الاستعمار العثماني لتركيا.. واللبناني لبيروت (1)

وسام سعادة

الإثنين 2019/09/09

أهمل لبنان الجمهورية الأولى، لبنان المارونية السياسية، ذاكرة الجبل اللبناني فترة المجاعة - زمن الحرب الكبرى. اقتصر خبرها على بضعة سطور في المقرر المدرسي الرسمي، وقليل من الأعمال الأدبية.

هكذا، كُتب على التلميذ النجيب أن يبيّن كيف خرق أحمد جمال باشا نظام بروتوكول المتصرفية، كما لو كان واقعياً الحفاظ على اتفاق وضع خاص لإقليم من السلطنة، هو تحديدا سنجق ضمن ولاية بيروت - وهو ما يتناساه الكتاب المدرسي تماماً - اتفاق أبرم مع دول دخلت معها السلطنة في حالة حرب.

شهداء 6 أيار النخبويين
لا تحضر مأساة المجاعة في المقرر الرسمي إلا كملحقة في طيّات "خرق" جمال باشا نظام البروتوكول. ويفترض بالتلميذ النجيب أن يخرج "متيلته كرجة ماي" هنا، فيظهر كيف تضافر الحصار العثماني من جهة البر، مع حصار الحلفاء من جهة البحر، واجتياح الجراد. وكيف أن الحصار الأصلي (العبرة من الدرس) يتمثل بحرمان المتصرفية من سهلي البقاع وعكار وبلاد البشارة، ومن الموانئ. الثابت في كل هذا إنكار مطلق لواقعة إدارية: وهي أن متصرفية الجبل، على نظامها الخاص ومجلس إدارتها الطوائفي، صارت واحداً من ست سناجق تتكون منها ولاية بيروت التي استحدثت عام 1888 ومركزها مدينة بيروت وتمتد من اللاذقية إلى حيفا ونابلس.
بعد ذلك، على التلميذ المثالي، أو بالأحرى "المتيلي" (نسبة إلى "المتيلة" التي يتقنها وعليه أن يفرغ حمولتها في الامتحان) أن يرمي المئة أو مئة وخمسين ألف ضحية للمجاعة وراءه، ويركز اهتمامه على المشانق التي نصبها جمال باشا "مناصفة" بين معارضين مسلمين ومسيحيين، أبدوا تعاطفهم مع "ثورة" الشريف حسين، أو تعاونوا مع الفرنسيين والإنكليز.

في عز غلبة الموارنة على الدولة اللبنانية، كان شهداء 6 أيار في ساحتي البرج ببيروت، والمرجة بدمشق، هم الأوْلى بإحياء ذكراهم، وتحويل تمثالهم إلى مركز الأيديولوجيا اللبنانية، وإفرادهم بيوم عطلة سنوي.
أما المجاعة فلا يوم يخلد ذكراها، ولا نصب، ولا تمويل لبحث تأريخي أرشيفي جدي وممنهج. مطرحها فقط في المتيلة الرسمية، الملحقة بالسؤال التقليدي عن خرق جمال باشا نظام البروتوكول.

أطنب لبنان الجمهورية الأولى في الحديث عن "النير التركي"، إنما وفقاً لمعادلة رمزية أساسية: الأولوية لشهداء 6 أيار النخبويين. المجاعة بقيت عنده مسألة ثانوية.
تعددت الأسباب هنا: عدد ضحايا كبير من شأنه أن يبعث على الشك بعدد الناجين من المجاعة، وما دام أكثر الضحايا مسيحيين، فهذا باعث على التشكيك بالأكثرية المسيحية، التي جرى الاكتشاف سريعاً عن كونها تأمنت في احصائي 1921 و1932، بسبب استمرار نسبة من المسلمين في مقاطعة الإحصاء، والمطالبة بالوحدة السورية. تلك الوحدة التي رفعت النخب السنية البيروتية والطرابلسية لواءها حتى مؤتمر الساحل 1936، ليس فقط كنوستالجيا للمملكة العربية السورية، التي أعلنها فيصل بن الحسين في دمشق، بل لأنها كانت خسرت كياناً ليفانتينياً أخذ يتطور في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين كنوع من وطنية محلية ساحلية ضمن الكومنولث العثماني، واسمه ولاية بيروت.

حرج البرجوازية
ثم إن كثرة التركيز على المجاعة تحرج البرجوازية المسيحية. أبناء هذه لم ينقصهم ما لذ وطاب طيلة سني الحرب الكبرى، والأكثرية الريفية الفلاحية أذلّت وجاعت. أنى لهذه البرجوازية أن تقود البلاد بعد ذلك إذا حلّت المجاعة في مركز الذاكرة؟
ليس هذا بتفصيل ولا بأمر نافل، إلى اليوم. كادت أن تمر ذكرى المجاعة المئوية سهواً في لبنان قبل أربع سنوات. حينها، ما كان داع لمقولة "إرهاب الدولة العثماني". فقط لإطلاق فعاليات مئوية لبنان الكبير وجد ما يدعو لهذه المقولة.

تهميش جياع ما بعد المجاعة، أدى إلى تهميش ذكرى المجاعة نفسها. أيضاً، في المسابقة بين الطوائف، كل واحدة تحب أن تخبر عن حرمانها، لكنها تقتصد في أخبار الحرمان حين يتعلّق الأمر بالجوع. حين يداهمها حديث الجوع تجوع للابتعاد عنه إلى حديث البطولات. فالجوع غير ملحمي. خصوصاً إذا كان الفخر الصميم للعائلات التي تولت حكم لبنان لاحقاً هي أنها لم تجع ولم تعطش خلال الحرب الكبرى.
لقد ضحى موارنة الجمهورية الأولى بذاكرة المجاعة. من جهة، كي لا ينقص عددهم فوق اللزوم. من جهة ثانية، لأن الجوع غير ملحمي، والبطولة هي لشهداء النخبة. من جهة ثالثة، لأن البرجوازية المسيحية، في الغالب غير مارونية، ليست هذه هي ذاكرتها "البيولوجية" خلال الحرب الكبرى.. ولأن المضاربين الذين ساهموا في تجويع الناس خلال الحرب كانوا أيضاً في سلّم البرجوازية بعدها.

أهملوا المجاعة. ألحقوها بسؤال رتيب في صف البريفيه. ركزوا على المشانق لأبناء العائلات. على مناصفة جمال باشا بين المسلمين والمسيحيين خلالها. على الميثاق الوطني الذي أَوجده جمال بعملته تلك، وكل ما كان يتوجب استرداده كميثاق عهد إسلامي مسيحي، بالكلام المعسول عن لبنان "بجناحيه".
بدت المجاعة أيضاً، في حال التركيز عليها أمراً خلافياً بين المسيحيين والمسلمين، يفضل اجتنابه بالحفاظ على ذكرها بالشكل المحدود، وبتوزيع أسبابها بين حصار العثمانيين البري وحصار الحلفاء البحري للسواحل العثمانية. أن يكون للمجاعة أي صلة بعلاقة غير إيجابية بين المسلمين والمسيحيين، بنظرة سلبية للمسيحيين انتابت المسلمين خلال الحرب العالمية الأولى، فهذه نافذة محرّم فتحها.
لأجل هذا، كان دائماً الحرص على عدم التركيز على المجاعة، وعلى "سلقها" مع سواها، وإلحاقها بسواها. مع الإبادة التي حلّت بأرمن الأناضول مثلا. أو لصالح تحويل رصيدها الرمزي لشهداء 6 أيار. ما من أحد من هؤلاء جاع قبل أن يلتف حول رقبته حبل المشنقة.

الإغفال الفظ
مع كل ما قاله ميشال عون، عن "ارهاب الدولة العثماني"، فهو لم يخرج عن المعادلة الرمزية الذي قام عليها التلاعب بمستويات وأبعاد الذاكرة في "الجمهورية الاولى"، تسييل مأساة المجاعة إما بردّها إلى فصل من فصول نير عثماني خرافي امتد لأربعة قرون، وإما بحشوها في الإبادة الأرمنية، بدافع اسلاموفوبي، كما لو أن السلطنة اغتنمت الحرب الكبرى لقتل كل المسيحيين داخلها، في إغفال فظ لكون السلطنة كانت في تلك الحرب شبه مستعمرة اقتصادياً وعسكرياً للامبراطورية الألمانية بقيادة فيلهلم الثاني، وإلى جانبها الإمبراطورية الكاثوليكية الرئيسية في ذلك الوقت، امبراطورية آل هابسبورغ النمساوية المجرية.

واليوم، إذ يتبين أكثر فأكثر أن الألمان لم يكونوا خارج سياق الفتك بالأرمن خلال الحرب الكبرى، سيصبح من الهزل بمكان تصوير الأمور كما لو أن العثمانيين اغتنموها مناسبة للتخلص من كل المسيحيين. خاضت الامبراطورية العثمانية الحرب، ليس فقط بقيادات شبه علمانية عرضت خدماتها على البلاشفة لاحقاً بعد الهزيمة. خاضتها تحت قيادة ألمانيا والنمسا. أي أنه، إذا كان لا بد من اختزالات طائفية كاريكاتيرية، فهي جاهدت تحت قيادة إمبراطورين واحد لوثري والثاني كاثوليكي، بل كاثوليكي للغاية، وبضباط ألمان أشرفوا على سائر قطاعات الجيش العثماني خلال الحرب. طبعا، ليس المتوخى من هذا التذكير دعوة رئيس الجمهورية اللبنانية للمطالبة بمحاسبة فيينا، فيينا التي كان لها بالمناسبة اليد الطولى في تسمية أغلب متصرفي جبل لبنان، المشترط فيهم أن يكونوا كاثوليك عثمانيين.

تعني ذاكرة المجاعة قسماً أساسياً من اللبنانيين. الجزء الشمالي من متصرفية الجبل. لا يزال البحث التأريخي حولها بدائياً ومحلوياً.. لم يجتز بعد محك النثرية. ولا يزال التعامل الرسمي معها متصل بتفاديها، كونها موضوعاً خلافياً بين اللبنانيين.
وهي بأقل تقدير موضوع اختلافي. ليست هي نفسها بين شمال المتصرفية وجنوبها، ولا بين جرودها والقرى الأقرب للسواحل، ولا هي نفسها عند الفلاحين وعند المقاطعجية وكبار التجار، ولا هي نفسها عند المسيحيين والمسلمين.

بالتوازي، لبنان الكبير أيضاً موضوع اختلافي وخلافي بامتياز. تهرّب فعاليات مئويته من هذا هو مكابرة لا ترغي ولا تزبد. نجح قسم من الجبل لبنانيين في اقناع المستعمر الفرنسي بهذه التوسعة لجبل لبنان إلى لبنان الكبير، مع رفض قسم آخر لهذه التوسعة وتحذيره من خطرها. أما المناطق التي جرى ضمها لهذا الكيان من خارج المتصرفية فلم تكن سعيدة بذلك البتة. بل إن أكثر سكانها اعتبرها نكبة، مثلما اعتبرت هزيمة السلطنة بحد ذاتها نكبة، أو أقله صدمة. المسكوت عنه هنا أن جزءاً من ولاية، أي متصرفية جبل لبنان، استعمر، رمزياً أقله، مركز ولاية بيروت وأقضية منها، وانتزع أقضية من ولاية دمشق.

العمق المسكوت عنه، هو الاستعمار "الكياني اللبناني"، الفرانكو - ريفي، لولاية بيروت العثمانية، مع تفكيك أوصالها، هي الممتدة من اللاذقية إلى حيفا. وهكذا، التاريخ الرسمي، "المتيلة" اللبنانية، تقوم على اختراع تواصل خرافي بين متصرفية جبل لبنان، كنواة، وبين لبنان الكبير، كمدى طبيعي للفكرة اللبنانية، في تغييب، بالحد الأدنى، لدراسة تداعيات دمج ولاية بيروت، أو القسم الأوسط منها، بمتصرفية الجبل، التي كانت جزءاً له وضع خاص ضمن هذه الولاية. (يتبع جزء ثانٍ وأخير)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024