استسهال التنكيل ببؤساء البداوي: الجنود يعتقلوننا ويضربوننا ويشتموننا طائفياً

جنى الدهيبي

الإثنين 2020/01/13
في 27 تشرين الأول 2019، أيّ بعد مرور 10 أيام على انتفاضة الشعب اللبناني، وقعت أول جولة اشتباكٍ عنيفة بين عناصر الجيش اللبناني ومتظاهرين عند أوتوستراد منطقة البداوي شمالًا. كان ذلك الاشتباك الصفعة الأولى التي تلقتها الانتفاضة، في الشمال بعد ما اكتسبت عاصمتها لقب "عروس الثورة". وذكّرت الحادثة بمرحلة "المحاور" ولغتها القتالية، وكانت دافعًا لتلافي الوقوع في مستنقع الفتنة بين المواطنين والجيش.

رواية الجيش الرسمية
بعد مرور أسابيع على الثورة التي كانت تشتدّ حينًا وتخفت أحيانًا أخرى، بقي أوتوستراد البداوي شاهدًا على غضب أبنائه. ولم يعد للعبور العادي نحو مناطق المنية وعكار، بل تحوّل إلى مكان رئيسي للغضب وقطع الطرق. لذا صارت له مكانة رمزية في نفوس شبانه المتعبين والعاطلين عن العمل، والذين تعاهدوا على وصل ليلهم بالنهار عند أطرافه.

وقبل أيام، ليلة الخميس الفائت 9 كانون الثاني الجاري، تحول أوتوستراد البداوي مجدداً ساحة مواجهة عنيفة بين مئات المتظاهرين وعناصر الجيش. وذلك على خلفية مداهمات واعتقالات عشوائية طالت عشرات الشبان الناشطين، بتهمة "قطع الطرق". وفي تلك الليلة، أثار تصرف الجيش ردود فعل غاضبة، فاتهمته شريحة واسعة في المنطقة وألوف المغردين - تبادلوا فيديوهات المواجهة تحت وسم "طرابلس تحت القمع" - باستخدام القوّة المفرطة ورمي القنابل المسيلة للدموع، بينما أطلق المحتجون مفرقعات وقنابل مولوتوف وحجارة.

بيان قيادة الجيش ربط الاشتباك - أسفر عن أكثر من 50 إصابة نال 14 منها العسكريون - بتدخل مشروعٍ لفضّ قطع أوتوستراد البداوي، فاعتقل 8 أشخاص بتهمة ارتكابهم أعمال شغب.

رواية البؤس والعتمة
قصدت "المدن" أوتوستراد البداوي، فإذا بكلّ ما على جانبه من محالٍ ومتاجر ومقاه ونساء وشبان عابرين يشي بالبؤس والفقر والحاجة وانعدام الأمان الاجتماعي. أمّا السيارات التي كانت تعبر بطريقةٍ جنونية في ذهابها وإيابها، فقد زادها جنوناً تفادي وقوعها في مصيدة قطع الطريق. وهي لم تعد تحظى بإجماعٍ شعبي كوسيلةٍ ثورية. وتتراصف على رصيفي الأوتوستراد محال تجارية بائسة من قلّة العمل. وهناك مقهيان متقابلان كل على رصيف، وصارا مُلتقى شباب المنطقة في أيام الثورة.

خليل نعمان (54 عامًا)، صاحب كشك بيع القهوة الذي نصبه على رصيف الأوتوستراد قبل 30 عامًا، أب لأبناء خمسة، ويوميته لا تتجاوز 30 ألف ليرة، بعدما كانت 100 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية. وهو يروي معاناة أهالي المنطقة من انقطاع التيار الكهربائي طوال أيام الأسبوع الماضي، ما دفع الشباب إلى الخروج غضبًا لقطع الأوتوستراد: "بعد كلّ هذا العمر الذي قضيته على الأوتوستراد من الثالثة فجرًا - يقول الرجل - أدركُ أن قطع الطرق يعود بالضرر علينا وعلى المناطق المحيطة. لكن السلطة الفاسدة في المقابل تعاقبنا بقطع الكهرباء".

عنف واعتقالات عشوائية
لم يكن خليل على الأوتوستراد ليلة الحادثة. يقاطعه صديقه أبو علي (50 عامًا) قائلاً: "فتى قاصر (15 عاماً) يعمل في المقهى، سحبه عناصر الجيش بغتة من المقهى في تلك الليلة، وانهالوا عليه ضرباً مبرحاً وإهانات، ثم قبضوا عليه مع الشباب الذين أطلقوا سراحهم جميعًا في اليوم التالي بعدما ثبت عدم قيامهم بأي عمل".

تدمع عينا الحاج خليل، ويخبرنا أنّ عناصر الجيش هجموا على  ابنه (35 عامًا) قبل مدة لإلقاء القبض عليه، فتعرض لعنف مبرح وسحل في الشارع، بتهمة قطع الطريق. وبعد الإفراج عنه انعزل في البيت مهاناً مصدوماً. يشارك في الحديث أحد الجيران، فيسأل غاضبًا: "من قال إنّ شبابنا من هواة قطع الطرق؟ ولماذا لا يسألون عن السبب؟ بل لماذا يتعاطون دومًا معنا على أننا مهانون سلفاً ولا يستأهل شبابنا وأطفالنا سوى الإهانات، فيما لا يمكن المزايدة علينا في محبتنا للجيش؟!".

وحسب شهادات شباب البداوي، ليس الطفل علي وحده من تعرّض إلى العنف في الشارع. يدلّونا على الشاب مصطفى مراد، صاحب صالون حلاقة سبق أن ألقى الجيش القبض على ابنه (17 عاماً) في بداية الثورة، لمشاركته في قطع الطرق. ويقول مصطفى: "في بداية الثورة طلبت مخابرات الجيش ابني عزمي للتحقيق معه، فسلمته. بقي 10 أيام معتقلاً. جالوا به على مراكز كثيرة في بيروت، وصولاً إلى وزارة الدفاع. تعرض لتعنيف جسدي ومعنوي مبرحين. ولم يفرجوا عنه إلّا بعد زوال آثار العنف عن جسده النحيل، من دون أن يثبتوا عليه أيّ تهمة".  

وفي هذا الفيديو، يخبرنا عمر العويك عن ظروف اعتقاله، وطريقة التعنيف التي تعرض لها.


قاطعو الأوتوستراد
ننتقل إلى المقهى المقابل لنستمع إلى القصّة الكاملة للمداهمات التي نفذها الجيش ليلة الخميس. يجلس عمر العويك على الكرسي متعباً، ومعه مجموعة الشبان الذي اعتقلوا تلك الليلة، وأفرج عنهم. عمر صُرف من عمله في إحدى المؤسسات بداية الثورة. أب لولدين صغيرين. واظب على المشاركة في قطع الطريق مع رفاقه الذين يشددون على استقلاليتهم وعدم ارتباطهم أو تأييدهم لأيّ جهة سياسية. ليلة الخميس كان عمر في المقهى ويشاهد مع الشباب مباراة فريق برشلونة. بعدها قرر مع صديقه عبدالله كريمة - اعتقل وعُنّف - أن يلعبا "بلاستايشن". ويروي عمر: "أعطينا ظهرنا للباب. فجأة، سمعنا صراخاً، فالتفتنا فإذا بعسكري يحمل عصاً يصرخ بشباب إلى طاولة أخرى يلعبون الورق: قوموا قوموا. ظننتُ أنه يريد أن نذهب إلى المنزل ليغلق المقهى. بعد خروجي، بدأ يضربني بقوة بالعصا، فحاولت الهرب، فاصطدمنا على رصيف الأوتوستراد بمئات العساكر يحملون العصي. حاولتُ أن أهرول. انهالوا عليّ بالعصي وكعب البواريد. وقعت أرضاً على بقايا دواليب، فسحلوني بأقدامهم".

عسكر وشتائم طائفية
وتابع عمر: "اقتادونا جميعًا في الجيب. وأخذونا إلى ثكنة جبل البداوي. فوجئنا بمئات العساكر يحملون العصي. انهالوا علينا بالضرب والشتائم الطائفية. سال دمي على الأرض. كأنهم كانوا يضربونا بهدف قتلنا. ولم يتركوا شتيمة طائفية إلا شتمونا بها. أخذونا إلى ثكنة بعد زغرتا. وفي اليوم التالي أطلقوا سراحنا بعد التحقيق معنا".

محمود العبد شاب مغترب، جاء قبل شهر إلى لبنان. لا علاقة له لا بالثورة ولا بقطع الطرق. كان يجلس في المقهى مع رفاقه. يكرر الرواية نفسها، ويضيف: "لم أصدق حتّى اللحظة حجم الإهانات والشتائم والإذلال الذي صبته علي عناصر الجيش". ويسأل غاضبًا: "من يعوض لنا عن كلّ هذا الضرر المعنوي؟ ووفق أيّ منطق أو قانون تتعاطى معنا عناصر الجيش؟".

عمر خدوج يروي إنّ ضابطًا من عائلة ط. يشتهر بين جميع شباب البداوي بانحيازه ضدّهم بصورة متطرفة. يضيف: "من حقّنا أن نسأل عن سبب انزلاق بعض عناصر الجيش إلى مستوى الشتائم الطائفية والتحريضية، وشتم نسائنا وأعراضنا ورموزنا الدينية، بينما الإعلام المحلي غائب عن منطقتنا ولا يجرؤ على نقل صوتنا".

خالد مصطفى بريص - من أبرز الوجوه على الأرض في البداوي - يشدد على مخاطر انزلاق الجيش إلى "شيطنة مناطقنا لحرف مسار الثورة"، وأكد أنّ البداوي تغزوها شبكة من المندسين والمخبرين والمتواطئين مع بعض التيارات والأحزاب السياسية".

مصدر عسكري
في الواقع، لا شكّ في أنّ مسألة قطع الطريق أصبحت مسألة خلافية كبرى على المستوى الشعبي، بين مؤيدٍ ومعارضٍ. لكن في منطقة مثل البداوي، هناك أسئلة كثيرة يطرحها الناس حول سلوك الجيش. وهذا ينذر بمخاطر كبيرة. ويشدد أهل المنطقة على وفائهم للمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها ألوف من أبنائهم.

تواصلت "المدن" مع مصدرٍ في وزارة الدفاع للحصول على توضيح حول ما يجري في البداوي. أرسلنا للمصدر عددًا من الفيديوهات وعرضنا الوقائع والشهادات. فاستغرب كلّ ما يُحكى، وشدد على أنّ قيادة الجيش لا يمكن أن تقبل بمثل هذه الممارسات العنيفة والشتائم الطائفية. وهي ليست على علم بذلك، لأنّ توجيهاتها واضحة في حماية المتظاهرين من جهة، وفتح الطرق للناس من جهة أخرى. وقال المصدر العسكري: "لا يمكن أن نعطي موقفًا الآن. نتحقق من كلّ هذه الأمور بعد التواصل مع الجهات المعنية في المنطقة. وفي حال ثبت ذلك نفتح تحقيقًا كاملًا حول هذه الملابسات"!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024