زمنُ الوباء (1): فلسفة الحجر ومزاولة العمل

أحمد بيضون

الإثنين 2020/05/11

طرَحَ الوباءُ على كثيرين مسألةَ التحوّلِ في بنيةِ الزمنِ ومَعْناهُ والشٌعورِ بلا جدواه أو باستحالتِه عبئاً مفروضاً، في رأيِ بعضِهِم، لا يَدَ للواقعِ تحتَ وطأتِهِ في تدبّرهِ وسياسته. وما أمْلى هذا الشعورَ، في زمنِ الوباءِ، إنَّما هو، على التخصيصِ، الحجْرُ بما هو مرادفٌ للحبسِ وللتبطّلِ وللعزلةِ وبما هو استجابةٌ للحصارِ أيضاً أي بما هو تغييرٌ في بنيةِ الزمنِ اليوميِّ وفي مألوفِ توزيعِهِ وفي البيئةِ البشريّةِ والماديّةِ لتقضّيهِ وبما هو مقرّرٌ لها من تبدّلٍ. وكانَ أن أغرى عنوانُ روايةٍ لغارثيا ماركيز بنوعٍ من التسليمِ التلقائيّ، المعزّزِ بالتكرارِ، بفرادةٍ لا نسعى إلى حصْرِ وجوهِها بالضرورةِ لزمنِ الوباء.

أشعُرُ أنّ هذا القولِ بنوعٍ من القطيعةِ في الزمنِ يمثِّلُها الوباءُ فيه جَرْيٌ مع شائعٍ مفترضٍ لا ريبَ في استمرارِ تحقّقهِ في حالاتٍ كثيرةٍ... ولكنْ لا ريبَ أيضاً في ضرورةِ إخضاعِهِ لفحصٍ ناقدٍ تمْليهِ تحوّلاتٌ لأوضاعِ العَمَلِ وللحياةِ اليوميّةِ كلّها بمَهامِّها ومواردِها شهِدَتْها الأعوامُ الأخيرةُ وانتشَرَت، ولو بتفاوتٍ، إلى حياةِ معْظَمِ البشر. وإذا كانَ لصورةِ الزمنِ الذي يجمّدُه الحَجْرُ أو يفْرِغه من جدواه ومعناه من أصْلٍ فمرجعُ هذا الأصْلِ إلى عهودٍ سبَقت التحوّلاتِ المشارَ إليها وما تزالُ، على غِرارِ العاداتِ الذهنيّةِ جملةً، تفرضُ نفسـها حيث توجَدُ لها شرعيّةٌ وحيث لا توجَدُ، إذ هي تُعْفي صاحبَها من هَمِّ التبصّرِ في الجديدِ وترَسُّمِ المتحوِّل.

عالَمُ الوَباءِ عالَمُ المستقبَل؟
وما أرجِّحُهُ، بوَجيزِ القولِ، أن يَكونَ الوباءُ الذي يُقالُ أنّهُ عطّلَ حياةَ البشرِ (وهو قد عطّلَ فعلاً معاشَ كثيرين منهم) قد أدخَلَ إلى حياةِ كثيرين منهم أيضاً ملامحَ مستقبليّةً كان الإرهاصُ بها قد حصَلَ في أوقاتٍ متباينةٍ بتبايُنِ الفئاتِ. فجاءَ الوباءُ ليكشِفَ إمكانَ استوائها سَويّةً مفروضةً في نُطُقٍ أعمَّ وأكثرَ تنوّعاً ممّا كان ملحوظاً من قبْل.

أشيرُ، وهذا واضحٌ، إلى إمكان العَمَلِ من المسكن والاستغناء عمّا يُدْعى "المكتب". والمكتب هنا كنايةٌ عن المدرسةِ والجامعةِ أيضاً، فضلاً عن كونِه صفّاً من المنشآتِ تتراصف فيه الجريدةُ والمصرفُ وأضرابٌ كثيرةٌ أخرى من الأعمالِ والمِهَن. وفي معْظَمِ هذه الحالاتِ يشتَمِلُ الاستغناءُ على العاملينَ وعلى المتعاملينَ سويّةً. فيسعُ المعلّمين والمتعلّمين أن يهجروا الصفوفَ ويسعُ المصارفَ أن تقفِلَ أبوابَها دونَ الزبائنِ آماداً غيرَ قصيرةٍ، إلخ. على أنّ الاستغناءَ عن اللقاءِ في المكتبِ أو في المدرسةِ لم يكن مهمّةً سلسةَ الأداءِ – على ما شاعَ – في هذه الأسابيعِ التي مضَت... ولكن ماذا إن كانت أَوْجُهُ القصورِ من الأنواعِ التي يَسَعُ أجيالاً جديدةً من التقاناتِ أن تعالِجَها وماذا إن كان الضيقُ بالصيغةِ كلّها مجرّدَ عَرَضٍ من أعراض التغرُّبِ أمْلَتْهُ حداثةُ عهدِنا بالصيغةِ وسنتجاوزُهُ بالتعوّد؟

التشاورُ أو العملُ جماعةً ممكنٌ أيضاً في الصيغةِ الجديدة، وقد خَبِرَهُ المحتاجون إليه في أثناءِ الحَجْر. وليس ضعيفَ الدلالةِ أن تكُونَ مواضعُ مختلفةٌ من العالَمِ المتعازِلِ (بينَها بيروت) قد شَهِدت عزفاً جماعيّاً تولّاهُ موسيقيّو الفِرْقةِ كلٌّ من مَعْزَلِه. فمعلومٌ أنّ وَحْدةَ الأوركسترا، إذ يحصُلُ تظهيرُها بالقيادةِ الواحدة، تُعَدُّ أرْفَعَ أنواعِ الوَحْدةِ وأشدَّها عُسْراً وأسْراً. فإذا هي أصبَحَت في المتناوَلِ عن بُعْدٍ فكلُّ ما دونَها أيسَرُ منها تناوُلاً. هذا والاستغناءُ عن التوثيقِ المُخْتَزَنِ في مقرِّ العملِ أو في المكتبة ممكنٌ أيضاً من الآنِ بفضلِ الاتّصالِ عن بعدٍ بقواعد المعطَيات أو خَزْنِها. وإذا كانت مراقبةُ العاملين عن بعدٍ ما تزالُ جزئيّةً إذ قد يَسَعُ الواحدَ منهم أن يأذَنَ َلنَفْسِه، وهو في بَيْتِهِ، بإغفاءةٍ قصيرةٍ، فهذا أيضاً يمكِنُ لأصحابِ الأعمالِ تَلافيهِ بتحسينِ الوسائلِ والأعرافِ بحيثُ لا يعودُ للمستخدَمِ البائسِ أن يحوّلَ وَجْهَه عن شاشتِه لحظةً بلا ترتيبٍ مسبق.

على أنّ ما خبِرْناهُ فعلاً من تغييرٍ مفتوحٍ على أفقٍ قريبٍ أو بعيدٍ في حياتِنا اليوميّةِ قد لا يكُونُ متّصلاً بالعملِ بالدرجةِ الأولى. أو إنّ بعضَنا كان معتاداً، من قبْلِ الوباءِ، أن يزاولَ عمَلَه في عُزْلةِ مَنْزله وهو عالِمٌ بإمكانِ التواصلِ وأطرافَ العملِ الآخَرِين ومادّةَ العملِ ووسائلَه كلّما احتاج إلى ذلك. ولكنّ هذه السُنّةَ اتّسعَ مجالُها كثيراً في ظرْفِ الحَجْر، في ديارِنا هذه على الخصوص.

الحياةُ اليوميّةُ ومَواردُ الحاضر
ما بدا أشدَّ احتياجاً إلى معالجةِ آثارِ الحجْرِ في مختلِفِ وجوهه، بما هو حبسٌ، إنَّما هو الحياةُ اليوميّة بما هي نسيجُ علاقاتٍ وأفعالٍ معتادةٍ أو ممكنة يفيضُ كثيراً عن مُزاوَلةِ المِهْنة. عُزِلْنا عن العالَمِ الذي نَزْعُمُ أنّهُ واسعٌ فأصْبَحَ كلُّ خروجٍ إليه، مهما يَكُنْ استثناءً، بل كلُّ استقبالٍ لشخصٍ أو لشيءٍ يأتينا منه، مجلبةً للخطرِ أو للشعورِ بِهِ في الأقلّ. وشَملَ اعتزالُنا، فضلاً عن الأصدقاءِ والمعارفِ، أفراداً من العائلةِ لا يشاطِرونَنا السَكَن... بل رُحْنا نتحسّبُ أيضاً من تعرُّضِ أولئك الذين يشاطِرونَنا إيّاه لمخالطةٍ قد لا يَكُونُ منها بدٌّ، مهما تَكُنْ عارضةً، لأشخاصٍ وأشياءٍ من خارجِ سكَنِنا، متوجّسينَ ممّا يمكِنُ أنْ يجُرّه هذا النوعُ من المخالطةِ على مُساكِنينا فضلاً عن أنفُسِنا. وفي هذا كلِّهِ اضطُرِرْنا للرُكونِ إلى تقليص مُماسّتنا للخارجِ ومُماسّةِ الخارِجِ لنا بما هو تقليصٌ لاحتمال الخَطر: فهذه هي فلسفةُ الحجْرِ أصْلاً. وقد أفضت هذه الضرورةُ إلى شيوعِ ممارَساتٍ خالفَت المألوفَ، على الرُغْم من سابقِ ورودِها، غيرَ أنّ لها بعداً مستقبليّاً يَسْتَبْعدُ اعتبارَها مجرّدَ شذوذٍ عن جادّةٍ ما أو استثناءً زائلاً من قاعدة. هكذا غَلَبَ استقدامُ موادّ الاستهلاكِ من المطعمِ أو من المتجرِ إلى المستَهْلِكِ إقدامَ هذا الأخير على الانتقالِ إلى المطعمِ أو المتجرِ لتناولِ الطعامِ أو للتبضُّع. وهو ما يُنْذِرُ برَدِّ المتجَرِ إلى مستَودَعٍ وباختصارِ المطعمِ في مطبَخِه. فما حاجَةُ البشرِ بالمطعم والمتجرِ، من بَعْدُ، وما بالُهُم لا تكفيهم أمازون؟ تبدو أمازون ملبّيةً لحاجاتِ رأسِ المالِ فلِمَ لا يَرْضى بها البشر؟ هذا سؤالٌ أعودُ إليه في الختام. 

مع ما سبقَ كلِّه، يبقى علينا الانتباهُ إلى كونِ هذا الاعتِزالِ، إذ نُحْمَلُ عليه اليوم، لا يُشْبهُ، في مروحةِ وجوهه ولا في وطأتِهِ العمَليّة، ما كان يسَعُه أن يكونَهُ لو ضرَبَ هذا الوباءُ عالَمَنا قَبْلَ ربعِ قرنٍ لا أكثر. وليس البَطَلُ المحْدِثُ للفارقِ إِلَّا الهاتِفَ الذكِيَّ أو الحاسوبَ وهما ههنا واحدٌ يجتمعان في الإنترنت. صلةُ الوصْلِ هذه جاءت لتنضَمّ إلى الإذاعةِ من مرئيّةٍ ومسموعةٍ أو لتُداخِلَها وتقومَ مقامَها في استبقاءِ القَنواتِ المفتوحةِ بينَنا وبَيْنَ زمنِ العالَم الذي أخذ يبدو مشغولاً، كلُّهُ أو جُلُّه، بالوباءِ اشتِغالَنا نحْنُ بهذا الأخير. وقد اتّفقَ أنّ ما بقيَ مفتوحاً من تلك القنواتِ لا يُقْتَصَرُ فِعْلُهُ على وصْلِنا بما يُدْعى وقائعَ عامّةً بل هو يحفَظُ أيضاً إمكانَ متابعتِنا لكلِّ ما نَعدُّه شخصيّاً في شبكةِ اهتماماتِنا: لأخبارِ من هم بِعادٌ عنّا من أهْلٍ وأصدقاءٍ ومن معارفَ عموماً، سواءٌ أكانوا على مسافةِ شارعٍ أمْ على مسافةِ قارّتَين.

ليسَ لنا أن نشتكي إذن عَزْلاً فرضَهُ الوباءُ سوى العَزْلِ عن إمكانِ التلامُسِ والتجالُس المباشِر. وذاك أنّ سائرَ أحوالِ العلاقةِ ظلّت مُتاحةً بما فيها الرؤيةُ ناهيك بالتخاطُبِ طبعاً. وهو ما يكفي دليلاً على كونِ العَمَلِ، بمعنى المهنةِ، ليس سوى وجهٍ بينَ وجوهٍ لِما بقيَ ميسورَ التفعيلِ من مَناشِطَ وعَلائقَ بين الناسِ وهم في ما يستعجِلون اعتبارَه حبْساً في البيوتِ وتعازُلاً. وهو ما يُفيدُ أيضاً أنّ بنيةَ الزمنِ وغائيّتَهُ بقيَتا، من حيث الأساس، على حالِهِما المألوفةِ من مُعْظَمِ الناس... أي أنّ ما بقيَ غالباً هو التطلّعُ المميِّزُ لبشَرِ أيّامِنا، على التعميمِ، إلى إملاءِ وجهةٍ على الزمنِ، مادّةً وبنيةً، تكونُ – مهما تَكُنْ صِفَتُها – مغايرةً لوجْهَتِه التلقائيّةِ حينَ يبقى حبْلُهُ على غارِبِهِ اضطِراراً، وهذه وجهةُ التبدُّدِ الإجْماليِّ المفضي إلى الموت. على أنّ شرطَ هذا النوعِ من السيطرةِ، في الظَرْفِ الذي نُعاينُ ونُعاني، إنَّما هو بقاءُ الصلاتِ التي تُدْعى قَنَوات التواصُلِ إلى تفعيلِها قائمةً أصْلاً لم يذهب بها ظَرْفُ الوباءِ، بما فيها، على الأخصّ، الصلةُ المِهْنيّةُ، وأن تكونَ هذه القنواتُ مُتاحةً لطرفَي العَلاقةِ أو لأطرافِها في آنٍ أيّةً تكن طبيعةُ العلاقة. وهذان، على ما هو مَعْلومٌ، شرطانِ مَيسورا التحقّقِ، في عالَمِ اليومِ، لمُعْظَمِ البَشَرَ...
(يُتبع جزء ثانٍ وأخير)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024