سبايك لي.. أوسكار لا يأتي أبداً

محمد صبحي

الأربعاء 2019/02/20
قضى سبايك لي أكثر من نصف حياته في صناعة أفلام تفاوتت جودتها وأصالتها، لكنها اشتركت جميعاً في قضّ مضجع الرجل الأبيض المستقوي بعنصريته وسلطته. الآن، هو في الـ61 من عمره، مكتسباً الاعتراف به كسينمائي صاحب تأثير واضح، قيمة وخطاباً، في بعض النقاشات الثقافية الأكثر إلحاحاً من أي وقت مضى في الولايات المتحدة. النقاشات التي تفعل أصداؤها الآن فعل السحر على أكاديمية الفنون والسينما في هوليوود، الجهة المانحة لجوائز الأوسكار.


للحصول على جائزة كهذه، تمثّل لكثيرين أعلى تتويج يمكن لمَن يعمل في أقوى صناعة ترفيهية عالمية التطلع إليه، فإن هذا النوع من النقاشات له أهمية كبيرة، ويمتلك قوة رمزية أكبر بكثير مما كان عليه في لحظة أخرى من الماضي ، أي خلال تسعين عاماً هي تاريخ تلك الجائزة الملعونة بضحاياها على مرّ السنين. فقط، وبمناسبة الحديث عن فيلم سبايك لي، تكفي الإشارة إلى أن النسخة الحالية تشهد أول اعتراف جاد من الأكاديمية بالسينمائي المزعج، بترشيحه لنيل الجائزة في فئتين مرة واحدة. ربما هو التكفير المتأخر عن أخطاء تاريخية وفنية جسيمة، أو التجميل اللازم في زمن المدّ العالي والنقاشات المحتدمة عن تواريخ غير منتهية وممارسات مستمرة في أميركا اليوم المنكوبة برئيس أبيض مجنون لا يعرف الخجل إلا حين يُطلب منه مناداة القتلة العنصريين بأوصافهم الملائمة.

على رأس قائمة النقاشات، تأتي مسألة التعددية، وهي قضية تثيرها الأكاديمية اليوم بمزيد من الحكمة والدبلوماسية أكثر من سبايك لي نفسه، وهو رجل ودود ذو طباع لطيفة للغاية ومفاهيم راسخة لم تمنعه من مناكفة الكيان ذاته الذي قرر في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 منحه أول جائزة أوسكار له… أوسكار فخرية. "يمكننا التحدث عن الأمر طوال الوقت، لكننا نحتاج إلى بعض المناقشات الجادة حول التنوع، واتخاذ موقف ما بشأنه"، قال لي في تلك المناسبة أمام أعضاء الأكاديمية والضيوف المختارين. في الحفل التالي الأقل أهمية والأكثر صرامة، الخاص بهيئة مديري الأكاديمية، أنهى لي الحفل بعبارة كان يجب لها أن تجبر العديد من مديري هوليوود التنفيذيين على ضخّ الدم الحار في أبدانهم والنظر إلى الأرض: "من الأسهل لشخص أسود أن يصبح رئيساً لأميركا من أن يصبح رئيساً لاستديو في هوليوود".

بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر من تلك الليلة، يصل سبايك لي، إلى حفل الأوسكار التسعين، مع أول ترشيح في حياته كمخرج عن أحد أفلامه. إلى ذلك، تضاف خمسة ترشيحات أخرى: أفضل فيلم، وأفضل سيناريو مُعدّ للسينما، وأفضل موسيقى، وأفضل مونتاج، وأفضل ممثل مساعد. ماذا حدث في المنتصف وأوصلنا إلى هنا؟



على ما يبدو، شيئان. أولاً، يبدو أن الأكاديمية أخذت على محمل الجد قرارها بفتح اللعبة على تلك الأسئلة حول التنوع العرقي والثقافي الذي كان يقلِق لي كثيراً في العام 2015. العديد من الأفلام التي اصطفتها الأكاديمية لجوائزها هذا العام، تشير إلى هذه المسألة وتطرح –بتفاوت واضح- المعضلات والمناقشات والصراعات والمشاكل حول هذا الموضوع سياسياً واجتماعياً. ثانياً، قام منظمّو الأوسكار بما يفعله كل خائب يحاول استدراك خطئه: المزايدة. نعلم أن شعوراً بالذنب يتملّك الأكاديمية، حقيقياً كان أم تمثيلياً، هو السبب المنطقي الوحيد وراء "توزيع" ترشيحات جوائزها على أعضاء مجتمع السينما من الملونين والمثليين (والنساء أحياناً). لكن الكوتا ليست معيار استحقاق، أو تقدير، وما تفعله الأكاديمية يشبه هرولة شخص متأخر عن موعده على طريق زلقة في يوم ممطر. وفي كافة الأحوال، فإن اختيارات الأكاديمية من دون تلك الطريقة المستجدة، لطالما كانت إشكالية ويحوطها الكثير من الجدل والحديث المكرر عن قيمتها في مجال سينمائي أوسع وأقيم، بالبداهة، من مركزه الهوليوودي وصناعته الترفيهية.

بالعودة إلى سبايك لي، فإن إغفال الأكاديمية له يعود إلى ثلاثة عقود بالضبط، عندما حصل عمل سينمائي لافت (ومُفعِّل رئيسي للنقاشات في ذلك الوقت) هو فيلمه "افعل الشيء الصحيح" (1989)، فقط، على ترشيح أوسكار لأفضل سيناريو أصلي. في حين أنه في السنة ذاتها، ذهب أوسكار أفضل فيلم إلى فيلم متواضع تناول قضايا فيلم لي نفسها، إنما بطريقة سطحية للغاية، هو "قيادة السيدة دايزي" لبروس بريسفورد، ربما فقط لأن مخرجه رجل أبيض وبطلته امرأة يهودية. لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي كان يجب على لي أن يلعب فيها دوراً رائداً في سباق الجائزة. يتساءل الكثيرون عن سبب تجاهل أفلام بقيمة "مالكوم إكس" (1992) و"خدعة" (2000) و"الساعة الخامسة والعشرون" (2002) و"شي- راق" (2015) من قبل الأكاديمية. الآن، في عام "كتاب أخضر" و"المفضلة" و"بلاك بانثر" و"روما" و"فايس"، العناوين التي تعيد النقاش حول السلطة والتمييز والمكائد السياسية والتفسيرات الذكورية وأسئلة أخرى حول الحالة الراهنة للعالم باستعادة وقائع وحوادث تاريخية؛ يظهر "بلاكككلانسمان" في سباق الأوسكار كالتفاتة تقدير متأخر لاستحقاقات سينمائية كان سبايك لي جديراً بها في مناسبات سابقة.

لكن الأوسكار، كما يعرف الجميع، لا تذهب غالباً إلى الفيلم الأجدر والأفضل. من بين جميع الأفلام المتنافسة هذا العام، فإن "بلاكككلانسمان"هو الذي يعكس ويرسم بشكل أفضل الصورة الاجتماعية والسياسية للولايات المتحدة تحت إدارة دونالد ترامب، الذي وصل لتوه إلى منتصف فترة رئاسته. في الوقت ذاته، لا يكتفي BlackkKlansman بنضاليته أو تصدير القضية التي يتناولها طوال الوقت، فهو فيلم جذاب وممتع للغاية من بدايته إلى نهايته، كعادة سبايك لي، يتضمن مزيجاً حكيماً بين أنواع فيلمية مختلفة في حالة من التكامل الفعّال: هناك كوميديا​​، هناك دراما، هناك تشويق، هناك رومانسية، هناك مكائد داخلية. وهناك أيضاً بيان ضمني ينتمي إلى الدليل العملي للسينما السياسية الجيدة، تأتي عبره رؤية لي حول عدوانية السود مقابل ادعاءات التفوق الأبيض، ليس بإشهاد المتفرج عليها فقط أو إبلاعه إياها، بل بإشراكه في فهمها والإلمام ببعض أسبابها. يضاف إلى كل ذلك مكون كلاسيكي، بنائياً وتنفيذياً، يتجسّد في الشخصية التي يلعبها هاري بيلافونتي، وتقوم بسيادة مطلقة لأحد أكثر تسلسلات الفيلم عاطفية وتأثيراً.

هناك شيء آخر، أساسي بالمناسبة، تذكره الأكاديمية دائماً كسبب للفوز بالأوسكار: الجدارة والتميز في المكونات المختلفة للعمل السينمائي. على عكس ما يحدث في المهرجانات الكبرى، هنا جوائز للتصوير السينمائي والمونتاج والموسيقى والصوت والتوجيه الفني والأزياء والماكياج. كل هذه الجوانب تتألق بشكل طبيعي في "بلاكككلانسمان"، لكن يفوقها تحديداً أربعة عناصر بارزة: التمثيل والسيناريو والإخراج والإنتاج (وهي باختصار، ما تلتفت إليه الأكاديمية عند اختيار الفيلم الأفضل). لكن حين النظر إلى الترشيحات التي حصل عليها الفيلم، يلاحظ غياب مريب لجون ديفيد واشنطن (بطل الفيلم) رغم تقديمه أداء لافتاً يفوق بعض من رُشّحوا لجائزة أفضل ممثل. لكن هذا ليس مستغرباً، إذا ما وضعنا في الاعتبار إهمال الأكاديمية أساساً لأكثر ممثل يستحق جائزة التمثيل هذا العام: إيثان هاوك عن دوره في الفيلم المظلوم "فيرست ريفورمد" للمظلوم أيضاً بول شرايدر.

مرة أخرى، ماذا يجب أن يحدث حتى يفوز "بلاكككلانسمان" بأوسكار أفضل فيلم؟ ربما توافق جماعي في الرأي بين أعضاء الأكاديمية، وهو ما لم يحدث حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار مجيئه في المركز الثالث في احتمالية الفوز بالجائزة بعد كل من "روما" و"كتاب أخضر"، وفقاً لموقع "غولد ديربي" المتخصص في توقعات الجوائز الهوليوودية. أو ربما فيض لحظي من شعور الذنب يمرّ في بال المصوّتين، هو كل ما يحتاجه "بلاكككلانسمان" للفوز، رغم أن هذا الاحتمال ليس مضمون النتيجة، بوجود فيلم سهل التأثير والهضم مثل "كتاب أخضر" في المنافسة. والحقيقة، أن وجود الفيلمين في منافسات العام الحالي لا يترك مجالاً إلا لاستدعاء العام 1989 مرة أخرى، وفيلم "قيادة السيدة دايزي"، الذي يبدو فيلم بوب فاريلي مجرد "استنساخ مقلوب" له مع تبديل الأدوار (سائق أبيض عنصري يقود سيارة عازف بيانو أسود شهير، في مقابل سائق أسود ودود يقود لسيدة يهودية عنصرية). وهي مصادفة لافتة في الحقيقة، تخبرنا، ضمن أشياء أخرى، أن هوليوود لم تراوح مكانها، حتى بعد استبدالها ملابسها القديمة والقول بأن عهداً جديداً سيبدأ مع فتح أبوابها لأعضاء جدد وانفتاح مركزها (المكون بالضرورة من رجال بيض) على أصناف أخرى من البشر والثقافات.

إذا كانت أكاديمية هوليوود تريد فعلاً الاستجابة لما قاله سبايك لي في 2015، وتريد الالتزام بتقليدها التكفيري عبر الاعتراف بفنان ما بعد إهمال طويل غير مستحق؛ يجب أن يفوز "بلاكككلانسمان" بجائزة هوليوود الكبرى هذا العام. لكن هذا لن يحدث، للأسف.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024