إبراهيم ناجى.. صورة جديدة لشاعر "الأطلال"

أسامة فاروق

الجمعة 2021/11/19
في صيف 1981 استضافت سامية محرز، الروائي جمال الغيطاني في منزل أسرتها لمناقشة موضوع أطروحة الدكتوراه عن أعماله التي كانت بصدد إعدادها. استوقف الغيطاني صورة كبيرة الحجم للشاعر إبراهيم ناجي في صدر الصالون الأرستقراطي الواسع، فيسأل "هو الدكتور ناجي بيعمل إيه عندكوا؟" ليكتشف أن محرز حفيدة الشاعر الرومانسي الكبير، يثني الغيطاني على أعمال ناجي والدور الذي لعبه في الأدب العربي الحديث، ثم يعلق: "تصدقي، إنتي شبه جدك بالظبط"، وهو التعليق الذي صدمها في البداية "أنا شبهه؟ إزاي يعني؟ صحيح أنني ضئيلة الحجم مثله، ولكن أين أنا من صلعته العريضة ونظرة عينيه الساهمة وأنفه الضخم وشفتيه الغليظتين!". لكنها بعدما تجاوزت الصدمة، بدأت تنتبه إلى ما يربطها بصاحب الصورة بعيدا عن القرابة، وبدأت تأخذ الصورة نفسها أبعادا جديدة، وبعد 40 عاما على هذا اللقاء تقرر سامية محرز أن تقدّم صورة جديدة لجدِّها.

في كتابها "إبراهيم ناجي زيارة حميمة تأخرت كثيرا"، الصادر عن دار الشروق تستعيد سامية محرز اللقاء السابق، وتحلل تلك اللقطة التي كانت بمثابة الصورة الرسمية لإبراهيم ناجي. تقول إنها التقطت غالبا في سنواته الأخيرة، بل ربما قبل رحيله ببضعة أشهر "فالشيب قد زحف واضحا على جبينه، ونظرة العينين مفعمة بمسحة حزن وألم دفين. إنه لا يتطلع إلينا. لا يرانا أو هكذا يبدو. هو يحدق إلى أفق بعيد غير مكترث بوجودنا". الصورة التي اختارها بعد ذلك أكثر من فنان لرسمها صاحبت الكثير من أعمال ناجي المطبوعة وصاحبت بعض المقالات في الصحف أيضا وبدت وكأنها الوحيدة المتوافرة له. كانت الحفيدة ترى أن هناك شيئا ما وراء تلك النظرة، بل تعتقد أحيانا أن ملتقط الصورة المجهول كان يعرف شيئا عن انكسار صاحبها!

جاءت سامية محرز إلى الدنيا العام 1955 بعد رحيل جدها بعامين، ورغم أنها لم تره لكن تقول إنه كان ثمة حاجز بينهما، لم تكن هيمنة الصورة وحدها السبب في هذا الجفاء بل لأن قصيدة جدها "العودة" كانت مقررة عليها وعلى ملايين الطلاب غيرها في المدارس، وكانت تخشى دائما من سخرية زملائها الذين تسربت إليهم صلة القرابة التي تجمعها بالشاعر "وظفوا سخريتهم سلاحا للانتقام من النص المقرر ومن صعوبته على فهمنا المحدود ناهيك عن مقدرتنا على تذوق دلالة القصيدة وصورها الشعرية في هذه السن المبكرة"، اختارت التمرّد والابتعاد وزادت حكايات العائلة عنه كأب وزوج مثالي الفجوة بينهما، اعتبرتها مجرد حكايات وأساطير جميلة، عن شخص لا تعرفه لكنه يهيمن على حياتها بشكل ما، حتى عندما اختارت التخصص في مجال الأدب واعتبرت الأسرة أن "مفتاح الفرج"، قد جاء أخيرا وأنها بالتأكد ستسير على خطى جدها لتصبح مثله. آثرت التمرد والابتعاد مجدداً، بل "المقاومة" كما تقول واختارت التخصص في الرواية الحديثة  "لم أدرس أعمال إبراهيم ناجي ولم أدرّسها قط. تغييب يمزج بين مخاوفي من وطأة حضوره وثقل إرثه".

لكنه رغم ذلك سعى إليها واختارها القدر هي بالتحديد لتزيل الغبار الذي تراكم على صورته.

رحل إبراهيم ناجي تاركا أرملة وثلاث بنات: أميرة، وضوحية، ومحاسن التي توفيت شابه لازال في الثامنة والعشرين، وتوفيت ضوحية الابنة الثانية في المهجر، بالتحديد في مدينة سان دييغو في كاليفورنيا عام 2012، فسافرت سامية محرز لتشارك في وداع خالتها المقربة ومستودع أسرارها، وهناك وجدت في انتظارها مظروفين مغلقين، في الأول "أجندة" بها مدونات باللغة العربية، والثاني يضم مجموعة من الأوراق القديمة والكراسات. من بين الأوراق وجدت مقدمة لم تنشر، كتبتها خالتها ضوحية لمحتويات المظروفين حيث أشارت أنه كان نصيبها من تركة والدها مذكرات تضم مقاطع شخصية، إضافة إلى ترجمة إبراهيم ناجي لأغنيات شكسبير وهو المشروع الذي تمنت الابنة أن تتمه بنفسها، أن تترجم الناقص من الأغنيات وتنشرها مجمعة في كتاب، لكنها تراجعت على الأغلب. وكان من نصيب الابنة الكبرى أميرة –والدة سامية- مجموعة من الخطابات الشخصية. ومن بين كل الأحفاد يقع إرث إبراهيم ناجي الوحيد في اليد التي آثرت الابتعاد عنه، لترمم سيرته وتنفض الغبار الذي تراكم عبر السنين، وقبل ذلك ترمم الهوة التي تنامت بينهما على مدى أكثر من 50 عاما.

لكن قبل أن تعيد سامية محرز ترميم صورة جدها من خلال إرث خالتها ووالدتها، تتساءل: هل تراجعت خالتي عن النشر حفاظا على أسرار جدي، أم أنها تراجعت حفاظا على الصورة المثالية التي صنعتها هي وأختاها لجدي، أبيهم الحنون، فجاءت مذكراته لتخلخل تلك الصورة المثالية؟ تسأل أيضا إن كان من حقها هي الحفيدة التي قاطعته عمرا أن تفشي أسراره؟ لكنها لا تتوقف كثيرا عند تلك الأسئلة، تقول إن حذف الأجزاء الشخصية من المذكرات يحولها إلى "مسخ" يضاف إلى كل المسوخ التي ابتدعناها لرموزنا السياسة والثقافية والفنية والغنائية والسينمائية، "محولين كل هؤلاء إلى آلهة معصومة من الخطأ والخوف والهوان والندم، ومحرومين من البهجة واللعب والعشق والنشوى، بل من الحياة نفسها" تقرر سامية محرز إذا أن تهدم كل تلك التصورات البالية وتنتصر لصورة جدها، المبدع، المصيب والمخطئ.. الإنسان.

تستشهد بقول جدها نفسه "من يرد أن يؤرخني- إن كان لهذا التاريخ أهمية – يلق نظرة على المكتبة، يقرأ تواريخها، يقرأ الهوامش، والتعليقات.." لكن أين هي المكتبة؟ لطالما اعتبرت سامية أن اختفاء مكتبة ناجي نوعا من الإهمال وعدم الاكتراث من أسرته، لكن أول المظاريف التي ورثتها يكشف لها حقيقة قاسية بخصوص تلك المكتبة، إذ تكتشف صورة طبق الأصل من عقد بيع للمكتبة بمبلغ 70 جنيها بتاريخ 13 إبريل 1955 أي بعد عامين فقط من وفاة جدها.

ثم تكتشف بعد ذلك أن بيع المكتبة لرابطة الأدب الحديث، كان السبيل الوحيد المتاح وقتها لتسديد ديونه المتراكمة. "مسكين يا جدي" تقول سامية. ونلمح أول خيوط التعاطف مع أول الصدمات، وهو خيط رائع من خيوط الكتاب، إذ تنمو علاقه الحفيدة مع الجد على مهل من خلال الفصول المتعاقبة. لكن الشعور بالتقارب يتعاظم مع القراءة التي تقدمها لإرث أمها؛ الخطابات الشخصية التي لطالما استخدمتها الأم في كل مناسبة للتدليل على حجم الحب الذي جمعا بالشاعر الكبير، ولتنفي من خلالها كل الأقاويل التي ترددت، ثم ترسخت عن علاقات الشاعر بملهماته الكثيرات، وهي القضية التي خصصت لها محرز فصلا كاملا في الكتاب.

تقرأ المؤلفة خطابات جدها كرواية.. طبيب شاب لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره، يتزوج ويبدأ حياته العملية، متنقلا بين سوهاج والمنيا والمنصورة التي انتدب إليها طبيبا في مصلحة السكة الحديد بعد زواجه مباشرة، 28 خطابا تحللها المؤلفة تحليلا دقيقا، وترسم من خلالها صورة للعلاقة التي بدأت ساخنة وجارفة من طرف الجد/ الطبيب الشاب وقتها، وبين الجدة خريجة مدارس الفرنسيسكان في وسط القاهرة، يبدأها بصنوف التدليل ويبث غرامه وأشواقه وينتظر، لكنه لا يلقى التجاوب المنتظر، فتتصاعد نبره العتاب ثم الغضب فالفتور والإهمال، فالطبيب الشاب شاعر أيضا يؤمن بأهمية التواصل وضرورته في ظروف كظروفهما والعروس تؤمن بأن الحب ليس بالجوابات، فلا ترسل إلا خطابا واحدا ردا على سيل الخطابات المنهمر من جانبه! تظهر الفروق وتتعمق، ويتعمق معها إحساس الشاعر بالهجر في الغربة، وما كانت تقدمه الأم دليلا على الحب تبرهن الابنة بتحليلها أنه كان رمزا للمعاناة. لكن التحليل لا يتوقف عند رصد مؤشرات الحب فقط، بل تتعمق أكثر في دراسة الحالة المادية والنفسية للجد من خلال خطاباته، ترصد ميله للإسراف والصعوبات التي يواجهها في عمله والتي تعرقل تدبيره لأمور حياته وأسرته، والتي تسببت في ديونه التي تراكمت وتحملتها الأسرة بعد رحيلة المفاجئ.

تواصل محرز من خلال الوثائق تفكيك الصور النمطية والأكاذيب الشائعة عن جدها، التي رسخها في الواقع من ادعوا الاقتراب من أطرافها، وأشهرها على الأطلاق ملهمته الأولى (ع.م) التي أهدى إليها ديوانه الشهير "ليالي القاهرة" ولكن بصيغة المذكر "إلى صديقي ع.م الذي ندى الزهر الذابل من خمائل الماضي، وأنبت في روض الحاضر زهورا ندية مخضلة بالألم والحياة..." لتؤكد بعد بحث طويل أنها علية محمود الطوير قريبته التي تنتسب مثله إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي، الذي تولى مشيخة الأزهر في 1793 وكانت جارته في شبرا لاحقا بعد نزوحهم الى القاهرة، وأنه تقدّم للزواج منها بالفعل "تقدم إبراهيم ناجي لطلب يد علية الطوير وليس أختها عنايات التي كانت قد أصبحت بطلة القصة الملفقة التي غزلها صالح جودت ورُفض"، تواصل التأكيد على أن تلك العلاقة لم تكن سرابا كما قال وديع فلسطين، ولم تكن عطفا على ناجي كما ادعى صالح جودت، بل كانت علاقة حقيقية استمرت على مدى سنوات، وأن بطلتها تزوجت وأنجبت كما تزوج ناجي وأنجب، لكنها أصيبت بالاكتئاب في أعوامها الأخيرة، وأصبحت تتحرك في صمت مثل شبح لتخبر الجميع بأن قصيدة ناجى الأشهر "الأطلال" كتبت عنها ولها.

الملهمة الأولى لم تكن الوحيدة كما تكشف المذكرات، رغم أنها –المذكرات- لا تكشف الكثير أيضا في هذا الاتجاه، فهناك مثلا "الزوزات الثلاث، زوزو حمدي الحكيم وزوزو ماضي وزوزو نبيل" وهي حكايات شهيرة ارتبطت بالشاعر أيضا، لكن المؤلفة تقول إن "جرائم ناجي الصغيرة" كما أطلق عليها في مدونته كثيرة وتليق بشاعر رومانسي منحاز إلى الصعلكة، وتربطها في نفس الإطار مع تخبط علاقته بزوجته وبسطوع نجمة في المجال الأدبي، "وهو كما يدون مجهوداته الأدبية فإنه يدون أيضا مجهوداته العاطفية" إلا أن بطلات تلك المجهودات يظللن مجهولات في معظم التدوينات لأنه لا يفصح عن أسمائهن أبدا، بل يشير إليهن بالأحرف الأولى فقط، ما عدا الأجنبيات منهن فنجد "جيرمين، وجاكلين، وهنريت وفلك" إضافة إلى علاقته الغامضة بـ زازا والتي أصبحت عنوانا لروايته بعد ذلك.

تخلص المؤلفة من خلال بحثها المعمق في الرسائل والمذكرات، إلى أن الصورة التي يرسمها ناجي بخطة تتعارض مع صورة الأب التي رسمتها بناته له في مخيلتهن "إن تصوير ناجى لذاته يجمعنا برجل مأزوم مهنيا وماديا ونفسيا. إنه وحيد في أزمته فيلجأ إلى مخاطبة نفسه على الورق. مسكين جدى في محنته"... ترى أن كل تلك الأوراق ترسم بوضوح علاقة ناجي بفكرة بالمؤسسة ومعاناته معها جميعا؛ المؤسسات المهنية التي عمل بها، والمؤسسات الثقافية التي شارك فيها، وأخيرا المؤسسة الاجتماعية المتمثلة في الزواج والأبوة والمسؤولية المادية بأعبائها الثقيلة. وأنه ربما كان وحيدا بالفعل رغم أدواره المتعددة كزوج وكاتب وطبيب، حتى إنها تتعجب من المقالات التي دبجها أصدقائه بعد رحيله، ومن التقدير الكبير الذي ناله بعد فوات الأوان.

من خلال الأوراق والكراسات أيضا تعيد سامية محرز بناء مجهودات إبراهيم ناجي الأدبية فتكشف مراحل تكوين قصيدة "الأطلال" ثم الشكل النهائي الذي ظهرت عليه، الذي يختلف أيضا عن الشكل الذي ظهرت به عندما غنتها أم كلثوم بعد ذلك. كما تنشر أيضا مسودات ترجماته لأغنيات شكسبير مع تحليل عميق لها ومقارنتها بعدة ترجمات أخرى. إضافة لدوره الإنساني كطبيب استحق فعلا لقب "طبيب الغلابة". وبالإضافة لهذا كله تحاول رسم صورة لزمنه أيضا والتحولات الكبيرة التي جرت من وقتها حتى الآن.

أخيرا لصورة الغلاف اختارت سامية محرز صورة نادرة لناجي في شبابه، صورة مغايرة تماما للصورة التي طالما حاصرتها، ليأخذ الغلاف دلالات جديدة بعد الانتهاء من القراءة، فهي ليست مجرد صورة فوتوغرافية بملامح جديدة بل تغيير كبير في سيرة صاحبها، وتصالح مع الحفيدة التي أصبحت تؤمن بالتواصل فتكمل الصورة، وتقر بالتشابه، بل تفخر به.

(*) سامية محرز؛ أستاذة الأدب العربي ومديرة مركز دراسات الترجمة في الجامعة الأميركية في القاهرة. صدر لها العديد من الدراسات والمقالات في مجالات الأدب والنقد الثقافي ودراسات الترجمة إلى جانب عدة كتب باللغة الإنكليزية من بينها الكاتب المصري بين التاريخ والرواية: دراسات في أدب نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني (1993) الحروب الثقافية في مصر: السياسات والممارسات (2008) أطلس القاهرة الأدبي (2010) حياة القاهرة الأدبية (2011) وبالاشتراك مع لفيف من المتخصصين في الترجمة ودراساتها كتاب في مكان الآخر: دراسات عبر تخصصية في مجال دراسات الترجمة من القاهرة (2019)، و"إبراهيم ناجي زيارة حميمة تأخرت كثيرا" هو أول عمل لها باللغة العربية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024