كيف سيغير "كوفيد19" عالمنا الذي نعرفه

أمين نصر

الثلاثاء 2020/05/19

هل سيصبح العالم أقل تضامناً، أم أننا سنتجه إلى عالم أكثر صلابة وتعاوناً في مواجهة المِحَن؟

أكثر المحطات غرابة في التاريخ الإنساني هي المحطات التي تتجه إلى تغييير جذري سريع، ليس جرَاء اندلاع الحروب والثورات وتوقيع المعاهدات، بل بسبب انتشار الأوبئة والأمراض وما يلحقه من خراب اقتصادي وتبدل اجتماعي، وقدرة الأوبئة على فرض التغيير بشكل فعال أكثر من آلات الدمار العسكرية الشديدة التأثير أو الثورات السياسية وأيديولوجيات التغيير.

في التاريخ
في العام 1520 عندما دخل الإسبان إلى العالم الجديد الذي يعرف اليوم بالأميركيتين، يقول المؤرخ الطبيعي والأنتروبولوجي الأميركي جاريد داياموند، كيف يمكن لبضعة مئات من المغامرين الإسبان إلحاق هزيمة ساحقة ضد عدو يفوقهم عددًا؟ يجيب داياموند على هذه الإشكالية، بقوله أن السبب الحقيقي لسرعة انهيار إمبراطورية الأزتيك، أكبر إمبراطورية في التاريخ الوسيط للقارة أميركا، هو المرض. لقد حمَل الجنود الإسبان ذات العِرق الأبيض مرض الجدري الفتاك لأن الفيروس تعايش في أجسادهم من دون ظهور أي أعراض عليهم، وأصبحوا بدورهم ناقلين للمرض، من دون أن يصابوا به، ففتك الجدري بشعوب القارة الجديدة، التي عانت من فقدان المناعة ضد المرض، وقتل حوالى 95 في المئة من شعوب القارة الأصليين. وهذا ما أدى إلى إفراغها من سكانها، وجلب المزيد من العبيد والمستعمرين الناطقين بالإسبانية، والذين يدينون بالمذهب الكاثوليكي، مما غير شكل القارة ديموغرافياً وثقافياً بالشكل الذي نعرفه اليوم.

بالعودة قليلاً بالتاريخ إلى الوراء أيضًا، وبالتحديد في العام 1350، أدى انتشار مرض الطاعون –الموت الأسود- الذي فتك بالجزيرة الإنكليزية تحت حكم سلالة "بلانتاجانت"، إلى انهيار النظام الإقطاعي القائم على توازن اقتصادي وسياسي واجتماعي. فسبّب الطاعون وفاة الملايين من الفلاحين، وهجر العديد من الأراضي والإقطاعيات، واضطر ملاك الأراضي والأمراء إلى دفع الاموال إلى العمال الجدد من أجل إغرائهم وإعادتهم للعمل، بهدف تجديد أراضيهم التي أصبحت أراضي بور مهملة. فبدأت فكرة العمل مقابل مبالغ مالية، وتحسنت معها تدريجياً أحوال الفلاحين، وظهرت الطبقات الاجتماعية الجديدة وزادت طموحات السكان بالتغيير. فبدت الحاجة إلى هذا التغيير أكثر من الماضي، الذي تحقق من خلال الثورات والاضطرابات الفلاحية في أكثر من مكان في القارة العجوز، حتى زال النظام الإقطاعي نهائياً. وقد أدى هذا التطور الحاصل في إنكلترا بشكل غير مباشر إلى اشتداد حرب المئة العام ضد فرنسا، التي خيضت تحت عنوان السيطرة الإنكليزية على التاج الفرنسي للتعويض عن الخسائر التي لحقت بملاك الأراضي الإقطاعيين.

منظومة عالمية جديدة
في حاضرنا كما في ماضينا، واجه الإنسان العديد من الأوبئة والأمراض التي جلبت تغييراً مفاجئًا، أدت إلى فرض رؤى جديدة للمنظومة التي تحكم أو تتحكم بالعالم، فعند المراحل الأخيرة لنهاية الحرب العالمية الأولى، اجتاح وباء الإنفلونزا الإسبانية  - لم يكن إسباني المنشأ – دول العالم، وقتل ما يقدر بأكثر من خمسين مليون شخص. وبسبب كثرة الوفيات الذكور بفعل الحرب والوباء، زاد دور المرأة في المجتمع، وأصبح لها الحق في امتلاك الأراضي وحق التصويت. وكان الوباء سببًا إضافيًا في حدوث أزمة اقتصادية كبرى شلت فيها اقتصاديات دول صناعية مثل ألمانيا، التي شهدت صعود اليمين المتطرف المتمثل بالنازية، الذي جرّ العالم إلى حرب فاقت حدتها التدميرية كل الحروب. ومع سقوطها، وضعت أسس المنظومة العالمية الجديدة التي تصارعت على زعامتها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

فالأوبئة تؤدي إلى تغييرات اقتصادية، التي بدورها تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، وتصحبها موجة من تغييرات في السلوك، مما يؤدي إلى اندلاع العنف المجتمعي والسياسي والحروب.. والتي عند نهايتها يحصل التغيير. فلا ريب بأن شكل وتكنولوجيا الصراعات سوف تشهد أيضًا تغييرات جذرية تساعد في مواجهة المستجدات الصحية والبيولوجية وهجمات الفيروسات، وهذا ما سوف يضع ضغطًا على الصناعات الطبية ومراكز الأبحاث التي تعنى بتطوير اللقاحات.

تحديات جديدة
هل ستتحول دول المركز أو القرار العالمي من التسابق على اقتناء الأسلحة والصواريخ وبناء المصانع الحربية واستغلال الموارد الطبيعية، إلى اقتناء الأدوية والعقاقير وبناء المستشفيات وإصلاح المنظومة الصحية؟ هذه إشكاليات تتصارع للحصول على إجابات. ومن المؤكد أن العالم اليوم سوف يهزم جائحة "كوفيد 19"، كما هزم أسلافنا الجدري والملاريا والحصبة والإنفلونزا الإسبانية، مع العلم أن الطب لم يكن على استعداد ومقدرة لمجابهة الجوائح، لكن لهزيمة "كوفيد 19" ثمن، وهو هزيمة المنظومة العالمية الحالية. فقد هاجم الوباء كل الدول والأنظمة، بعثر أوراقنا، رتب أولوية السياسات، قتل الصغار كما الكبار.

بيئيًا، تنادي بعض أصوات الحركات الاجتماعية بضرورة العودة إلى الحياة الزراعية، فهل تكون جائحة كورونا المستجد سببًا لإنقاذ البيئة؟ وهل تعيد الجائحة تشكيل المجتمعات والأنظمة السياسية التي تنادي بالقومية والعزلة، في ظل الخطورة التي تحدق بالاتحاد الأوروبي؟ فالكثير من الأحزاب اليمينية في الدول الأوروبية استغلت الطوارىء الاجتماعية التي تعصف بأوروبا من أجل إحياء النقاش عن جدوى الوحدة الأوروبية التي لم تتعامل مع الجائحة كاتحاد، والوصول إلى قضايا أكثر حساسية مثل الهوية الأوروبية والوحدة الاقتصادية وقضايا اللاجئين. كما ستزداد حالات التمييز العنصري التي بدأت بوادرها بالظهور، مثل العداء للصينيين.

اقتصاديًا، سوف تتغير القوانين التي تحكم العالم، وقد ينفرط العقد المالي بخروج بعض الدول عن الإرادة الاقتصادية لمنظومة المال والسياسة التي تتحكم بها الولايات المتحدة ومعسكرها. أما الكساد فسوف يصيب اقتصاديات العديد من دول العالم في مقتل، حتى التغيير سيصيب المدن والتجمعات الحضرية إلى مستويات أكثر أمنًا، أي سياعد تخطيط المدن للحد من ظاهرة الاكتظاظ كما حدث في باريس زمن نابليون الثالث، التي كانت عرضة للأوبئة والفيروسات.

خاتمة
في عالم يئن تحت وطأة شديدة للعولمة، التي هي أحد أدوات المنظومة العالمية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، واشتدت بعد نهاية الحرب الباردة، سوف تتراجع تأثيراتها، وسنتعاون ونصبح أكثر اجتماعية على مستوى محلي، ظنًا منا بأن العالم الضيق أكثر أمنًا. لكن إلى حين تشكل المنظومة العالمية الجديدة، وعودة كل شيء إلى طبيعته في المستقبل، سوف نتخلى تدريجيًا عن فكرة التباعد الاجتماعي، وننسى هذه الجائحة التي غيرت عالمنا يوماً ما، ونعود كما كنا في السابق، نهوى السفر والترحال والاستثمار، ونشيد جسور العلاقات الاجتماعية وتوثيق الروابط. فالإنسان بطبعه معادٍ للعزلة والإنعزال، والطبع الاجتماعي يغلب تطبع العزل.

قد ترسم الجائحة المتمثلة بفيروس "كوفيد 19" الملامح السوسيو-اقتصادية لعالم ما بعد كورونا، الذي سنشهد فيه على بروز ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية ظننا أنها طويت بفعل الزمن، أم أننا سنتآلف مع البجعة السوداء؟!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024