رسائل 2020... عزيزي القاق

أحمد زعزع

الثلاثاء 2020/12/22
هنا رسالة (ساخرة) للكاتب والمترجم اللبناني أحمد زعزع، وهي من سلسلة رسائل يوجهها الشعراء والكتّاب مع نهاية العام 2020، باقتراح وطلب من "المدن".

تحيّة عصفوريّة صادقة، كونك تنتمي إلى رتبة العصفوريّات، من إنسانٍ عرفَك جيّداً من أيام الطّفولة وشبَّ على تناقل أخبار قدراتك العجيبة ومآثرك الفريدة. وها هو الآن يُردّد مع فيروز: يا طير يا طاير ع طراف الدّني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني، يا طير.

منذ وَعيتُ على هذه الدّنيا، سيّد قاق، وكلما تعرّض شخصٌ من أقارب العائلة أو معارفها لمُصابٍ أو انتكاسة، كأن يسقط في حفرةٍ في الطّريق، أو يرفُسُه بغلٌ أو ثور، أو يخسر ماله وتنهار تجارته فجأةً، كان الكبار من حولنا، أي الثّقاة العدول من وجهة نظرنا نحن الصّغار، يُجمِعون على التّعقيب على تلك النّكبات المتنوّعة بقولٍ ثابت لا يتغيّر: مسكين فلان، لقد تغوط عليه القاق. وهنا أستميح القرّاء عذراً عن فجاجة التّعبير، لكن الصّدق أهمّ من التّهذيب في هذا المقام، فجلافةٌ نافعة خيرٌ من سلاسةٍ خادعة. 

وجرت العادة بعد صدور ذلك القول الفصل، أن يهزّ الجميع رؤوسهم تأييداً أو إشفاقاً أو شماتة، لا فرق، من دون أن ينبري صوتٌ واحد يُشكّك في صحّة علاقتك الوثيقة، كقاقٍ يطير قليلاً أو كثيراً ويعيش قرب البحيرات والأنهار، بتلك الحوادث المتفرّقة. وكانت تلك العبارة، بسبب فجاجتها ربّما، مثار تضاحكٍ مستديم (وهذا قبل شيوع مصطلح التّنمية المستدامة الأثير على قلوب محبّي الأن جي أوز) بيننا نحن الأطفال. شأنها شأن الكثير من الإشارات الكلاميّة، الصّادرة عن الكبار، إلى الوظائف البدنيّة المُحرَّم علينا ذكرها تحت طائلة الزَّجر والتّرهيب، كالتّبوّل (مثلاً اعتادت جدّتي الرّاحلة أم حسن إرسالنا إلى الفراش بالقول: "يلّلا، فنّ ونام!")، والغائط (اعتاد قريبٌ آخر، عُرفَ بنفاذ صبره نحو شغب الأطفال، التّساؤل بنبرةٍ غاضبة: "وهل نزرع على غائطه فجلاً؟")، وإطلاق الرّيح (اشتهر أحد التّجار الأثرياء في مدينتي بميله إلى إطلاق الرّيح على كيفه من دون تحفّظ أمام مجالسيه من كلّ الأطياف، ولما استهجن زائرٌ من خارج المدينة سلوكه هذا بنظرةٍ صامتة ومستغرِبة، بادره التّاجر، مُطلِقُ الرّيح وصاحبُ الفعلة، بالقول بصوتٍ عالٍ ومؤنِّب: "شو، فَدَغَكْ؟"، فذهبت عبارته البليغة هذه مثلاً يُردّده أهل مدينتي وتتناقله الأجيال حتى يومنا هذا).

فَحوَى القول، سيّد قاق، أنه وُجد توافقٌ عام، أو اصطفافٌ نظريّ، على تحميلك المسؤوليّة من دون ضغينة. إذ لم يَدْعُ أحدٌ، حسب علمي، إلى إيذائك أو مطاردتك أو تخوينك (بسندويشاتٍ أجنبيّة التّمويل) عن كلّ تلك الكوارث، لمجرّد ممارستك وظيفة بدنيّة – هي حقٌّ مكتسبٌ وأصيل لك على غرار جميع المخلوقات – في الفضاء وعلى نحوٍ عشوائيّ. ولعلّ ذلك عُدَّ من بداهات وجودك؛ أن تنثر الكوارث الصّغيرة من أجل استدامة الحياة الكبيرة. بعبارةٍ أخرى، كنتَ جزءاً من حياةٍ أبسط، اعتدنا فيها تلقّي "فضلاتك"، بصبرٍ جميل، مفترضين أنها تنزل من بين الغيوم لتصيب سيّء حظٍّ هنا، ومنحوسٍ هناك، وفقاً لحكمةٍ عشوائيّة أقرب إلى فوضى الطّبيعة منها إلى مؤامرةٍ كونيّة. 

طيّب. ماذا حصل معك، يا طيري العزيز، أثناء العام 2020 المُقترب من نهايته؟ وكيف صرت "تفعلها" على نطاقٍ أوسع بكثير؟ صار الموضوع أكبر وأعقد من تَعثُّر جارنا الدّكانجي بصندوقة الكوكاكولا الخشبيّة، وفكشِهِ أصبع قدمه الكبير، وصفعِهِ لابنه ذي الحظ العاثر من دون سبب. أنت الآن، يا سيّد قاق، "تفعلها" على مدنٍ كاملة فتغلقها عن بكرة أبيها وأمّها وبنت خالتها، وعلى مطاراتٍ ومدارس ومسارح وملاعب، فتُحوّلها إلى مقابر في جميع أصقاع الأرض. هل أصابك إسهال؟ وهل بمقدورنا أن نوقفه ونعكس مساره؟ وكيف لنا أن نتّقي هذه الأضرار غير المسبوقة؟ وهل تنوي استشارة طبيب أو تناول علاج أو اتّباع حمية؟ وهل أزعج أحدنا صفو خاطرك، أو تلكّأ في طلب غبرة رضاك؟ شو عدا ما بدا؟ تحمّلنا منك الكثير ووضعناك على رأس أمثالنا الشعبيّة، رغم تركيز "نشاطك" على بلداننا وشعوبنا منذ عشرات السنين. صمَتنا، وقلنا ماشي الحال، أهكذا يُقابَل المعروف وحسن النّية؟ هل طلبت شيئاً ورفضناه أو ماطلنا فيه؟ هل تريد أن تحمل لقب ملك الغابة بدلاً من الأسد؟ هل تريد طابعاً بريديّاً باسمك، أم يوماً عالميّاً لتخليدك، أم جائزة نوبل؟ وليس الأمر الأخير بمستغرب، فهي، ذات يوم، مُنِحَت مقسومةً بين بيغن والسّادات، وهذان أقرب إلى فصيلة الغرابيّات، فِعلاً وممارسةً وطَيبَ أثر. 

لا تُسِيء فهمي رجاءً، يهمّني أمرك في هذه اللحظة بالذات. ولستُ وحيداً في هذا، صدّقني إذ يكاد الكون بأكمله يغرق في اليأس والذّعر من "فعلةٍ" أخرى منك! ولو عاد الأمر لي، لاخترتك شخصيّة العام 2020 الأكثر تأثيراً في غلاف مجلّة "تايم" الأميركية، بلا أدنى تردّد. وبعيداً من المجاملة أو المداهنة، سيّد قاق، أنت فعلاً بالغ التّأثير والنّفوذ. أنت مدهش. هل تعلم، مثلاً، أنك تُجسّد القدوة المثلى للسياسيين في بلدنا، حتى أننا نكاد نعلن بالفم الملآن، "نيّال من له مرقد قاق في لبنان". إذ تبيّن لنا، بالملموس والمحسوس والمشموم، أن كلّاً من سياسيينا ليس سوى "ميني-قاق" يتشبّه بك ويُقلّدك ويسعى جاهداً إلى محاكاتك في استحضار الكوارث من غيمة. فما من منصبٍ أو ملفٍ "يتولاه" إلا ويتحّول إلى مزبلة فضائح كريهة تعجّ بمستنقعات الفساد وعفن السّمسرة ووحول الصّفقات. أما تصريحاتهم السّقيمة، من سقط المتاع اللغويّ المبتذل، فهي تنزل على رؤوسنا كما تنزل "أفعالك" تماماً، وتُولِّد في نفوسنا الرّائحة ذاتها، والغثيان ذاته، والقرف ذاته. وفي هذه النّقطة بالذّات، لا بدّ لي من تهنئتك على هذا النّجاح الباهر في استنساخ سياسيينا بمهارة وحذاقة ليصيروا قيقانَ مقيتة، تنعق وتُغرّد بين الوسائل "الإع-لاميّة"، أو مشاريع قيقان غضّة جاهزة للتّفقيس والتّوريث، ترتدي ربطات العنق الزّاهية لتغطّي تلطيخنا يوميّاً "بالمآثر" النّوعية عالية الجودة.

لهذه الأسباب كلّها، فكّرتُ بك كثيراً خلال العام 2020، وأقلقني تحوّلك من نكتةٍ بريئة إلى كابوسٍ مخيف، وأرعبتني قيقنة الحياة السياسيّة بواسطتك، كأن هناك من قال ذات يوم لمدبّر الطّبيعة: أسْفِدْني قاقَك، أي أعِرْني إيّاه ليُسفِدَ حُكّامي، فكان أن تحوّلت فصيلة السياسيين عندنا إلى مسوخٍ ومصّاصي دماء، من بين أمورٍ أخرى، تتناسل وتتزاحم على نهب المغانم كتسافُد البهائم. ولو قُدِّر للفنّان الرّاحل شوشو، أن يعيش بيننا هذه الأيام، لأنشد عن أحوالنا: "مسفودين يا بلدنا"، بدلاً من "شحاّدين يا بلدنا". ذلك أن التسول صار أمراً هيّناً وبسيطاً، إزاء ما نُبتَلى به على مدار السّاعة. ماذا فعلتَ بنا يا قاق؟ وماذا فعلنا نحن، أو لم نفعل، كي نستحقّ كلّ هذا؟ 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024