باللذات، إذ إن الارتباط بفتاة يلتصق المسدس بجسدها، وتمنح كل من تقبّله رصاصة، كان أمرا شديد الجرأة لا بد أن يقبل عليه شاب طائش... يتقدّم "إيميليو" صديق سارد الرواية الرئيس المنتحل تكنيك "السارد العليم"، ليعشق الفتاة ويفوز بجسدها، فيما لا يفوز سارد القصة بأي شيء، إلا ليلة واحدة معها.

عاشت البطلة صاحبة اللحم البض محاطة بالموتى على الدوام، وسيرتها ارتبطت بوقائع قتل،  تبدو القصة للقارئ من الوهلة الأولى أنها مكررة ومعادة، بلد يضطرب بتجارة المخدرات والدعارة، ورجال العصابات الذين لا يُشار إليهم في الرواية إلا بـ" الأشداء".
رسم خورخي فرانكو بطلته بأكثر الأساليب الروائية تشويقا، فهي نادرا ما تضحك، ولا تثيرها القبلات، ولا حتى دغدغات إميليو الرقيقة، ولم يعرف السارد أو صديقه إميليو عمرها... كانت تبدل عمرها كما تبدل ثيابها وعشاقها، شخصية روائية مرسومة بمهارة وحذق من روائي مُحمل بتاريخ الشخصيات النسائية الروائية في الأدب الكولومبي، ينقب عن شخصية جديدة تظل راسخة في العقول والقلوب، ويُقرن سيرتها بأشد الحوادث بشاعة، ويربط وصفها وأثرها في قلوب المقربين منها بأبرز التناقضات والصفات المتضاربة.

المفارقة الأكبر في ملامح روساريو، إنها كلما قتلت شخصا، زاد وزنها، إذ كانت تختلي بنفسها وتعكف على تناول الطعام، هذا الملمح العجيب الذي يسجله الروائي عن بطلته، ذكرني ببطل في رواية يوسف إدريس القصيرة "العسكري الأسود" الذي كان يتولى تعذيب المعتقلين والمعارضين، بضربهم بلا رحمة وهكذا انتهى به الحال – المُعذِب – بأن يعض لحمه، لقد برقت جملة يوسف إدريس في ذهني فجأة حينما قرأت هذا المقطع من رواية "روساريو" إذ قال إدريس: لحم الناس يا بنتي، اللي يدوقه ما يسلاه، يفضل يعض إن شا الله ما يلقاش إلا لحمه، إلطف يارب بعبيدك".


روساريو ما أن تقتل، حتى تُغرق نفسها في دوامات الأكل، كان الجميع يكتشف أنها قد زجت بنفسها في ورطة بمجرد رؤيتها بدينة، يقول السارد: كانت ترينا الخطوط على بطنها وساقيها وتشرح: هذه الخطوط علامات على تمدد البشرة، لأن وزني قد زاد مرات كثيرة".
وما أن تمر أشهر على الجريمة، حتى تكف عن تناول الطعام، كأنها هضمت جثة ضحيتها وبات عليها أن تعود لطبيعتها حتى يمكنها التهام ضحية جديدة، إن هذا التشبيه يجعلها إلى ثعبان "الأناكوندا" أقرب، فهو يتضخم ويزداد حجمه حينما يبتلع فريسته، ثم لا يلبث أن يسترد هيئته ونحافته المعهودة، التي يمارس بها التسلل والزحف لقتل فريسة أخرى.

ولا يكف خورخي فرانكو عن منحنا ما يثير شهية قارئه عن هذه الشخصية اللعوب الفاتنة، فروساريو وُلدت خاسرة معركتها مع الحياة، جاءت من بطن أم خياطة ضاجعها كثيرون، أحد الذين عاشروها كمم فاها، واعتلى جسدها... تعرضت للاغتصاب وهي في الثامنة من عمرها، وتولى شقيقها "جونيفي" الانتقام منه، لكن الفتاة الصغيرة تفتح وعيها على موقفين، شقيق يدافع عنها، وأم لا تمانع أبدا في أن تكذبها دفاعا عمن يعاشرونها. تتطور هذه الشخصية، وتتبع شقيقها كلما ارتكبت جريمة من جرائمها، وتحتمي به، حتى يُقتل هو في اشتباك مع الشرطة، ونفهم بالطبع أن شقيقها وصديقه "فيرني" يعملان مع "الأشداء" او تجار المخدرات، وفي هذه الأجواء، تُولد أسطورتها، وفي الثالثة عشرة من عمرها تقتص لنفسها، وتنتقم من شخص إعتدى عليها في أزقة مدينة "ميديين"، فتستدرجه إلى بيت أمها، قاصدة عن عمد أن تلوثه بدماء المعتدي، وتطلب منه أن يخلع ملابسه، وبضربة مقص تستأصل خصيتيه، ينهمر الدم غزيراً، ويجري ضحيتها عارياً نازفاً... يُبرز خورخي فرانكو دموية المشهد بالتعليق عليه قائلا: لم تكن معركة روساريو هينة إلى هذا الحد، بل إن لها جذوراً ضاربة في الأعماق، تعود إلى زمن بعيد، إلى أجيال سابقة، فلقد ناءت روساريو بحمل الحياة مثلما ناءت بحمل هذا البلد، إذ كانت دماؤها مثقلة بجينات العامة واللقطاء الذين شقوا طريقهم في الحياة بحد الساطور، وما زالوا على عهدهم. بحد الساطور أكلوا، وعملوا، وحلقوا ذقونهم، وقتلوا، وأصلحوا الخلافات بينهم وبين نسائهم، أما اليوم فأصبح الساطور بندقية، ومسدسا من عيار 9 ملم، ومدفعا رشاشا.


لا يمضي الروائي الكولومبي في طريقه سارداً رواية أدبية عن فتاة ارتبطت فقط بعالم المخدرات، بل عن بلد تورط مصيره تاريخياً ولم يتخلص حاضره من إرث الدم الذي ظل متوارثا في جينات اللقطاء، الذين وجدوا أنفسهم في بلد يتصارع فيه تجار المخدرات والشرطة صراعاً أزلياً وسرمدياً.

وبالعودة إلى قصة الحب التي تشتعل وتحتدم في الفصول الأخيرة من الرواية، نلمس إدماناً يعجز أن يتخلص منه "إيميليو" وسارد الرواية الرئيسي، وينجح "فرانكو" في توصيله إلى قرائه، إذ إن "روساريو" تسري كالدماء في عروق وشرايين قلبيهما، ويصبح التخلص منها أمراً صعباً يعجز عنه تدخل ذويهما، بل إن القارئ بينما يقرأ عبارة السارد: ودار في خلدي أن المضي قدماً من دونها يكاد يكون ضرباً من المحال"، تصله على الفور معاناة هذا الشخص الذي مزقه الحب والتعلق بالفتاة، أو حينما يعبر خورخي فرانكو عن ذلك بأشد العبارات وشاعرية حينما يقول: وفيما كنت أحتضن الوسادة، رحت أتذوق المشاعر التي كانت توقظها في نفسي مرة أخرى، واحداً واحداً، ومعها عاد رفيف الفراشات إلى جوفي، والبرد إلى صدري، والوهن إلى ساقي، والرعشة إلى يدي والجزع والخواء والرغبة في البكاء والحاجة إلى لفظ ما في معدتي وسائر الأعراض التي تداهم العاشقين غدراً.


بقدر ما تحمل اللحظات التي عاشها صديق "إيميليو" من عذاب، بقدر ما يتزايد لدينا والإعجاب، بقدرة هذا الروائي الكولومبي على التعبير عن أشد قضايا بلده في قالب ساحر مخلص لإرث كبار الروائيين الكولومبيين، ويجعله يستحق الاشارة التي منحها له ماركيز حينما قال "إن خورخي فرانكو واحد من الكتاب الكولومبيين الذين أود أن أمرر لهم الشعلة". 


*صدرت عن دار سرد وممدوح عدوان.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024