لبنان مسرحاً لصيحات الدم وزعماء القبائل الطائفية

محمد أبي سمرا

الثلاثاء 2019/07/02

"أصحاب الدم"، قالت إحدى مذيعات محطات النقل التلفزيوني اللبناني المباشر، عن شلل الشبان والفتيان المنهمكين برمي الإطارات المطاطية من صندوق شاحنة صغيرة، وإشعالها لتكثيف الحرائق والدخان الأسود وسط أوتوستراد خلدة، مساء الأحد 30 حزيران الماضي. وأطلقت المذيعة صفة "الشهيدين" على مرافقي وزير شؤون النازحين في لبنان صالح الغريب، واللذين سقطا في هرجة تبادل إطلاق النار بعد ظهر الأحد إياه، على الطريق التي كان سيسلكها وزير الخارجية والدبلوماسية اللبنانية جبران باسيل، ليصل إلى بلدة كفرمتى في قضاء عاليه، فقطع طريقه هذه محازبو الزعيم وليد جنبلاط الاشتراكيون، لمنعه من الوصول إلى تلك البلدة لإحياء واحدة من هرجاته المتنقلة منذ شهور في الديار والدساكر اللبنانية. وذلك لـ"شد عصب" (على ما يقال في الأدبيات السياسية القبلية والطائفية اللبنانية الراهنة) محازبيه وتكثيرهم، ليتسع جمهور قبيلته في تلك الديار والدساكر، ولاثبات أنه الأقوى عصباً وعصبية بين أمثاله من الزعماء اللبنانيين. وهذا بناء على إرادته بعث عصبية رهطه، عوداً على بدء التهجير في الحروب الأهلية الاقليمية الملبننة (1975-1990). وهي الحروب والتي كان الزجال طليع حمدان قد أنشد زجليته الدموية في إحدى جولاتها الأخيرة في الجبل، وافتتحها قائلاً: "والشيخ عبدالله التقي/ اللي (الذي) تحممو بدمو النقي/ بدماتهم تتحمموا".

وكان الوزير باسيل قد استبق عزمه على الوصول إلى كفرمتى باحيائه مهرجاناً أحدياً لمحازبيه ورهطه في الكحالة، فألقى فيهم خطبة ضمّنها بعثه تلك الثارات القديمة الراعفة. أما ما قام به المحازبون الجنبلاطيين، الذين أقفلوا طريق موكبه إلى كفرمتى، فأهابت هرجتهم بالوزير باسيل (الحضاري والمتحضر، على ما يلهج مردداً كلما تحدث عن لبنانه ولبنانييه الذين حرضهم على القيام بحملات مطاردة عنصرية للاجئين السوريين في لبنان) وأخافته، فعزف عن الوصول إلى كفرمتى. لكن عزوفه هذا لم يَهِنْ على حليفه وزير شؤون اللاجئين، فجهز موكبه عازماً على فتح الطريق، فحصل ما حصل، وسقط من مرافقيه قتيلين سمّتهما المذيعة التلفزيونية "شهيدين"، وسمّت حرّاقي الدواليب على طريق خلدة "أصحاب الدم"، فيما تولى الوزير السابق وئام وهاب الكلام على استحالة دفنهما، بعثاً لتقاليد الثأر والدم.

لكلٍّ طريقته
هذه ليست سوى واحدةٍ من عشرات وقائع الحياة السياسية اللبنانية المتكررة، التي يستحيل حدوثها بلا تنظيم وإيعاز من زعماء القبائل لرعاعها، كي يقوموا بهرجاتهم على دراجات نارية وشاحناتٍ تحمل الإطارات المطاطية، التي يشعلونها لإقفال الطرق وحجز العابرين في سياراتهم ساعات وساعات، مثلما حصل في خلدة مساء الأحد الفائت. ولتكتمل هذه المشاهد بعد صيحات الدم والثأر والانتقام، لا بد من مشاهدة رجال قوى الأمن الداخلي الأبرار الساهرين الصابرين، بصفتهم مشاهدين مدفوعي الأجر لحضور مسرح الحرائق ودخانه الأسود، فيما قالت وزيرتهم، وزير الداخلية والبلديات السيدة ريّا الحسن، إنها لن تقولَ شيئاً ولن تتهم أحداً في انتظار التحقيق الذي سيقوم به ... من؟! القضاة الذين أضربوا أكثر من شهر عن عملهم وأقفلوا المحاكم اعتراضاً منهم على حسم 5 في المئة من ما يتقاضونه من علاوات، ومثلهم فعل مدرّسو الجامعة اللبنانية، لكن من دون قيامهم مع القضاة – مشكورون - بحملات إحراق الدواليب وقطع الطرق، مثلما فعل الجنود وضباطهم المتقاعدون، الذين حاولوا مرة الإغارة على القصر الحكومي أثناء اجتماع مجلس الوزراء.

هاتف دنيوي
وفيما كانت الحرائق تشتعل مساء الأحد على طريق خلدة ويغذيها الشبان والفتيان بالاطارات المطاطية، سارع الفتيان والشبان إياهم فجأة إلى التوقف عن أعمالهم، كأنما هاتفاً غامضاً ألهمهم ودعاهم إلى الكف عن الحرق، بل أخذوا يعيدون الإطارات غير المشتعلة إلى الشاحنة، ثم تقدّم بعضهم من الحرائق التي أشعلوها، فراحوا بعصيٍّ يحملونها يزيحونها جانباً، قبل مغادرتهم المكان. ولا يعقل أن يكون الهاتف قد هبط عليهم من  أوليائهم الصالحين أو من سموات إلهية، بل من مصادر "خليوية" دنيوية يستجيبون لها استجابة صغار رجال المافيا ورعاعها  لعرّابهم النافذ المسموع الكلمة.

لكن الحرائق ظلت مشتعلة وسط الأوتوستراد بعد انفضاضهم إلى "قواعدهم سالمين"، وظلت زحمة السير الخانقة على حالها، فتقدم إليها بعض رجال قوى الأمن الداخلي حائرين متكاسلين، وراحوا يزيحون بأرجلهم وعصيّ يحملونها بعض الإطارات المشتعلة. وفي الفسحة الضيقة التي انزاحت عنها النيران من الطريق، أخذت السيارات تتدافع للعبور على أكوام الرماد الملتهب ووسط عبق السخام الأسود، فيما ألسنة النيران الجانبية تلامس جنبات السيارات المتدافعة. حتى أن مذيع النشرة الإخبارية الذي يشاهد المنظر من الأستديو التلفزيوني، استغرب قائلاً: لماذا لا يأتي رجال قوى الأمن بسطول ماء كي يطفئوا الحريق؟! هذا فيما قالت امرأة من مشاهدي ما يحدث من على شاشة البث التلفزيوني المباشر: لماذا لا يخرج بعض سائقي السيارات بمطافئ الحريق من سياراتهم لإخماد النيران التي تكاد تلتهم جنبات سياراتهم فيما هم  يتزاحمون على الفرار بها من الفسحة الضيقة الخالية من النيران على الاتوستراد؟!

نعم لقد فقد اللبنانيون حسَّ التدبير في مثل هذه المعمعات التي تحيق بهم وتفرّقهم فرداً فرداً، في تسابق فردي أناني على الفرار والنجاة، في حال كانوا في مثل هذه الأوقات غير معنيين بصيحات الدماء القبلية وحرائقها.

حروب بمفعول رجعي
لن تكون هذه الواقعة أخيرة في مسلسل الحوادث اللبنانية المماثلة، التي يبدو أن وزير الخارجية جبران باسيل ورهطه وأولياء أمره "المتفاهم" معهم تفاهماً إقليميا استراتيجيا، أدمنوا إثارتها عقيدة سياسية، فاندفع هو إليها وسيلة لاستعادة ما يسميه "حقوقاً مهدورة" لجماعته التي صعدت صعوداً ناريا إلى السلطة، بحثا عن موقعها ودورها ومغانمها بين القبائل اللبنانية وزعمائها المكرسين منذ أزمنة الحرب وما بعدها.

كأنما الوزير الذي كان لا يزال فتىً مراهقاً في أزمنة الحروب المديدة، ولم يشارك هو مباشرة فيها، وسمع من أهله أخبارها، يتقنّع اليوم بالبراءة السادرة، ليبعث حروباً موضعية صغيرة بمفعول رجعي، لأنها السبيل السياسي الملبنن والوحيد لطموحه السياسي. وكان باعث التيار الذي يتزعمه اليوم، قد استلحق رغبته في التصدر والسلطان والرئاسة بحربين مدمرتين في آخر الحروب اللبنانية.

ربما يختلف الوزير باسيل عن سواه من زعماء لبنان اليوم في أنهم خبروا الحروب مديداً، ويريدون اليوم التمتع بثمارها، لكنهم لم يتركوا له سوى بعث حروب صغيرة بمفعول رجعي. كأنه في هذه الحال يستيقظ كل أحدٍ نادماً على الحروب التي لم يشارك فيها في فتوته ومراهقته، ليصرخ: "أين قتيلي؟ أريد قتيلي". لكن صاحب هذا القول الشاعر الراحل محمد العبدالله، كان قد قاله ساخراً متهكماً من الحرب والمحاربين، فيما لا تعرف السخرية والتهكم والمرارة سبيلاً إلى روع الوزير باسيل وكلماته.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024