ليركع الجميع.. الرسالة من سجن خالد لطفي

أحمد ناجي

الأربعاء 2019/02/27
في خلال شهر واحد، وبعد انتهاء معرض القاهرة للكتاب، أغلقت مكتبات "ألف" فروعاً جديدة، وتم تأكيد الحكم العسكري بالسجن خمس سنوات على خالد لطفي صاحب مكتبة ودار نشر "تنمية"، بعد إدانته بتهمتين متناقضتين: الترويج لشائعات، ونشر أسرار عسكرية.


الحكم على خالد هو الأقسى في تاريخ الثقافة المصرية. لم يُحكم على كاتب أو ناشر بهذا العدد من السنوات، حتى في قضايا ازدراء الأديان أو خدش الحياء.

أما سلسلة مكتبات "ألف"، والتي كانت تمتلك أكثر من ثلاثين فرعاً في مختلف محافظات مصر، فقد بدأت عملية تدميرها منذ العام 2017، حينما فُرضت الحراسة عليها بدعوى أن القائمين عليها عناصر "إخوانية" من الجماعة المحظورة. وعُينت "أخبار اليوم"، المؤسسة القومية الغارقة في الديون، رقيباً عليها، ليبدأ مستوى المكتبة في الانحدار، وتُغلق فروعها بالتدريج.

مصر تنطفئ، وقوتها الناعمة صارت، كما يقول صديق، "قوة مصر المحبوسة".

فمنذ دورة معرض القاهرة للكتاب العام 2018، أصبحت صناعة الكتاب تحت إشراف المخابرات والأجهزة الأمنية بشكل مباشر وعلني. ففي دورة معرض الكتاب 2018 جرى تنظيم حفل توقيع ديوان "خير نسوان الأرض" لجلال البحيري، والذي احتوى على نقد مباشر وصريح ضد السيسي والمؤسسة العسكرية. وحينما انتشرت الأنباء عن توقيع الديوان في المعرض، صدرت الأوامر والتوجيهات بتحجيم صناعة النشر. قبض على جلال، وأدين عسكرياً، وسجن ثلاث سنوات. أما في صناعة النشر، فأزيح أولاً عادل المصري، رئيس اتحاد الناشرين، والناشر المستقل. وفي انتخابات شابها الكثير من العوار، عُيّن سعيد عبده، مدير "دار المعارف"، رئيساً للاتحاد، ثم تغيرت الإجراءات المتبعة في استخراج أرقام إيداع الكتب.

منذ إلغاء الرقابة على الكتب في السبعينات، أصبحت طباعة أي كتاب لا تتطلب سوى إجراء روتيني يتمثل في استخراج رقم إيداع من هيئة الكتاب. أما الآن، فعلى الناشر الذي يسعى لاستخراج رقم إيداع، أن يقدم بيانات الدار، وبيانات المؤلف ومنها بطاقته الشخصية، وصورة الغلاف الأمامي والخلفي، وفي بعض الحالات يطلب منه تقديم ملخص عن الكتاب، وأحياناً توقيع إقرار بأن الكتاب لا يحتوى على ما يسيء لأجهزة ومؤسسات الدولة. ثم يُطلب من الناشر تسليم نسخ من الكتاب ونسخة إلكترونية في هيئة pdf، وببساطة يخبرك الموظف بأن تلك النسخ سوف يُسلّم بعضها للأمن الوطني، وبعضها للمخابرات.

بسبب هذه الإجراءات، لم يتمكن الدكتور عبد الخالق فاروق، من استخراج رقم ايداع لكتابه "هل مصر بلد فقير حقاً؟". وحتى بعد تدخل قيادات في وزارة الثقافة، وتمكينه من الحصول على رقم ايداع، إُلقي القبض عليه بتهمة نشر أخبار كاذبة.

بعدها ومن دون أي تبرير أو توضيح، أُعلن نقل معرض القاهرة للكتاب من مدينة نصر إلى مقره الجديد في التجمع الخامس، وهذه المرة انتهى عصر هامش الحرية الذي شهدته الدورات السابقة في المعرض. فقد طُلب من كل دور النشر، التي تنوي تنظيم حفلات توقيع، إرسال لائحة بأسماء الكتب والمؤلفين قبل بداية المعرض بأسابيع، لمراجعتها أمنياً، بل وطُلب من دور النشر تسليم كتبها التي ستشارك بها في المعرض قبل افتتاحه بأسابيع، وهو القرار الذي اعترض عليه الكثير من دور النشر لأن بعض الكتب تصدر أثناء المعرض حيث تعمل كافة المطابع المصرية بكامل طاقتها.

في النهاية جاء معرض القاهرة للكتاب ناجحاً، كما قال الجميع، فلا أحد بالطبع يمكن أن يخاطر بانتقاد أي من مشاريع السيسي العظيمة. وتجارياً، خرج الجميع سعيداً، ببساطة لأن المعرض جرى رفعه طبقياً، أو بلغة مصطلحات التسويق العقاري gentrification، فبنقله إلى التجمع الخامس وركل بائعي سور الأزبكية خارج المعرض، صُفي الجمهور ووجه ليتحول لمعرض للفئات الاجتماعية ذات القدرة الشرائية المرتفعة. بالتالي خرج الجميع سعيداً بالقاعات المكيفة، وبات الرئيس السيسي مرتاحاً لإحكام قبضته، خانقاً الحياة الثقافية والفنية في مصر.

الشباب الطاهر البريء، يتساءل في "فايسبوك"، حينما يعلق على خبر سجن ناشر أو إغلاق مكتبة.. "ليه يا مصر القسوة على ولادك؟".

يعلق متفذلك: "نظام غبي، مفيش حاجة ممنوعة في عصر الإنترنت".

المثقف الوطني العليم يحذّر: "من الخطر خنق الانتاج الثقافي والفني، الناس بدأت تنصرف وتشاهد قنوات الإخوان، وقريباً حينما يحتاج النظام إلى تعبئة الجماهير في الاستفتاءات أو الانتخابات، لن يجد ذراعاً إعلامية تساعده".

والسيسي ينظر من فوق سور عاصمته الإدارية الجديدة، ويبصق عليهم جميعاً.

فأولاً، وبوضوح شديد، نظام السيسي الذي بدأ بخرافة جهاز علاج الكفتة، هو بمنتهى العلانية ضد العلم والمعرفة. فهذا الرجل جاء ليحكم لعقود، بل ليورث أولاده من بعده. الحكمة التاريخية معروفة: قيادة شعب جاهل أسهل من قيادة شعب متعلم، بل يجب أن ترتفع كلفة التعليم أو الثقافة، بحيث تكون امتيازاً للطبقات العليا التي بإمكانها أن تسكن في التجمع الخامس أو بجواره في العاصمة الإدارية.

ليس الهدف من سجن خالد لطفي هو منع كتاب "الملاك". شخصياً، تعرضت للسجن بتهمة خدش الحياء، ولم تأمر المحاكمة بمصادرة الرواية، كنت في السجن بينما الرواية تباع في المكتبات.

أحكام سجن الكتّاب أو الناشرين ليس الغرض منها منع الكتاب، بل بث الخوف وتركيع الجميع. إخصاء الرغبة في التمرد والاختلاف، الخوف من التميز. الإنحناء حتى انقسام الظهر. وأن نصل إلى اللحظة الراهنة، حيث يسجن ناشر وموزع كتب، صديق دائم لكل الكتّاب والفنانين، بل وصاحب أفضال على آلاف القراء، ومع ذلك الجميع خائف من التعبير حتى عن تضامنهم معه، بدءاً من العائلة التي رفضت الإعلان عن الأمر طوال عشرة أشهر، طمعاً في رحمة وعدل لم يأت ولن يأتي، وصولاً إلى صحافيين وكتّاب لن يمكنهم الكتابة والنشر عن قضية خالد في مؤسساتهم الصحافية لأن النشر عن هذه القضية قد يعرضهم للمحاكمة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية عن محكمة عسكرية.

أما الممسكون بالعصا من المنتصف، الذين يرون في كل ما يحدث إساءة لسمعة مصر، وأمراً سيدفع الناس نحو خطاب وإعلام "الإخوان"، فهؤلاء هم فعلاً ضحايا هلاوس التاريخ. يقفون في لحظة تعود إلى خمس سنوات، وتحديداً إلى 30 يونيو 2013. الوحيد الذي يفهم جيداً أبعاد اللحظة هو د.شريف يونس، الذي اعتبر أن السيسي جاء للحكم بشريعة التفويض، وهي شريعة تجعله فوق مؤسسات الدولة، والآن ينتقل نظام السيسي إلى ما يسميه يونس "مأسسة شرعية التفويض" بحيث تتحول سلطة السيسي إلى ظل إلهي. هو الرئيس الذي لا يحتاج إلى شرعية، بل هو مصدر الشرعية، شمس الفرعون التي تغمر كامل الأراضي المصرية بنورها وتحكمها بقبضة من فولاذ. وفي هذا الإطار لا ينتج السيسي خطاباً، ولا يحتاج. وحينما ينعدم الخطاب، فلا حاجة للقوى الناعمة أو صناعة الكتاب او الثقافة أو الرياضة. ولا يُنظر لكل هذه المفاعيل إلا بصفتها مصدراً محدوداً للرزق، ووسيلة للتسلية للنخبة الحاكمة فقط، أو في أفضل الحالات عبيد وقرود يمكن بيعهم لتركي آل الشيخ لتسليته وخدمة الممول الأكبر لنظام السيسي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024