عشيرة المقداد في حارة حريك تخيف المسيحيين.. والشيعة يتواطأون

محمد أبي سمرا

السبت 2020/05/23
يصعب توطُّن تجمعين سكانيين عشوائيّيْ العمران و"غريبين" عن المجتمع الذي يتوطنان فيه - والتجمع الأول جردي عشائري (آل المقداد الذين نشرت "المدن" في 16 أيار الجاري، سيرة نزاعهم مع آل الأبيض في حارة حريك)، والثاني من اللاجئين الفلسطينيين - على طرفي قرية ساحلية "مستقرة" نسبياً (حارة حريك)، من دون إثارة التجمعين الجديدين مخاوف سكانها "الأصليين" المسيحيين والمسلمين الشيعة، المتجاورين والمتخالطين. 

مخاوف المسيحيين
لكن المخاوف ظهرت بقوة بين سكان الحارة المسيحيين، فأشعرتهم بالضيق والقلق والحصار، في دولة حسبوا ويحسبون أنها "دولتهم"، ونشأت لتجسِّد "وطنيّتهم شبه القومية الطائفية".

وهي دولة تكوّنت من جماعات أهلية محليّة يقوم اجتماعها وتقوم حياتها السياسية وتاريخها، على هويات مضطربة ومتنازعة، وتزايدت هجرات أهلها من أرياف مناطق جبلية إلى قرى الساحل، فتجاورت وتوطّنت وتجذرت فيها. وكان اضطراب وتنازع هويات تلك الجماعات، ولا يزال يتغذى من عوامل أخرى أساسية تتصل بالإرث الثقافي والديني والعرقي وأشكال التنظيم الاجتماعي ونمط العيش، ومن النزاع على الأرض والحدود والتصدر والسلطان.

عشيرة على الساحل
قبل سنين كثيرة من إقامة مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين على طرف قرية حارة حريك الجنوبي الساحلية، عقب حرب 1948 العربية في فلسطين (النكبة)، نشأ في مطالع العشرية الثالثة من القرن العشرين (العشرينات) حي آل المقداد على طرف الحارة الشمالي الغربي لجهة الغبيري. وتوسع الحي تدريجًا، بعد إعلان دولة لبنان الكبير، جراء توافد مهاجري عشيرة المقداد الشيعية إلى حيّهم الجديد من قرية لاسا في أعالي جرود جبيل.

وروى رستم المقداد (ولد سنة 1944 في حيّ المقداد) أن أوائل مهاجري عشيرته إلى قرى ما كان يسمى "ساحل النصارى" (الحدث، برج البراجنة، حارة حريك، الشياح)، وصلوا من موطنهم في قريتهم الجردية بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الأولى. وكانوا يحملون عدّة الفلاحة (نير، سكة حراثة، ومحرات، وربما ينهرون بقرة أو اثنتين)، ليعملوا في حقول تلك القرى وبساتينها فلاحين موسميين، ويقيمون فيها إقامةً عشوائية موقتة ما بين الخريف والربيع، ويعودون إلى قريتهم لاسا في بدايات الصيف. نشوء دولة لبنان الكبير هو ما سمح لهم بتلك الهجرات الموسمية، أيام كانت بساتين قرى الساحل وحقوله تموّن بيروت بالحمضيات والخضر.

ومثل كل هجرة وإقامة موسميتين طلبًا للعمل والرزق، نشأت عن الهجرات المتواترة لأبناء العشيرة أشكال من الإقامة الدائمة أو المتصلة. فحين وفد والد الراوي من قريته الجردية، للعمل فلاحًا في قرى الساحل مطالع الأربعينات، كان قد مضى أكثر من عقد على إقامة فلاحين من عشيرته مع عائلاتهم على نحو دائم في "تخاشيب" وغرف إسمنتية زراعية في تجمعين: واحد على طرف برج البراجنة الشمالي، وآخر على طرف حارة حريك الشمالي أيضًا. هذا الأخير - وهو ما سمي "حي بيت المقداد" -  نشأ على ما كان كرم زيتون تشارك رجال من العشيرة على شرائه سنة 1930 من إبرهيم صالح علامة وجريس الطيّار (وهما من عائلات السكان "الأصليين" الشيعة والمسيحيين). فوزع أبناء العشيرة كرم الزيتون قطعًا في ما بينهم، وأخذوا يبنون عليه مساكن إسمنتية من غرفة أو اثنتين، لإقامتهم على مثال السكن القرابي العشائري.

ثارات عشائرية وشقاق أهلي
كان أحمد ضاهر المقداد صاحب الفكرة المؤسس والمبادر، مع إخوته الثلاثة، إلى شراء الكرم، قبل توسع هجرة  أبناء العشيرة، وتجاور أجبابها في السكن، وتزايد عدد غرفهم، تلاصقها وتكوكبها عشوائيًا في الحي الناشىء والمتمدّد في الأراضي المجاورة. وظل التمدد مستمرًا حتى صدر في العام 1964 قانون لبناني عام لمسح الأراضي وترتيبها، فنظم استعمالاتها والبناء عليها.

حدَّ هذا القانون من توسع الحي. لكن حوادث 1958 ونزاعها الأهلي أطلقا طفرة قوية من توسع حيّ المقداد، وإقبال أبناء العشيرة على البناء العشوائي فيه. فشيدوا غرفًا ومساكن متلاصقة متداخلة. وانتقلت طلائع طفرة البناء الفوضوي تلك من الحي العشائري إلى شاطىء الأوزاعي والجناح آنذاك. وكان أبو طعان المقداد - مؤسس محطة المقداد الشهيرة للمحروقات على طريق المطار، قبيل إنشائه - هو البادىء في ذلك الانتقال.

وأدى توسع حي المقداد على طرف حارة حريك الشمالي إلى تجاور مساكنه وتداخلها مع بيوت السكان "الأصليين" وأملاكهم. وفي أواسط الأربعينات تفاقم تناسل الثارات العشائرية بين أجباب آل المقداد ورجالهم في حيّهم على تخوم كل من الحارة وبرج البراجنة.

كانت بواعث الثارات نزاعات عشائرية، أبرز أسبابها إقدام رجال وشبان من هذا الجب أو ذاك على خطف نساء من أجباب أخرى، والزواج منهن رغمًا عن أهلهن. وتوسعت الثارات وأخذ رجال من العشيرة يترصد بعضهم بعضًا ويتكامنون مسلحين بالمسدسات والبنادق ويطلقون منها، هنا وهناك في المنطقة، نيران ثاراتهم المتأججة.

المحلة التي سُميت المشرَّفية - بعدما أنشأ رجل من آل مشرّفية الدروز محطة محروقات في ناحية منها، وكان سكانها وملاّكها من المسيحيين - شهدت الكثير من كمائن الثأر وحوادث إطلاق النار في العام 1947. وروّعت هذه الحال الأهالي من السكان "الأصليين"، وأثارت مخاوفهم وحفيظتهم، فتنادى وجوه من عائلاتهم، مسيحيين ومسلمين شيعة، إلى الاجتماع للنظر في الأمر.

قرَّ رأي المجتمعين على كتابة عريضة تطلب العمل على ترحيل آل المقداد أو أبناء لاسا من حيّهم العشائري. وما أن وصلت العريضة إلى بلدية برج البراجنة، حتى قام رئيس مجلسها البلدي (أبو عزات السباعي) والوجه الأبرز نفوذًا في آل عمار (حسين درويش عمار، والد النائب محمود عمار، لاحقًا) بتمزيقها قائلين: "آل المقداد سندٌ لنا - نحن المسلمين الشيعة - مهما تقلّبت الأحوال والظروف".

أليست هذه حال الجماعات الأهلية المتجاورة، منذ الزمن العثماني، والتي ضمّتها إمارة جبل لبنان الدرزية، ثم المتصرفية ما بين (1860 - 1920)، وصولاً إلى دولة لبنان الكبير؟ هذه التي تتصدع اليوم وتتآكل من الداخل والخارج، ليزداد رئيس جمهوريتها الحالي زهواً برئاسته وسلطانه المزعوم، ولا يتوقف عن مديح نفسه وبطولاته في مناسبة المئوية الأولى على تأسيسها.   

توطن عشائري
وربما في العام 1947 بادر القاضي عبد الكريم سليم إلى اقناع والد الراوي رستم المقداد بنقل قيد نفوس عائلته من سجل القيد في لاسا إلى سجل قيد النفوس في حارة حريك، وساعده في ذلك. بعدها، وفي سنة واحدة، تفشَّت في الحي حمّى نقل قيد نفوس أبناء العشيرة إلى الحارة. لكنهم لم ينقطعوا عن موطنهم الأول في قريتهم الجردية، بل اشتروا فيها أملاكًا أضافوها إلى أملاكهم القديمة، وشيدوا عليها بيوتًا ومنازل جديدة أظهرتهم في حال مادية ومعيشية أفضل بكثير من جيرانهم أبناء قرية مقنة المقيمين فيها من دون هجرة إلى الساحل.

لكن رستم المقداد كان استهل روايته بمقتطفات من سيرته وسيرة الحي، معتدًا بانتسابه وأهله إلى الساحل، لا إلى الجرد: "نحن مقيمون هنا أبًا عن جد. فجدتي وجدي مدفونان هنا في مقبرة الطيونة. لكنني عبثًا حاولت العثور على قبرهما الذي يعود إلى أيام الحرب العالمية الأولى". واعتداده هذا ينطوي على ردٍ ضمني عنيد على تذمُّر أهالي حارة حريك المسيحيين من نمط حياة أبناء العشيرة، ومن نظرتهم المتعالية عليهم والدونية إليهم.

لكن جدة رستم لأمه، هي ابنة عائلة الحاج من السكان "الأصليين" الشيعة في حارة حريك والشياح. وفي شبابه عمل والد رستم في أملاك آل الحاج الزراعية فلاحًا، قبل زواجه من إحدى بناتهم، وإنجابه منها 18 ولدًا. وعندما كان أهل زوجته يدعونه إلى أكلة سمك، كان الفلاح الجردي يقول لهم: "شو؟! بدكن تطعموني حراذين؟!"

هذا فيما كان أطفال آل المقداد ونساؤهم، وكذلك أطفال السكان "الاصليين" الشيعة، يلمّون البزاق من الحقول في أعياد البربارة، ويبيعونه من جيرانهم المسيحيين. وإلى عمله فلاحًا، صار والد الراوي بقّارًا يملك 12 رأسًا من البقر، يعلفها في عودة يزرعها لآل سليم، ويأويها إلى زريبة تلاصق غرفةُ ومطبخًا لإقامة العائلة في الحي. وفي تتخيتة المطبخ أخذ ينام رستم وبعض إخوته، بعدما تزايد عددهم. أما أمه وسائر نسوة العشيرة فكنّ يبعن حليب البقر من "حلاّبَةٍ" يجمعون الحليب لتسويقه في بيروت.

وظلت الأبقار حاضرة في الحي حتى مطالع السبعينات مع بقايا من نمط الحياة الزراعية: ضمان قطع أرض من الملاك وزراعتها خضرًا، فيما أكياس اللبنة والزبدة معلقة في "عودات" (قطع أرض "موقوفة" لعودة مهاجر، على ما تدل تسميتها)، بأغصان أشجار توت من مخلفات تربية دود القز وصناعة الحرير الآفلة قبل ثلاثة عقود، في الساحل والجبل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024