مئوية ميدان سباق الخيل: مَعلم آخر مهدد في المدينة

ريان ماجد

الجمعة 2016/03/04
قبل مئة سنة، إتخذ والي بيروت في السلطنة العثمانية "عزمي بك" قراراً باقتطاع جزء من عقار حرش بيروت التابع لبلدية بيروت لإنشاء كازينو وميدان لسباق الخيل. وفي العام 1920 انتهى بناء الكازينو الذي كان يتوسط مرمح السباق والمدرّج المزين بقناطر وبخطوط منها عبارة: "الخيل معقود بنواصيها الخير"، وكان المبنيان يتميّزان بطابع معماري عثماني.


وفي العام نفسه، تمّ الإعلان عن دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول من على درج الكازينو الذي أصبح المركز الدائم للمفوض السامي الفرنسي (وهو اليوم قصر الصنوبر مقر إقامة السفير الفرنسي)، وتمّ الإبقاء على سباق الخيل الذي ازدهر في السنوات التي تلت الإعلان، كما يروي وزير شؤون التنمية الإدارية ورئيس "جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي في لبنان (سباركا)" النائب نبيل دو فريج.

كانت الطريق التي تخترق حرش بيروت وسباق الخيل ممراً للكارافانات، و"كان هناك امتداد للحرش ولميدان سباق الخيل في قلب المدينة، ولم يكونا معزولين عنها كما هي الحال اليوم. منطقة الطريق الجديدة مثلاً قبل اجتياح الباطون لها كانت تضم أماكن لتربية الخيول"، وفق محمد أيوب، المدير التنفيذي لجمعية "نحن"، التي تأسست في العام 2009 وهي تعمل على استعادة المساحات العامة و"الحياة العامة" في لبنان.

لكن خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وفي 27 تموز 1982 تحديداً، تهدّم المدرّج ومنشآت السباق ومبناه الأساسي، واحترقت كمية كبيرة من أشجار الصنوبر في حرش بيروت وفي ميدان السباق. و"لاحقاً تم تزفيت طريق ممّر الأحصنة الواقعة بين الحرش والسباق، وبذلك تم تقسيم رئة بيروت الخضراء إلى رئتين"، بحسب نديم أبو رزق، نائب رئيس بلدية بيروت. و"بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، موّلت Region Ile de France دراسة لترميم الحرش وأعادت زرعه، وبحثت مع بلدية بيروت سُبُل فتح هذا الحرش للعموم، وهو الموجود في مناطق "صعبة اجتماعياً". وبعد ضغوط وحوارات طويلة أجرتها "نحن" ومهندسون وناشطون مع بلدية بيروت، "فُتح الحرش أخيراً للعموم كخطوة أولى، كل يوم السبت"، وفق المهندس حبيب دبس.

ميدان سباق الخيل
أما ميدان سباق الخيل، فلم تُجر له أي عملية تأهيل فعلية، رغم أنه من المساحات العامة القليلة في بيروت. جمعية "سباركا"، التي لا تتوخى الربح والتي تُدير السباق لصالح بلدية بيروت منذ العام 1969 عبر إتفاقية انتهت مدّتها إلا أنها ما زالت سارية المفعول بحكم الاستمرارية، أخذت قراراً بعد الاجتياح الاسرائيلي بالإبقاء على سباقات الخيل بالرغم من الدمار وعدم وجود مدرّج لاستقبال الجمهور. وذلك لتشجيع أصحاب الخيول على الإبقاء عليها وعدم بيعها. وفي العام 1986، استطاعت الجمعية إزالة الركام، وأعادت بناء المدرّج في العام 1994.

اليوم، المدرّج آيل إلى السقوط ومُهمل، وهو إن تمّ الاعتناء به، يمكنه أن يستوعب أعداداً كبيرة من الناس، قد تأتي ليس فقط لحضور السباق بل لمشاهدة عروض مسرحية مثلاً أو موسيقية تقام على مدار الأسبوع، كما يشير المدير العام لسباق الخيل نبيل نصرالله، وبالتالي يمكن الاستفادة من هذه المساحة الكبيرة المهملة في المدينة.

وفي الراهن، يُستعمل هذا المرفق، الذي تبلغ مساحته 220 ألف متر مربّع، مرّة واحدة في الأسبوع من قبل مجموعة صغيرة من المجتمع اللبناني تهوى سباق الخيل والمراهنات، يوم السبت في فصل الصيف، والأحد في الفصول الأخرى. وهو يُفتح مرتين في العام عندما تقام معارض للزهور أو للمنتوجات اللبنانية في المساحة الكبيرة التي تحيط بالمدرّج، وتلاقي إقبالاً شعبياً يعكس تعطشّ الناس لمثل هذه النشاطات.

"لم تُبد بلدية بيروت خلال السنوات الماضية أي جدّية في تعاملها مع هذه المساحة، رغم أن سباق الخيل يُعد مرفقاً أساسياً وحيوياً للمدينة، وهي لا تستثمر فيه لأسباب سياسية ودينية واجتماعية، بعضها مُعلن وبعضها الآخر مكتوم"، وفق أبو رزق، الذي يضيف أن النزاع على سباق الخيل عمره طويل، وأن "هناك على مستوى المجلس البلدي والمجتمع البيروتي ككل من لا يريد أن يُبقي على سباق الخيل".

في السياق ذاته، يقول دو فريج إن أسباب غياب قرار سياسي بالحفاظ على السباق وعلى هذه المساحة العامة تعود إلى دواع دينية وأخرى مرتبطة بمشاريع عقارية، وإن كان يستبعدها. لكنه يؤكد أن "سباركا" تقدّمت بمشاريع عديدة إلى بلدية بيروت في السنوات الماضية، مبنية على دراسات متخصّصة، تشرح فيها كيفية الاستفادة من ميدان سباق الخيل لتنظيم نشاطات رياضية وثقافية ولإدخال مال إلى البلدية، يمكنها تخصيصه لإنشاء مدرسة تُعلّم ركوب الخيل ويستفيد منها الناس ذوو الدخل المحدود، إلا أنّ "الجواب الحاضر دائماً هو أن الوقت غير مناسب، كما لو أن هناك نيّة لغض النظر عن هذا الميدان وتركه يموت موتاً بطيئاً"، وفق دو فريج.

غير أن هذا الميدان "هو جزء من ثقافة المدينة وتراثها كما هي الحال في مدن كثيرة أخرى، وهو يساعد في الزراعة وتربية الخيول وتنمية نسلها وبالتالي يجب المحافظة عليه وتجهيزه وضبط المخالفات وإخراجه من التابو الاجتماعي الذي يلّفه. لذلك نحن في وضع حرج، ويجب أن يؤخذ قرار بترميمه أو إغلاقه"، على ما يقول أبو رزق.

مساحة عامة جامعة
لا تحتمل بيروت، التي تُعتبر من أفقر المدن في المساحات العامة والمتنزهات، إقفال واحدة من مساحاتها الخضراء القليلة، و"وجود ميدان السباق داخل المدينة أمر جميل، يجب الاستفادة منه أكثر طوال أيام الأسبوع"، بحسب جوانا حمّور الناشطة في "نحن". كما أن "المساحات العامة هي مكان التقاء وتواصل وتفريغ للطاقات، وهي تؤدي دوراً جامعاً بين الناس، وهذا ما نفتقده في المدينة لذلك يجب الحفاظ على السباق واستعادة علاقته بحرش بيروت. وعلى الدراسات المقدّمة أن تشمل الجوانب الاجتماعية والإقتصادية لمعرفة كيف يمكن لهذه المساحة أن تلبّي حاجات السكان وتطلعاتهم. فروح الأمكنة يخلقها الناس"، يضيف أيوب.

إضافة إلى ذلك، فإن الموقع الرمزي للسباق وحرش بيروت، اللذين يقعان بين الغبيري وقصقص وبدارو، أي بين ثلاث مناطق متنوعة ومختلفة طائفياً، يمكن أن يشكّل فرصة لكسر حاجز الخوف بين الناس وللتعارف والتلاقي الفعلي بينهم. كما أن ربطهما بوسط المدينة عبر مشروع "النقل السلس"، الذي عمل عليه دبس، وهو عبارة عن محور أخضر يربط حرش بيروت بوسط المدينة، ويؤمن سلامة المشاة وراكبي الدراجات حسب القواعد العالمية، والذي ما يزال ينتظر قرار وزير الداخلية للبدء بتنفيذه، يمكن أن يشكّل نقطة تحول في علاقة الناس مع بعضهم ومع المدينة وطرقها وخطوط تماسها القديمة، كما يمكّن الناس من الاستمتاع بالمشي فيها.

هكذا، يصبح لخطّ ذاكرة الحرب في المدينة معنى جديداً، ولحرش بيروت وسباق الخيل دوراً منفساً للاحتقانات والتوترات بين الناس. وفي مئوية صدور قرار إنشاء ميدان السباق، تقدّمت "سباركا" إلى المجلس البلدي بمشروع لتأهيله وتحسين المدرّج والمرمح كخطوة أولى. واذا كان "محافظ بيروت من المحفزين على بقاء السباق، فإن المجلس البلدي لم يأخذ قراره حتى الآن"، وفق أبو رزق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024