"ويسترن" فاليسكا غريسباخ: شوق الرجال وغربة الجغرافيا

محمد صبحي

الإثنين 2017/11/13
هناك عبارة مشهورة للمخرج السويسري جان لوك غودار، يقول فيها إن كل ما تحتاجه كي تصنع فيلماً هو فتاة وبندقية. وهناك عبارة أخرى أقل شهرة للمخرج نفسه تتعلق بأفلام الويسترن تحديداً، يقول فيها إن أفلام الويسترن تحشد نفسها بالأجساد الذكورية والمناظر الطبيعية والعنف.


فيلم "ويسترن"(*)، وهو الثالث للمخرجة الألمانية فاليسكا غريسباخ، بعد غياب 11 عاماً عن الوقوف وراء الكاميرا، عن عامل بناء ألماني يقود حفّاراً في نهر بلغاري ويملك كذلك شيئاً من سمات رعاة البقر في العصر الحديث. يرتدي وزملاؤه أدواتهم بدلاً من البنادق، أما السترة الجلدية التي يرتديها رئيسهم، فربما تعود إلى باحث عن الذهب في الصحراء. تنقل غريسباخ ميثولوجيا البراري الأميركية إلى بلدة بلغارية بطبيعة جبلية، ويبقى العنف نفسه ضمن حدود الفيلم وارتباطه بحكايته وتطوراتها. حتى إن عنوان الفيلم نفسه يبدو "كاجوال" تلعب به المخرجة مع النوع. "ويسترن" يجسد لقاء بلغارياً-ألمانياً على مستويات عديدة. وفي الوقت نفسه، يحتوي على كل ما ينتمي إلى فيلم ويسترن كلاسيكي: البطل الكوول، وخصمه الأقل جاذبية، المرأة المطمع، الحصان، البندقية، ومشاهد مفتوحة المدى للطبيعة الجبلية والغابات. وفي حرارة خفقان الصيف البلغاري، يسري في الأجواء توق للمغامرة واختبار الجديد. أما الذباب الذي يهبط على الجباه المتعرّقة لعمال البناء الألمان، فيحكي قصة الأجساد ووقوى الطبيعة. هو فيلم مفتوح للقراءة على أكثر من مستوى. إذا أردته نسويًا، يفكك تمثيلات الذكورة في مجتمع رجالي منغلق، فهو مناسب تماماً. وإذا وجدته استقصاءً لمسائل الهوية وسوء الفهم بين البشر، فلن تكون قد ابتعدت عن الحقيقة. أما إذا رأيت فيه حكاية رجل وحيد يسعى لمعرفة ذاته، فالمهمة ستكون أسهل بكثير.

في قلب الفيلم يظهر مينهارد (مينهارد نيومان)، بطلاً صامتاً يملك تأثيراً ساكسونياً، رجل طويل القامة، نحيف، بملامح منحوتة يتوسطها شاربان مميزان، يعمل في أرض غريبة من أجل المال. وبقليل من متابعة الجُمل الحوارية لمينهارد، يتكشّف للمتفرج ما يكفي ليسبغ عليه هالة الذئب الوحيد، الساعي وراء حلم ضبابي أو استراحة هادئة في أيام لا يتمنى فيها سوى راحة البال. قبل سنوات، كان مينهارد جنديًا في أفغانستان والعراق وأفريقيا، لكنه في وقت لاحق من الفيلم، بعد سهرة سُكر، سيخبر أحد البلغاريين الذين لا يجيدون الألمانية، أنه فقَد شقيقه. ولأنه بلا عائلة، وبلا تاريخ، وحتى عمره لا يمكن تحديده بدقة، ففي ذلك كله ما يشير إلى حقيقة أن مينهارد لديه أحلام أكثر مما يصرّح به، ومشاعر أكبر مما يظهر، تفضحها تعابير وجهه الصامتة في كل مشهد.


في عزلة جبال غير بعيدة عن الحدود اليونانية، يبني مينهارد وزملاؤه محطة صغيرة للطاقة الكهرومائية. وفي المدى الشاسع للطبيعة البلغارية، يظهر صغر حجم الأفراد الألمان داخل هذا المشهد. تأكيدات الهوية، التي يصرّ عليها بعض العمال الألمان بروح المحتلين القدامى، تظهر من خلال نصب العَلَم الألماني فوق تكعيبة خشبية تعلو الربوة الجبلية حيث يقطنون. لكن العلَم بألوانه الثلاثة، يبدو مسكيناً للغاية حين ينفتح الكادر على مشهد حاضن أوسع بكثير.

في "ويسترن"، يحضر سؤال الهوية والتواصل الإنساني عبر أكثر من لقاء مربك وكاشف مع سكان القرية القريبة من معسكر العمال الألمان. ورغم الجلافة والإهانة الألمانية التي ستكون من نصيب ثلاث سيدات بلغاريات على شاطئ النهر القريب، سيعبر الجميع، بطريقة ما، ذلك المطب الأولي، وستنمو أُلفة ألمانية بلغارية، بشروط غير مكتوبة بين العمال والسكان المحليين على اختلاف أدوارهم. يلتقي بطلنا الصامت بالسكان المحليين مصحوباً بفضول واحترام، بينما سيكون الشك والارتياب من نصيب زملائه. ومثل باحث أنثروبولوجي، تستكشف فاليسكا غريسباخ خليطًا من مشاعر التفوق والسامية على نحو مقلوب. أو، بعبارة أخرى، يجد الألمان أنفسهم هنا في مصيدة الإكزنوفويبا (رهاب الغرباء). تلك الكراهية نفسها التي يعانيها النازحون في ألمانيا حالياً، إلى درجة أن يخرج رئيس حزب يميني قبل أيام داعياً إلى إعادة جميع اللاجئين إلى بلدانهم.



وبطبيعة الحال، يحتاج الويسترن الحقيقي إلى مبارزة بين طرفين. وهي تحضر هنا بين مينهارد، ورئيسه فينسينت (راينهارت ويترك)، حين يدخلان في منافسة للظفر بامرأة شابة من أهل القرية (هي نفسها الشابة التي أهانها فينسينت في بداية الفيلم، وهي أيضاً الوحيدة التي تتحدث الألمانية). بعد ذلك، يمسي موضوع التنافس، ذلك الحصان الأبيض الذي كان أول ما ظهر للكتيبة الألمانية من كائنات حية تخصّ القرية البلغارية. فبينما يملك مينهارد حدساً ورقّة في معاملة الحصان، لا يعرف فينسينت سوى منطق الإجبار في تعامله معه. الأمر هنا يتعلّق باستراتيجيتين بشريتين في التعامل مع الطبيعة والغرباء: واحد يريد أن يفهم، والآخر لا يعرف سوى إصدار الأوامر.

كيف تسعى غريسباخ إلى خلق بورتريه رومانتيكي لذلك البطل الوحيد، وفي الوقت نفسه تثير الأسئلة حول مسائل "كبرى"؟ ببساطة، تسيّر حكاية فيلمها لإظهار مجموعة عمال البناء الألمان كمجتمع خال من النساء، لا تحضر فيه المرأة إلا باعتبارها فانتازيا غير متحققة، صورة لصورة، بل كاستحضار لرغبة بعيدة المنال. بينما، في الجانب الآخر، الريفي البلغاري، تحضر المرأة بأشكال مختلفة، ويظهر جيداً ذلك الاحترام الذي تكنّه أسرة أدريان، الذي صار أشبه بصديق روحي لمينهارد، للجدَّة، كبيرة العائلة وبرَكتها. شعور هؤلاء الرجال الألمان الغلاظ بنوع من الوحدة الوجودية والاستبعاد الاجتماعي، نتيجة ابتعادهم عن النساء، هو حقيقة يمكن الاحساس بها مادياً، مثلما نستشعر، عبر أجسادهم، حرارة الأراضي البلغارية ورطوبتها، أو برودة زجاجات البيرة عند شاطئ النهر. وهي حقيقة تعود أسبابها إلى تاريخ من الجماليات المحددة، وانحيازات في فهم التاريخ نفسه كشكل من أشكال فهم معضلة الوجود الإنساني.

في الوقت نفسه، ثمة تآلف بين المناظر الطبيعية، والبنية الدرامية المطوّرة على مهل. تستنطق غريسباخ اليومي والقديم والأسطوري بشكل مثير للإعجاب. كما أن مهارة الممثلين غير المحترفين، بقيادة مينهارد الذي تقترح شخصيته نسخة تيوتونية من نجوم أفلام الغرب الأميركي، معطوفة على التفحّص الفني الذكي لقضايا وأسئلة كبيرة، كلها عوامل تساهم في إضفاء حالة من المينيمالية (أسلوبية الحد الأدنى) الضرورية للفيلم. فقد شارك هؤلاء الممثلون، غريسباخ، في كتابة الحوار، وأجزاء من قصة الفيلم. لكن المتفرج لن يشعر، ولو للحظة، بأن هؤلاء الرجال يؤدون أدواراً، بل إن ما تقوله ألسنتهم وتصرفاتهم هو الطبيعية بعينها. والحقيقة، أن أي مُطّلع على الأعمال السابقة للسينمائية الألمانية الموهوبة، سيعرف أن الإنجاز المتحقق في خروج حوار "ويسترن" بهذا الشكل، الصادق والطبيعي، هو إكمال لمسار بدأ منذ فترة طويلة، لا يعتمد على المعطيات الجاهزة، بقدر ما يستفيد من خبرة الحياة واختبارها بالفعل.


في فيلمها الأول "كُن نجمتي"(2001)، نتابع قصة عن المعنى الحقيقي للحب، بطلتها فتاة مراهقة (قامت بدورها ممثلة غير محترفة في الرابعة عشرة من عمرها)، مصورة بأسلوب روائي وثائقي تحضر فيه بيئة الشخصيات بطريقة فعّالة، وتتخللها مَشاهد لركوب الدراجات الهوائية وسط الطبيعة الريفية. في فيلمها الجميل، "شوق" (2006)، تعود غريسباخ مرة أخرى إلى الريف الألماني، لتروي قصة حدّاد ورجل إطفاء عالق بين امرأتين يحبهما: زوجته، ونادلة شابة في بلدة مجاورة. هنا ينشأ التوتر الدرامي، إثر المقابلة بين الحياة اليومية للشخصيات وتمجيدها من خلال سرد قصة حب مأساوي كبير: إيلا، زوجة محبة تقف وراء سور البيت في انتظار رجلها، الرجل الذي يأتي من هناك، من بعيد. ولعل اللافت هو التشابه الكبير بين قرية "شوق"، والقرية البلغارية التي تحضر في "ويسترن". هذا الأخير يحمل بداخله أيضاً توتراً مشابهاً، بين كاميرا مراقِبة بهدوء (برنارد كيلر) ومونتاج سلس (بتينا بوهلر)، بين النظرة الواقعية للشخصيات والشوق لتحويل الفيلم إلى ويسترن حقيقي. في كل لحظة من لحظاته، يقع "ويسترن" في منتصف حياة ما، وفي كثير من لحظاته، يكون أكبر من الحياة.

بعيون مينهارد، ندخل عالم أدريان، عالم قرية منعزلة قليلة السكان، عالم أرضي يطبعه العمل المستمر والاحتفالات السعيدة. هناك عائلات مزّقتها الصعوبات الاقتصادية للبلد، فاضطر الآباء والأبناء للسفر والعمل في بلدان أجنبية. وهناك شوق قديم للاخضرار، لا يزال ينبض بداخل نساء عبرن منتصف أعمارهن. يمكن للمتفرج أن يرى الألوان الناعمة لضوء الفجر فوق ظلال الجبال، وأن يسمع جملة امرأة شابة عادت إلى قريتها بعد خمس سنوات من العمل في الخارج: "أفتقد هذه القرية". هناك شاعرية هادئة على طول الفيلم. وفي وقت ما، تنتشي القرية بالكحول فتذوب المشاعر وبهجة الحواس والصراعات والمنافسات والموسيقى، وتندمج جميعاً في رقصة مفتوحة على التأويل. وفي النهاية، يبقى مينهارد، الذئب الوحيد الذي لا ينتمي، لا إلى البلغار أو الألمان. يبقى ذلك الويسترني الغريب، سواء اختفى في الغروب الأميركي أو في الليل البلغاري.


(*) عُرض في بانوراما الفيلم الأوروبي بالقاهرة (من 8 إلى 18 تشرين الثاني).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024