جنازات يتيمة وموتى يغسلهم ويكفّنهم أبناؤهم في الجنوب

زينب كنعان

الأحد 2020/04/26
فرض كورونا رعبه على حياتنا الاجتماعية، بل كاد يمحوها: أعراس بلا حفلات ولا مدعوين، وبلا زفّة. فقط عروس وعريس وكمامة.

ميلاد وموتى
وأطفأ مواليد آذار ونيسان شمعة ذكرى ميلادهم وحيدين، أو افتراضيًا مع الأصدقاء إفتراضيين. وربما نسوا الشموع والأعياد وسواها من منسبات اجتماعية. وشاهدنا معايدات من على الشرفات.
ورُفعت الجنازات على أكف بلا مشيّعين. المجالس الحسينية عن أرواح الموتى صارت تُقام على صفحات الفايسبوك. لكن الرعب كان أشد على البعض، وخصوصاً من فرض عليهم غسل موتاهم وتكفينهم.
رائحة الكافور، القماش الأبيض، السدر، والمياه الباردة، تفاصيل أعرفها جيّدًا. أعرف جيداً معنى أن يسجّى أمام عينيك جسد شخص يعنيك. بلا حراك، بلا روح، يُسجّى جثماناً تلمسُ جلده البارد، تتحسّس عروقه التي تلاشى فيها النبض. ما أحسسته في تلك اللحظات يظّل يرافقك، حتى يُنسيك تسارع الأيام رائحة الكافور.

أهل الموتى
ربّما قسوة هذه التفاصيل تحتّم أن يشرف على غسل الموتى وتكفينهم شخص غريب عنهم. لكن الرعب من كورونا فرض على بعض أهل الموتى، أبنائهم، أقاربهم، أن يتولّوا هذه المهمّة القاسية.

كوني من قرية جنوبية أعلم جيّدًا أهمية العلاقات الاجتماعية والواجبات الاجتماعية التي يفرضها الموت. تظّل زيارات أهالي البلدة منزلَ الفقيد تتتالى حتى تمّر مناسبة أربعين الميت. أما يوم الدفن فيشهد حضورًا كثيفاً، وأحيانًا تقام الولائم بعد الدفن، وفي نهايات مناسبة مرور أسبوع على الدفن. وعلى الرغم من الضغوط التي تولدّها هذه المناسبات، هي تشكّل غالباً دعمًا لأهل الفقيد، أو أقلّه تخفف قليلاً وطأة الفقد.

جنازة يتيمة
توفي والد أحمد صباحًا، فأذيع الخبر من مئذنة جامع البلدة. لا أحد من أهالي البلدة الملتزمين العزل المنزلي، جاء إلى منزل الفقيد وأهله. وقد يكون هذا طبيعياً في الوقت الراهن. لكن هل من الطبيعي أن يمتنع غاسل الموتى في البلدة عن غسل والد أحمد؟ خاف الرجل من كورونا، فامتنع عن عادته. وهذا ما أرغم أحمد على غسل والده غسلة الموت، بإشراف إمام مسجد البلدة. وعندما حان وقت الدفن، تكرّر النداء من مئذنة الجامع. أشخاص أربعة فقط أتوا إلى بيت الفقيد، لحمل النعش مع أبنائه الثلاثة.

هي جنازة يتيمة بعض الشيء، قال أحد حاملي النعش. هذا ما فرضه الواقع الراهن في قرى الجنوب وبلداته، وربما في أغلبية القرى اللبنانية التي كانت جنازات تشييع الموتى فيها تجمع حضورًا حاشداً، على الرغم من الطقس الماطر أحياناً.

فقيد بعد دفنه
بعض الناس حملهم خوفهم من توافد المعزّين، إلى الإعلان عن وفاة فقيدهم بعد فراغهم من دفنه.
تقول خديجة التي أشرفت أيضًا على غسل والدتها وتكفينها، إن الأمر شديد الصعوبة. ولكن الواقع فرض عليها الإقدام على هذه الخطوة. الناس خائفون من كورونا، وكلما عطس أحدهم يقولون كورونا. على الرغم من أن أم خديجة المسنّة، لم تكن مصابة بكورونا، وأسباب وفاتها طبيعية.

مجالس العزاء عن روح الميّت أصبحت افتراضية. إحدى العائلات أقامت أسبوع فقيدها عبر منصة فايسبوك، بعدما وجهّت الدعوات عبر الواتس آب. وتلا الشيخ الأدعية والخطبة على أشخاص افتراضيين عبر التواصل الافتراضي.

هكذا غيّر كورونا عاداتنا الاجتماعية ومناسباتنا التي أصبحت افتراضية، حتى في الموت الذي قد يكون الحقيقة التي لا تقبل الافتراض قط. ولكن نستفيد من هذا الدرس، فنخفّف مظاهر البذخ في مناسباتنا؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024