أسعد قطّان عن الثنائية الرحبانية: عاصي الشرقي ومنصور الكلاسيكي

محمد حجيري

الجمعة 2021/03/12
غداة اغتيال الناشر والكاتب لقمان سليم، ركزتْ بعض الاقلام على ترجماته التي أطلق بعضها متعاوناً مع الباحث وضاح شرارة، والبعض الآخر نُشر من دون توقيعه أو باسم مستعار(مثلاً "أنا الضحية والجلاد أنا" لجوزف سعادة). والحال أن العودة إلى ترجمة سليم - شرارة، كشفت كيف ينعكس التعاطي الاعلامي والثقافي مع الترجمة الثنائية، بنوع من سوء التقدير أحياناً، وبنوع من إساءة الأمانة. ففي متابعة مجموعة من المقالات والتعليقات، يتبيّن أن بعضها نسب الترجمة إلى وضاح شرارة بمفرده ووصفها بـ"المقعرة"، و"الصعبة" و"غير الشِّعرية"، ودار الجديد نفسها في فايسبوكها، نسبتْ "صنعة الترجمة" إلى الراحل لقمان، ووضعت شرارة في خانة "المشرف"...

والالتباس حول الترجمة المشتركة ناتج عن تكهنات وتخمينات وتوهمات... ولا يختلف الأمر في الكتابة المشتركة أو الكتابة الثنائية أو "الكتابة بأربع أيدٍ"، بحسب التعبير الفرنسي، التي مورست بكثافة في تاريخ الأدب العالمي. وقد ألّف ميشيل لافون وبونوا بيتيرس، كتاباً بعنوان "نحن شخص آخر: بحث في ثنائيات الكُتّاب" الذي يلقي الضوء على تجارب مهمة، بدءاً من الأخوين غونكور، وصولاً إلى الفيلسوفَين جيل دولوز وفيليكس غواتاري... وفي العالم العربي هناك نموذج جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، في تجربتهما الروائية: "عالم بلا خرائط" الى جانب العديد من التجارب الأدبية والشبابية، وتجربة محمود حسين، أو الاسم المستعار للثنائي المصري بهجت النادي وعادل رفعت... لا شك في أن الكتابة المشتركة، نعمة ونقمة في الوقت نفسه. فتجربة دولوز وغواتاري فيها الكثير من المد والجزر، والمعروف أن الرجلين كانا من طبيعتين مختلفتين، فالأول – دولوز – فيلسوف كلاسيكي، انعزالي، أما الثاني – غاتاري – فقد كان "مناضلا" ثورياً. ويطرح الكاتب الجزائري حدجامي عادل سؤالاً عما جعل من رجلين متباعدين متعارضين إلى هذا الحد، ينخرطان في توقيع كتب مشتركة، ويجيب: لقد كان الغالب على منهج الدارسين في التعاطي مع هذا السؤال هو الإهمال أو رد غاتاري إلى دولوز أو التغاضي عن ذكر غاتاري، بسبب عدم المعرفة بشروط العلاقة التي ربطت بينهما، غير أن معطيات جديدة ظهرت (رسائل "حوارات" – نصوص "غير منشورة") أصبحت تقدم إمكانات أولية للإجابة..

ما يقال عن دولوز وغواتاري، يقال عن عبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، إذ تبيّن للشاعر محمد علي شمس الدين، بعد متابعته روايتهما "عالم بلا خرائط"، أن هذا التشارك لم يستطع أن يطمس ملامح أسلوبين في فصول الرواية. فمنيف سردي نثري في أسلوبه، أما جبرا فشعري فانتازي. ويضيف شمس الدين: "قال لي يومها جبرا أن الاتفاق تمّ بين الاثنين على أن يبدأ هو كتابة الفصل الأول من الرواية من دون أي اتفاق مسبق على الخط أو الخطة أو الهدف، هكذا إذن: كتب جبرا فصلاً أول من رواية ما، قام بتسليمه إلى منيف، وقرأه وتابع بدوره كتابة الفصل الثاني، وهكذا حتى تمت كتابة فصول الرواية بالتناوب. وفي النهاية اجتمع الروائيان في جلسة مشتركة أخيرة، وطلعت الرواية على هذه الصورة". وكلام شمس الدين عن الرواية كان في معرض حديثه عن تجربة الأخوين رحباني، فقال: "ليس لديَّ أية معلومات خاصة تتعلق بكيفية وتقنية كتابة الأخوين رحباني لنصوصهما الشعرية والمسرحية المشتركة، وكان هناك من يغمز خفيةً من قناة منصور معتبراً أن عاصي هو الأساس.. إلا أن هذا الادعاء لم يُثبت ببينة.. فقد تابع منصور بعد وفاة عاصي كتابة الشعر والمسرحيات.. ولم يظهر كبير فرق بين العصرين. كما أن ثمة شهادةً ثمينة قالتها فيروز، وهي واسطة العقد الرحباني الفريد وأكثر الناس قرباً من الأخوين ومعرفةً بأحوالهما، فإنها حين سُئلت عن العلاقة والفرق بين عاصي ومنصور قالت: "إنهما متشابهان كحبَّتي المطر"...

هناك الكثير من القيل والقيل في هذا المجال، خصوصاً بعد الخلافات التي حصلت بين أبناء الجيل الثاني من الرحابنة، ونصل إلى بيت القصيد، في دراسة قدمها الباحث أسعد قطان عن تجربة منصور وعاصي الموسيقية والشعرية، وشكلت الجزء الأكبر من كتابه "عن جبال في الغيم؛ مطلات دراسية على إرث الأخوين رحباني وفيروز"، فهو ينطلق في بحثه من منحى مختلف عن محمد علي شمس الدين، ليس من بوابة الكلام الشعري و"الروح الواحدة"، بل من منحى البحث العلمي..

أسعد قطّان، الآتي من دراسة اللاهوت الأرثوذكسيّ والمتخصص في التاريخ الكنسيّ وآباء الكنيسة ونظريّات فهم النصوص (herméneutique). بخلاف ما يتوقّع البعض، لقد كان للدراسة اللاهوتيّة دور حاسم في تعزيز اهتمامه بالأدب والثقافة عموماً، وذلك لما تفتحه هذه الدراسة من آفاق في دراسة التاريخ واللغات والحضارات القديمة والأديان. لكنّ هذا الاهتمام يعود إلى مرحلة التحصيل المدرسيّ، فضلاً عن ولعه بالقراءة. بعد عودته إلى لبنان العام 2000، وذلك بعد حوالى عشر سنوات أمضاها في اليونان وألمانيا بدافع التحصيل العلميّ، أحس أنّه يعيد اكتشاف اللغة العربية، فقرأ الكثير من الأعمال الأدبية المعاصرة التي كانت قراءتها قد فاتته خلال سني تحضيره للدكتوراه. تزامن هذا مع بدء نشوء القصص القصيرة التي نُشرت في ما بعد في "قاسم شنايدر في بيروت" و"عندما ضجر التنين".


هذا الهاجس الأدبيّ يترافق مع اهتمام قطان بالموسيقى الشرقيّة عموماً، وتراث الأخوين رحبانيّ وفيروز خصوصاً. وكانت فكرة تحويل بعض هذا الاهتمام إلى مادّة علميّة تراوده منذ أيّام الدراسة الجامعيّة. ولقد حاول تنفيذ هذه الفكرة في كتابه "عن جبال في الغيم". يقول: "إن الجبال التي تخترق الغيم، عاصي ومنصور ‏وفيروز، تظلّل، منذ الآن هذا الشرق برمّته".‏

ينطوي الكتاب على خمسة بحوث تعكف على جوانب عديدة من إنتاج الأخوين رحبانيّ الأدبيّ ‏والموسيقيّ، بما فيه الأعمال المسرحيّة التي وُضعت لفيروز. تتوسّط الكتاب دراسةٌ طويلة اقتضى إعدادها تنقيباً وكتابةً استمرت حوالى ‏خمس سنوات وردت بعنوان منصور "ينحت من صخر" وعاصي "يغرف من بحر"، وهي أوّل محاولة علميّة لاستنباط مفتاح منهجيّ يساعدنا على التمييز بين ما هو لعاصي الرحبانيّ وما هو لمنصور الرحبانيّ في الموسيقى والشعر، وذلك انطلاقاً من القصائد الرحبانيّة كنموذج. يقول لـ"المدن": "الموضوع كان يشغلني منذ سني الدراسة الجامعيّة. كنت أشعر أنّ هناك خطّين في موسيقى الأخوين، خطّ فيه جملة موسيقيّة سهلة ومغناج وخطّ فيه فذلكة موسيقيّة وإحساس أقلّ. يضاف إلى ذلك اقتناعي بأنّ منظومة الأخوين فيها شيء من الأسطرة التي تسقط أمام التحليل العلميّ. من الواضح أنّ مستوى الإنتاج الموسيقيّ تدنّى بعد مرض عاصي ثمّ موته. وبعد ذلك قامت النقاشات التي نعرفها بين ورثة الأخوين، وكشف محمود الزيباوي، وثائق قديمة تشير إلى عاصي منفرداً أو منصور منفرداً في بعض الأعمال القديمة. فشعرت بأنّ المفتاح المعرفيّ الذي يرشدنا إلى طرف الخيط بات موجوداً ورحت أستمع بدقّة إلى تراث الخمسينات، لا سيّما القصائد، فترسّخ لديّ الشعور بأنّ التمييز ممكن، والأهمّ: ممكن تدعيمه علميّاً ومعرفيّاً، وهذا ما لم يجرؤ أحد على القيام به (آل سحّاب مثلاً)، علماً بأنّ السؤال قديم. فقد طرحه محمّد عبد الوهاب وجورج ابراهيم الخوري ونزار مروّة إلخ".

يعرض قطّان لشهاداتٍ من شأنها إلقاء بعض الضوء على الإشكالية. وهو يستخلص من شهادة الناقد الموسيقى نزار مروّة، مثلًا، أنّ عاصي تميز بقدرته على التوزيع الموسيقي للمقامات الشرقية، ما أخرجها من منطق التخت الشرقي، الذي تلعب فيه الآلات غير الإيقاعية كلها الميلوديا ذاتها. ويورِد الكتاب شهادة لزياد رحباني تعتبر ألحان منصور الرحباني كلاسيكية أكثر، سواء كانت مستمدة من الألحان الكنسية، أو من الموسيقى المصرية في نهايات القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20.

تستند مقاربة قطان إلى منهجية بسيطة تقوم على دراسة المواصفات التلحينية والتوزيعية التي تعزوها المصادر الموثوقة إلى عاصي أو منصور الرحباني، والتفتيش عن هذه المواصفات في القصائد التي اعتُمدت نموذجًا، وبالتالي اكتشاف هوية ملحنها.

بالطبع، بديهي البحث العلمي في موسيقى الأخوين رحباني وكلماتهما، لكن من غير المنطقي الاندفاع الى التقليل من شأن منصور وإلحاق الغبن به بعد رحيل شقيقه عاصي. لا يدرك كثر أن عاصي ومنصور كانا في مملكة فيروز وحولهما مجموعة من الشعراء والمستشارين والمهتمين، ومنذ رحيل عاصي تفككت المملكة، ذهب كل واحد في اتجاه.

يقول قطّان لـ"المدن": "المملكة تفكّكت والملكة رحلت. أعتقد أنّ العمل الوحيد الذي يمكن أن نحاول تحليله من وجهة نظر لمسات عاصي فيه هو "صيف 840" (عاميّة أنطلياس)، لأنّه يعود إلى ما قبل موت عاصي بنسبة ما ربّما تكون كبيرة. الأعمال الأخرى مختلفة وقد حاول منصور أن يحقّق فيها ما كان يحبّه ويراوده: استلهام التاريخ والشخصيّات التاريخيّة، الموسيقى "الضخمة" والأوركستراليّة إلخ. ولتعويض النقص في القريحة الموسيقية استعان بأولاده كما كان يستعين بالياس وزياد بعد مرض عاصي، في مسرحية المحطّة مثلاً".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024