الجامعة الأميركيّة.. بل بيروت نفسها أمام خطر وجودي

علي نور الدين

الثلاثاء 2020/05/05
يرتبط تاريخ مدينة بيروت الحديثة، بل بيروت "الحداثة"، بلحظة تأسيس الجامعة الأميركية فيها. لم تخرج بيروت من أسوارها إلا عندما وُجدت الجامعة هناك في رأس بيروت.
دور بيروت وتأثيرها في العالم العربي، ثقافياً وسياسياً وتنموياً وفكرياً، إنما ركيزته ليس فقط هذه الجامعة إنما الفضاء الذي خلقته في هذه العاصمة، تنوعاً وحيوية وإبداعاً. 

شهدت الجامعة في تاريخها لحظة مظلمة في منتصف الثمانينات حين كان الإرهاب يفتك بالمدينة والمنطقة. واللحظة الثانية تأتي اليوم، وهي ربما تكون الأخطر، مع انحدار البلد كله إلى حضيض السياسة والاقتصاد.
إنقاذ الجامعة الأميركية هو إنقاذ لبيروت بأسرها كي تظل تستحق صفة "عاصمة"، وللبنان كله كي لا يصير بلداً قاحلاً.

رسالة رئيس الجامعة، فضلو خوري، مخيفة وخطرة، لا على مصير الجامعة، لكن على مصير كل ما نعتز به في تاريخ هذه البلاد.  

"قد تكون الجامعة الأميركيّة اليوم أمام أعتى أزمة تواجهها منذ تأسيسها سنة 1866"، بهذه الكلمات افتتح رئيس الجامعة الأميركيّة في بيروت، فضلو خوري رسالته، التي وجّهها اليوم إلى طلاب وأساتذة وعمال الجامعة.

تضمّنت رسالة خوري تحذيراً عالي اللهجة، إزاء الوضع المالي الذي تواجهه الجامعة اليوم، والظروف الاقتصاديّة التي تحيط بها، والذي يوحي خوري باقترابه من تشكل خطر وجودي على المؤسسة، وهو ما بدا أشبه بجرس إنذار أراد رئيس الجامعة أن يسمعه كل من يعنيه الأمر.

رئيس مجلس الأمناء الجامعة سارع إلى تلقّف رسالة خوري، فأتبعها برسالة بإسم مجلس الأمناء أعلن فيها تبنّيه لمقاربة رئيس الجامعة للأزمة، مبدياً تفهّم المجلس لضرورة اتخاذ "إجراءات مؤلمة" للحفاظ على سلامة الوضع المالي للجامعة. كلمة "إجراءات مؤلمة" وحدها كانت كافية لإثارة مخاوف كثيرين من طلاب وعمال وأساتذة الجامعة، خصوصاً أنّها تذكّر عادةً بالشعارات التي ترفعها الحكومات قبيل إتخاذ الإجراءات "غير الشعبيّة"، وكون هذه الإشارة تترافق اليوم مع عدّة ملفّات مطلبيّة تواجهها إدارة الجامعة.

تهويل في وجه المطالب؟
تسببت رسالة خوري بخضّة كبيرة على مختلف المستويات. فإدارة الجامعة تواجه منذ فترة عدّة ملفّات بشكل داهم، من مسألة دولرة الأقساط واحتجاج الجسم الطلّابي عليها، إلى المطالب المتعلّقة بأساتذة الجامعة وعمّالها المثبّتين، وصولاً إلى الحملة المتعلّقة بظروف عمل العمّال المياومين فيها واستقرارهم الوظيفي. باختصار، كانت إدارة الجامعة تواجه معارك ذات طابع مطلبي على جبهات عدّة، وهو ما دفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن الرسالة كانت قد تحمل تحذيراً لمسألة سلامة الوضع المالي، في وجه هذه المطالب.

لكن وبعيداً عن كل هذه التكهّنات، ثمّة ما يكفي من التباسات في نص الرسالة لتعزيز هذه الشبهة. فنقطة الارتكاز التي انطلق منها خوري في رسالته كانت توقّع الجامعة انخفاض مداخليها من 609 مليون دولار هذه السنة الدراسيّة، إلى حدود الـ 249 مليون دولار في السنة الدراسيّة المقبلة، وهو ما يعني خسارة الجامعة لما يقارب 60 في المئة من مدخولها في السنة المقبلة. بالتأكيد، سيشعر قارئ الرسالة بهول الكارثة عند سماع الأرقام. لكن كيف يمكن لجامعة يرتكز دخلها على أقساط الطلاب وفواتير المرضى في المستشفى أن تخسر في سنة واحدة هذا القدر من المداخيل؟ مع العلم أن حجم الجسم الطلّابي والإقبال على المستشفى لم يشهدا هذا الانخفاض الهائل.

في الواقع، ثمّة تفسير واحد لهذه الفرضيّة، وتكمن تحديداً في تدهور سعر الصرف، خصوصاً أن فواتير الطلاب والمرضى مازالت تُحصّل بالليرة اللبنانيّة. لكنّ البناء على هذه الأرقام وعرضها بهذا الشكل ينطوي على إشكاليّة كبيرة، فنفقات الجامعة الحاليّة تتركّز بغالبيّتها الساحقة في بند الرواتب المسعّرة بمعظمها بالليرة اللبنانيّة، والتي لم ترتفع، وعلى أكلاف المستلزمات الطبيّة والمحروقات، وهي تكاليف ما زالت تخضع لسعر الصرف المدعوم من المصرف المركزي. بالتأكيد، سيكون لمسألة سعر الصرف أثر على بعض النفقات الأخرى، لكنّ الأثر قد لا يكون بالضخامة التي تعرضها رسالة خوري.

إجراءات مؤلمة ستطال الأقساط والبرامج
ينطلق خوري من هذا الرقم الإشكالي للقول بأن معظم المؤسسات قد لا تستطيع الاستمرار بالعمل إذا شهدت هذا الانخفاض في مداخيلها. ومن هنا يبدأ بتعداد الخطوات التي ستبادر الجامعة إلى إتخاذها في ظل هذا الواقع. وحسب الرسالة قامت الإدارة خلال الفترة الماضية بإعادة تقييم جميع برامجها، وبالأخص من ناحية أهميّتها لمستقبل الجامعة ومجتمعها، وفي الخلاصة ستقوم الجامعة بمجموعة من الاجتماعات التقييميّة التي تهدف إلى إنجاز موازنة للعام المقبل وعرضها على مجلس الأمناء.

عمليّاً، ثمّة سؤالين سينتظر الطلّاب الإجابة عليهما بإلحاح في المرحلة المقبلة. يتعلّق السؤال الأوّل بمسألة الأقساط، خصوصاً أن الرسالة أعلنت بصراحة أنّ إعادة تحديد الأقساط سيكون جزءاً من هذا المسار. مع العلم أن ثمّة سجالاً بدأ فعلاً منذ الصيف الماضي، بخصوص دولرة هذه الأقساط ونسبة الزيادة السنويّة فيها. أمّا السؤال الثاني فسيتعلّق بإشكاليّة المعايير التي سيتم إعتمادها لإعادة تقييم البرامج وأهميّتها، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من السجال الداخلي في الأميركيّة يتعلّق دائماً بالمعايير المعتمدة لتقديم الدعم للبرامج والإختصاصات الأكاديميّة المختلفة.

إشكاليّة الشفافيّة
لا شك أنّ جزءاً كبيراً من المصاعب التي تحدّث عنها خوري في رسالته هي فعلاً مشاكل كبيرة تواجه الجامعة اليوم. فالأزمة الاقتصاديّة ستترك أثرها بالطبع على عدد المنتسبين إلى الجامعة، ذات الأقساط الباهظة مقارنةً مع سائر الجامعات الخاصّة في لبنان. ومن الطبيعي أن تتزايد الكفلة التشغيليّة بالتوازي مع التضخّم الموجود في الأسواق، ولو كان أثر هذا العامل على ميزانيّات الجامعة أقل بكثير من الأثر الذي تحدّث عنه خوري في رسالته.

لكنّ الانطلاق في معالجة هذه المسائل، بما يحقق مصلحة الجامعة ودورها الريادي نفسه، يستلزم أوّلاً الشفافيّة في التعاطي مع طلابها وأساتذتها وعمالها، وتحديداً عند الإعلان عن مخاطر وجوديّة بهذه الطريقة، أو عند الإعلان عن توجّهات لمراجعات جذريّة للبرامج والأقساط والميزانيّة. وما قدّمه خوري في رسالته لم يحقق هذا الشرط، لا من ناحية توصيفه لحجم المشكلة الماليّة، ولا من ناحية شرحه للمقاربة المتعلّقة بالأقساط التي جرت دولرتها خلال الصيف الماضي على أعتاب الأزمة الماليّة.

في الخلاصة، سيكون أمام إدارة الجامعة الأميركيّة تحدّ أساسي خلال الفترة المقبلة، ويكمن تحديداً في التمكّن من فتح حوار شفاف وواضح مع الطلاب والعمّال والأساتذة، بالتوازي مع وضع موازنة العام المقبل. هذا الحوار سيكون السبيل الوحيد للتمكّن من إقناع الجسم الطلابي بأي طروحات جديدة تتعلّق بالأقساط، كما سيكون الطريقة الوحيدة التي ستتمكّن بها الجامعة من التوصّل إلى حلول في ما يخص مطالب عمّالها وأساتذتها. 

ومعاً، سنردد خاتمة رسالة خوري: "إيماني العميق هو أنه لن يكون للبنان وللمنطقة من أمل إذا لم تستطع الجامعة الاميركية الالتزام برسالتها. إنقاذ الجامعة الاميركية يجب أن يكون أولويتنا الوحيدة. وسنقوم بإنقاذها".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024