فاكهة التوني المحّرمة في زمن كورونا

شريف الشافعي

السبت 2020/03/14
يظل الخوف دائمًا هو أخطر حلقات العالم الجديد المُشَكَّل على هيئة سلسلة كوارث متصلة، فالحياة تحت ضغوط الفزع والهلع والقهر والإشفاق من الهلاك والتبدد والانسحاق لا تستحق أن توصف بالحياة، وخطواتها البائسة هي في حقيقة الأمر انزلاق صوب الانهيار واليأس وفقدان "المناعة" والقدرة على المقاومة، وصولًا إلى معاني المَوَات: المجازي، والإكلينيكي، والنهائي الكامل.

وسط خرائط الخراب والخواء الإنساني، وفجائع الدمار والحروب، وهذه الدوّامات البارعة في اصطياد البشر وإرهابهم، ومن صيغها العصرية النشطة "فيروس كورونا المتجدد"، هنالك العدميون في مسارات الفن والأدب، ورافعو رايات السواد، وَمُصَدّرو التشاؤم والإحباط، وهم الأكثر عددًا بطبيعة الحال، والأعلى صوتًا بمذاهبهم وتياراتهم المدرسية المتنوعة، لأنهم الأقرب إلى لغة المنطق وحسابات العقل ومؤشرات الواقع الملموس.

وقد يكون الهروب؛ إلى الماضي والنوستالجيا أو إلى الحلم والفانتازيا أو إلى الخيال العلمي والهندسة الذهنية؛ من الثيمات السلبية الأخرى البديلة للخلاص من حاضر مأزوم لا سبيل لمواجهته والتعاطي الموضوعي الفعّال معه، كما في نزعات فنية وأدبية تنطلق من التهويم والتحليق في فراغات وأساطير وفضاءات افتراضية خارج عالم الآدميين والأشباح، الذي نعيشه. 

كذلك، بإمكان الفن؛ ذي الألف وجه؛ السعي إلى صياغة "البرد والسلام" في طبقات السعير، وارتياد قعر جهنم بأجنحة لا تنصهر، ورحيق مختوم، وموسيقى متراقصة، وأغصان مسكونة بالثمرات والعصافير، وورود تظل يانعة حمراء؛ بلا ذبول ولا شحوب. 

على هذا النهج الفريد في ثباته وتفاؤله واطمئنانه، مضى التشكيلي المخضرم حلمي التوني (86 عامًا) في تجاربه الأخيرة، وأحدثها معرضه "فاكهة محرّمة" (6-21 مارس/آذار 2020) في غاليري بيكاسو في حي الزمالك بالقاهرة، وهو تتمة محطات هذه التجربة النوعية، بعد معارضه السابقة: "نساء وخيول"، "المَغْنَى حياة الروح"، شبابيك"، "عندما يأتي المساء"، "ليه يا بنفسج"، "للنساء وجوه".

مع انقلاب المعطيات والمسمّيات جميعًا على المسطّح البصري الممتدّ، ولأن على هذه الأرض أيضًا ما يستحق الحياة، بتعبير محمود درويش، فإن الفنان حلمي التوني قد بدا معترفًا بأن الفاكهة المعسولة التي لا يكف عن زراعتها تحت وطأة الهجمات المريرة القاسية، هي تلك العُملة المطرودة والنفايات المُحرَّمة في عالمنا القبيح الوقح، لكنّ هذه الوضعيات المعكوسة التي طاولت كل شيء في الأفق لم تمنع الفنان من غرس فسيلة ناضجة في الوقت بدل الضائع قبل صفّارة النهاية، ولم تعوقه عن محاولة اقتناص مرآة صغيرة مستوية، لكي يرى فيها ذاته وصور الآخرين باعتدال، أو بنسب قياسية، أو مثلما يحب أن يرى.

هو ليس فنًّا انعزاليًّا، ولا مغتربًا، كما أنه ليس منفصمًا عن عذابات الناس، ولا مترفّعًا عن اشتباكاتهم اليومية مع طاحونة المعاناة والمكابدة مثلما يمكن أن يتخيل البعض. إن ما قدّمه التوني في لوحات معرض "فاكهة محرّمة" هو نبض إنساني صارخ، بالحجم الطبيعي للقلب، وبالوزن المعياري للمشاعر والفيوضات الداخلية، وباللون الأصلي للصوت الآدمي الخالص من التشويش والضجيج والجدل ومخالطة البارود والأدخنة والأتربة. 

الرجال والنساء في الأصل أشجار ونخلات، وقلوبهم ثمرات وزهرات، وزينتهم عقود فُلّ وبنفسجات، فلماذا لا يراهم الفن مرة واحدة وهم على سجيتهم، قبل التقلّب والتحوّر؟! ألا تُعدّ رسالة "كونوا هكذا قبل فوات الأوان" تعزيزًا للبشر في معركتهم الأخطر "استرداد إنسانيتهم المفقودة في متاهات الزحام والخوف والاغتراب والاستلاب"؟

انطلق الفنان حلمي التوني في أعماله الجديدة، التي صاغها جميعًا بعد سن الثمانين، من منصّات متشابكة، مقوّماتها كلها بلا استثناء: الطفولية والبكارة والبراءة والبهجة والمرح والموسيقى والغناء والرقص والتفتح والازدهار والنماء، وغير ذلك من خصائص وسمات رآها مجتمعة بشكل استثنائي في "الأنوثة الخام والفواكه الغضة"، وقد خلطها الفنان في توليفة واحدة للتعبير عن أبجديات التفاؤل والانطلاق والانفلات من القيود والرتابة وتحطيم الروتين الفاسد والأنظمة البالية وتمزيق كل الأقنعة بالتعري النبيل والإيجابية والابتسام والدهشة وإطلاق ملكات الحواس وطاقات الأرواح.

من رؤيته المعاصرة للجسد الإنساني، استشفّ التوني الجوهر الكامن بأطيافه البارقة وهالاته الضوئية، فكانت الألوان الزاهية المتدفقة بأحمرها وأصفرها وأبيضها وأخضرها، وبالبرتقالي السائل من عيون الشمس، في تكوينات سادها الامتلاء والنضج والفوران، وتبلورت فيها الخصوبة في أنوثتها، والأنوثة في خصوبتها، مع ذوبان الفواصل تمامًا بين كريزات المرأة وتفاحاتها وثمرات جسدها وأزهاره ورياحينه وعطوره من جهة، وما تجود به الطبيعة الفيّاضة المتفجرة من حصاد من جهة أخرى.

لم ينسج التوني، صاحب الإسهامات الواسعة في الكاريكاتير، على منوال المبالغات والمفارقات، فهو لم يهدف إلى توجيه وجوهه وشخصياته إلى تعبيرات محددة، وإنما آثر الحياد الانفعالي والنظرات المجانية، فكأن السعادة والطمأنينة واستعادة الثقة بالذات مرادفات للحظات يتوقف فيها الإنسان عن اللهاث، مصغيًا إلى نداء ضميره الحي، ومتعاملًا بأريحية مع أخيه الإنسان: "خد وردة يا بيه"، "خدي فلة يا هانم"، "يا حاسدين الناس.. مالكم ومال الناس"، مثلما كتب وجسّد في لوحاته.

استوعب حلمي التوني جغرافية المرأة المصرية، وإحداثيات تضاريسها التي تخصها دون سواها، كما تمكّن من إثبات تاريخها منذ العصر الفرعوني (نفرتاري/ كبيرة الملكات وجميلة جميلات الدنيا) إلى يومنا هذا، وذلك ببراعة تصوير هيكلها وملامحها الفيزيائية والنفسية، وعلاقاتها مع بنات جنسها ومع الرجل، وكذلك صراعاتها وانقساماتها الداخلية. 

استخدم الفنان في تكويناته الكثير من الرموز والأيقونات التراثية والأسطورية، مثل البطيخة المقسومة، وطائر الهدهد، والبيضة الكونية، واللوتسات، وتفاحة الغواية، وغيرها، في حس درامي حكائي، ناهل من البيئة الشعبية، ومنسجم مع موسيقية الخطوط والألوان، ومع التحريض الدائم على الغناء والرقص وتمضية الوقت بما يسعد الإنسان ويخلصه من كوابيسه.
"فاكهة محرّمة"، معرض أكّد انحياز حلمي التوني للشاعرية والرهافة، وللإنسان البسيط "كما هو"، وأبرز إيمانه بأن الفن للناس، وبأن من حق مُطالِع الجمال أن ينتفض من النشوة، وينتشي بأنه لا يزال قادرًا على الانتفاض.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024