المهانة والانتقام يقتلان سعد الدين باشا شاتيلا سنة 1951

محمد أبي سمرا

الأربعاء 2019/08/07
على مدخل قصره، في مكان المستديرة التي استمدت اسمها (شاتيلا) من كنيته العائلية، قُتِلَ سعد الدين باشا شاتيلا سنة 1951. كان الرجل من وجهاء بيروت النافذين، وعلى علاقات وثيقة بوجهائها وزعمائها المسلمين والمسيحيين، ومنهم رياض بك الصلح الذي اغتاله قوميون سوريون في عمان سنة 1951، انتقامًا لإعدام السلطات اللبنانية زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، رميًا بالرصاص في سجل الرمل بيروت سنة 1949، عندما كان رياض الصلح رئيسًا للحكومة اللبنانية.

باشا تكرم تكرم
الملك عبد الله (1882 - 1951) – نجل شريف مكة، الشريف حسين، وشقيق الملك فيصل الأول، زعيم ما سمي "الثورة العربية الكبرى" في بلاد الشام (1914-1920)، وأول ملك على العراق – هو من منح سعد الدين شاتيلا لقب الباشوية، مكافأة له على التعهدات والالتزامات والخدمات التي نفذها لعبد الله في إمارة شرق الأردن التي كان أميرها (1921-1946)، وصار ملكًا عليها بعد تسميتها المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1946. وإلى حيازته لقب الباشوية، حصّل شاتيلا ثروة من تعهداته والتزاماته العمرانية في المملكة الأردنية، فمكنته ثروته من حيازة أملاك عقارية واسعة في بيروت، ومنها قصره في مكان المستديرة على تخوم حرج صنوبر بيروت.

وحسب راوي حادثة قتل الباشا البيروتي - خليل خالد الفغالي (المولود سنة 1934 في قرية المريجة الزراعية في ساحل المتن الجنوبي) - كان سعد الدين باشا شاتيلا مفطورًا على "أكل حقوق" من يعملون في أملاكه ويؤدون له خدمات حرفية من عامة  الناس، ومنهم المزارع والنجار والحداد والبنّاء. وكانت كلمة "تكرم" هي لسان حاله كلما طالبه من له في ذمته مبلغًا ماليًا ما، فيسدّد منه للمستحق قسطًا ضئيلًا، ويعِدُه بسداد الباقي لاحقًا، ثم يحنث بوعده قائلًا لمطالبه "تكرم، تكرم"، مؤجلًا السداد مرات متتالية. لذا شاع في بعض الدوائر بين الناس القولُ إن عُمْلَةَ من يتهربون من سداد الحقوق لمستحقيها في بيروت آنذاك، هي مثل عُمْلَة الباشا شاتيلًا: "تكرم، تكرم"، أي كلام في كلام. وهذا ما بقي من صيت الباشا مع كنيته العائلية التي سُمّيت بها المستديرة التي أُنشئت في أواخر خمسينات القرن العشرين مكان قصره بعد مقتله على مدخله، وتفرعت الطرق منها حول حرج صنوبر بيروت: في اتجاه مستديرة مطار بيروت الدولي في خلدة جنوبًا، ومستديرة الطيونة إلى الشمال الشرقي، ومدرسة المقاصد ومستشفى البربير إلى الشمال الغربي. والطرق هذه شُقت لتصل المطار الجديد ببيروت ووسطها التجاري.

خيول ومطار ومقبرة
لمّا قُتِلَ الباشا سنة 1951، كانت الأراضي المحيطة بقصره المشيّد عند زاوية حرج صنوبر بيروت الجنوبية، خالية تقريبًا من العمران بعدُ، قبل افتتاح مطار بيروت الدولي وتشغيله سنة 1954، وشق الطرق الجديدة إليه، وإنشاء مستديرات ثلاث عليها: الطيونة وشاتيلا ومستديرة المطار. أما المقبرة التي عُرفت لاحقًا بـ"مقبرة الشهداء"، فنشأت في حوادث 1958 الدامية، بعدما كان شُق في أقصى حرج بيروت الغربي الطريق بين مستديرة شاتيلا ومدرسة المقاصد. ودُفن في تلك الجهة المنفصلة عن الحرج بعض قتلى تلك الحوادث التي سُميت ثورة. ولم تتسع المقبرة إلا في النصف الثاني من الستينات، بعدما دُفن فيها "شهداء المقاومة الفلسطينية"، فيما كان مخيم شاتيلا صغيرًا جدًا في الخمسينات، ولا أثر بعدُ لما سيصير قربه "حي فرحات" الشيعي.

خلف قصره كان الباشا شاتيلا يملك إسطبل خيولٍ، وتشترك خيوله في سباقات ميدان سباق الخيل القريب. وإلى جانب إسطبل الباشا كان عثمان ومنير مكاوي يملكان إسطبلًا آخر، ومن "أصحاب القمصان" في الميدان، على ما كان يُقال عمن تشارك خيولهم في السباقات. وكان الأخوان مكاوي من أثرياء بيروت، مثل الباشا شاتيلا، ومثل أبو محمود محمد فستق الفلسطيني الأصل، والذي حمل ثراؤه الشاعر الشعبي أو العامي البيروتي عمر الزعني على القول مرة: "يا ريتني (ليتني) حصان عند بيت فستق". وكان إسطبل فستق قريبًا من المكان الذي أنشئت عليه لاحقًا ثانوية الغبيري في محلة الغبيري. وتزوج الملك عبد الله ابنه محمد فستق، وشيد لزواجه هذا قصرًا في اليرزة، وتملّك عقارات في صيدا والجنوب.

الخيزرانة ورصاصات الانتقام
كان رجل من آل الصيداني يعمل في بساتين الباشا شاتيلا في صيدا، ويتردد إلى قصره في بيروت ليطالبه بما يستحقُ له في ذمته من مبالغ مالية لقاء عمله في بساتينه. وكثيرًا ما كان الصيداني لا يحصل إلا على القليل من مستحقاته إلى جانب لازمة الباشا الكلامية: "تكرم، تكرم". وعندها طفح كيل الرجل أخيرًا من وعود الباشا، جاء من صيدا مصطحبًا نجله الشاب إبراهيم الصيداني، ووقفا صباحًا على درج مدخل قصر الباشا طالبين مقابلته. ولما خرج من بوابة قصره حاملًا عصاه الخيزران وسأل الرجل وابنه عما يريدانه، قال له الصيداني الأب: بدي حقي يا باشا، ليش (لماذا) بدك (تريد) تاكل حقوقي؟

كان الرجل وابنه يقفان على الدرجات السفلى الصاعدة إلى مدخل القصر الذي وقف الباشا على مدخله في الأعلى، معتمرًا طربوشه ومرتديًا بذلته السموكن السوداء وممسكًا عصاه الخيرزان وراء ظهره. وفيما هو يهبط الدرجات ويقترب منهما، نظر في عيني الصيداني الأب قائلًا: بدك حقوقك؟! "تكرم عينك، تكرم". ثم استل عصاه من وراء ظهره وانهال بها على رأسه وكتفيه وظهره، مرددًا: تكرم عينك، تكرم، بعد بدك حقوقك، بعد؟! فوجئ الرجل، وحاول تدارك ضربات الباشا الذي استمر في ضربه، فيما انتحى ابنه إبراهيم جانبًا محدقًا في ما يفعله الباشا بوالده. وقيل لاحقًا إن الإبن الشاب قرّر في تلك اللحظة الانتقام لوالده من الباشا.

بعد أيام كمن إبراهيم الصيداني بين أشجار الصنوبر أمام مدخل قصر الباشا شاتيلا، منتظرًا خروجه من بوابة قصره. ولما أبصره يخرج ويهبط الدرجات الأولى، اقترب منه قائلًا له: شو يا باشا، ما بدك تعطينا حقوقنا؟! فالتفت إليه الباشا وقال: ما اكتفيتْ بالحقوق إللي (التي) أخذها أبوك؟! أنت كمان بدك حقوق؟! تكرم، تكرم. وما أن تقدم الباشا خطوتين شاهرًا عصاه الخيزران، حتى استل إبراهيم الصيداني مسدسه، وأطلق رصاصات عدة على الباشا الذي تكوم أرضًا، فيما فرَّ الشاب هاربًا في حرج الصنوبر.
(يتبع حلقة ثانية)
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024