السلطة مرتعدة: الحركة الطلابية تتصاعد ولا عودة إلى الوراء

علي نور الدين

الأربعاء 2020/12/23

إنتهى يوم الغضب الطلابي (السبت 19 كانون الأول)، الذي نظمه طيف واسع من المجموعات والأندية المستقلة والعلمانيّة، بمواجهات واسعة مع قوى الأمن في محيط الجامعة الأميركيّة، بعد أن تمكّن المنظمون من حشد تظاهرة استثنائيّة سواء من ناحية العدد أو من ناحية سقف الشعارات المطروحة. وبعد أن تخطّى المنظمون مرحلة الإعلان عن الجبهة الواسعة عبر "إعلان طلاب لبنان" في مسرح دوار الشمس، ومرحلة عرض القوة في الشارع من خلال تحرّك يوم الغضب الطلابي، تقف المجموعات اليوم لتجرد حصيلة كل هذه المحطات من ناحيتي الإنجازات والعقبات، ولتحدد أفق وطبيعة التحركات المقبلة. أما الأكيد حتّى اللحظة، فهو أن أجواء المجموعات لا توحي باتجاهها نحو التراجع، بعد كل ما تمكّنت من تحقيقه حتّى اللحظة.

السلطة تحاول الاستيعاب
تتحدّث أوساط المنظّمين عن إنجازات المرحلة الماضية بمزيج من الواقعيّة في التشخيص، والفخر بالمكتسبات التي تمكنوا من تحقيقها حتّى اللحظة. فمن ناحية تطوّرات معركة دولرة الأقساط ورفع سعر الصرف المعتمد لتقاضيها، كان من الواضح أن الزخم الكبير الذي أظهرته الحركة الطلابية في مسرح دوار الشمس وتظاهرة السبت الماضي، أدى إلى فرملة سلسلة قرارات زيادة سعر الصرف المعتمد في الجامعات، لتقتصر هذه القرارات اليوم على الجامعة الأميركية في بيروت والجامعات اللبنانيّة الأميركيّة، بعد أن كان مقرراً –حسب تفاهم ضمني بين الجامعات الخاصة- أن تتبع معظم الجامعات الخاصّة الجامعتين الأميركيّتين في قرارات مماثلة. مع العلم أن الغالبيّة الساحقة من الجامعات الخاصّة عادت لتؤكّد لطلابها بعد أحداث الأسبوعين الأخيرين، بأنها لن تبادر لاتخاذ هذا النوع من القرارات، بالنسبة إلى فصل الربيع الدراسي تحديداً، على أن تحدد بالتفاهم مع الطلاب الخطوات التالية، بخصوص سعر الصرف المعتمد لتقاضي الأقساط.

ولعلّ نقطة التحوّل الأساسيّة التي لعبت دور كبير في الضغط بهذا الاتجاه، كانت في توجّه قيادات المجالس الطلابيّة المنتخبة إلى وزارة التربية والتعليم العالي بشكل جماعي بالتزامن مع التصعيد، للضغط على الوزارة، للقيام بدورها الذي ينص عليه قانون تنظيم التعليم العالي. مع العلم أن خطوة توجّه المجالس المنتخبة جماعيّاً إلى الوزارة بهذا الشكل، ولقائهم الوزير بصفتهم التمثيليّة، مثّل سابقة لم تألفها الحركة الطلابيّة خلال السنوات الماضية. وعلى أي حال، نتج عن تلك الخطوة قيام الوزارة –تحت وطأة ضغط الشارع والمجالس المنتخبة- ببعض الخطوات من قبيل الطلب من الجامعات الإلتزام بتوقيعها على توصية المجلس الأعلى للتعليم العالي خلال الصيف الماضي، والتي تنص على الإبقاء على سعر الصرف الرسمي القديم المعتمد لتقاضي الأقساط خلال هذه السنة. كما قامت الوزارة بتحريك بعض الملفات في وجه الجامعات المخالفة، من قبيل طلب الميزانيات المدققة التي ينص القانون على تسليمها للوزارة سنويّاً، والتي امتنعت الجامعات الخاصّة عن تسليمها للوزارة طوال السنوات الماضية. مع العلم أن الوزارة تملك صلاحية المصادقة أو عدم المصادقة على هذه الميزانيات، كما تملك صلاحية مساءلة الجامعات عن طريقة الإنفاق في مقابل الأقساط التي تتقاضاها.

الضغط على الوزارة، وتحركها لاحقاً، أدى إلى ثني باقي الجامعات عن اتخاذ قرارات جديدة تقضي برفع سعر صرف الأقساط، لكنّه لم يسفر حتّى اللحظة عن ثني الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية الأميركيّة عن قرارهما السابق. مع العلم أن التجارب السابقة تدل أن الجامعتين عادةً ما ترفضان التراجع عن القرارت بعد اتخاذها تحت وطأة ضغط الشارع، لعدم تسجيل سابقة تشجّع الجسم الطلابي على التمرّد على القرارات الإداريّة. أما الرهان الأساسي لثني الجامعتين عن هذه القرارات فهو مشروع القانون الذي تقدّمت به مجموعة من النواب من مختلف الكتل لاستيعاب التصعيد في الشارع، والذي يقضي بفرض تثبيت سعر الصرف المعتمد لتقاضي الأقساط عند حدود سعر الصرف الرسمي.

مشروع القانون هذا مدرج على جدول أعمال الهيئة العامة للمجلس، التي يفترض أن تنعقد بعد الأعياد، فيما يبدو أن الكتل التي تسيطر على المجلس تحاول من خلال مشروع القانون هذا استيعاب الهبّة الطلابيّة التي خرجت بعد القرارات الأخيرة، خصوصاً أن الأحزاب التي تنتمي إليها معظم هذه الكتل لا ترغب بخلق أسباب جديدة لتفجّر الشارع في وجهها، على أعتاب مرحلة تقليص الدعم وما سينتج عنها من خضات اجتماعيّة واقتصاديّة قاسية.

مكتسبات استراتيجيّة
إلى جانب كل التقدّم التكتيكي الذي حققته الحركة الطلابيّة في معركة دولرة الأقساط وزيادتها، ثمّة مكتسبات إستراتيجيّة لا يمكن التغاضي عنها، جرى تحقيقها في هذه المعركة بالذات. فلأوّل مرّة منذ التسعينات، تتبلور الحركة الطلابيّة في خضم معركة مطلبيّة مشتركة واسعة النطاق، تندمج فيها مجموعات طلابيّة علمانيّة من جميع الجامعات، وتحمل فيها مطالب مشتركة تتعلّق بمسألة الدولرة من جهة، وبمسألة المشاكل التي تعاني منها الجامعة اللبنانيّة من جهة أخرى. كما تمكّنت الحركة الطلابيّة ولأوّل مرة أيضاً من خلق مساحة نضاليّة مشتركة ما بين طلاب الجامعات الخاصّة وطلاب الجامعة اللبنانيّة، وقد جرى تحقيق هذا الأمر تحديداً عبر توثيق العلاقة ما بين النوادي العلمانيّة في الجامعة الخاصّة وتكتّل طلاب الجامعة اللبنانيّة.

من ناحية أخرى، سمح زخم المعركة المستجدة بتوسيع رقعة عمل النوادي العلمانيّة وشبكة مدى داخل الجامعات، وقد توضّح ذلك مع ظهور مجموعات ونوادٍ علمانيّة جديدة في عدّة جامعات خلال الأسابيع الماضية، كجامعة البلمند التي أعطت ترخيصاً جديداً لإنشاء ناد علماني في الجامعة، والجامعة اللبنانيّة الأميركيّة التي ظهر نشاط المجموعة العلمانيّة المستجدّة فيها بوضوح خلال المعركة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانيّة الدوليّة وجامعة الكسليك وغيرها. كل هذه المكتسبات، باتت اليوم تمثّل قاعدة يمكن البناء عليها في المعارك المطلبيّة المقبلة، سواء تلك المتعلّقة بطلاب هذه الجامعات تحديداً، وبالمطالب التي ترفعها شبكة مدى على المستوى الوطني تقليديّاً، كمعركة فرض العقد الطلابي بين الطلاب وجامعتهم بتشريع خاص في المجلس النيابي.

أما أبرز المكتسبات التي تحققت مؤخراً، فتتعلّق تحديداً بالشعارات والمطالب التي تمكّنت الحركة الطلابيّة من تكريسها في الخطاب الطلابي العام على المستوى الوطني. ففكرة الإدارة التشاركيّة ما بين الطالب وإدارة الجامعة، ومسألة صلاحيات المجالس الطلابيّة وضرورة توسيعها تكون هذه المجالس جزء من آليات اتخاذ القرار، وتكريس النضال من أجل حقوق الجامعة اللبنانيّة كهدف إنطلاقاً من المشاكل التي يعاني منها طلاب الجامعات الخاصّة، كلّها مسائل باتت مكرّسة بشكل مشترك ما بين المجموعات الطلابيّة المنخرطة في الحراك الأخير، وهذا الخطاب سيشكّل في المستقبل مساحة نضاليّة مشتركة ما بين هذه المجموعات.

لا تراجع للوراء
حسب مصادر الأندية والمجموعات الطلابيّة، ستستمر هذه المجموعات بالعمل على الأرض على المدى القصير، لفرض تراجع الجامعتين الأميركيّة واللبنانيّة الأميركيّة عن قرارات زيادة الأقساط. أما صيغة التحرّك التالي فستكون بإعلان العودة إلى الشارع من قبل أندية ومجموعات الجامعتين بالتحديد، على أن تنضم سائر المجموعات الطلابيّة إلى الدعوة من باب الدعم والمناصرة. مع العلم أن التحرّكات السابقة تمكنت من حشد تأييد عشرات النوادي الطلابيّة من داخل هاتين الجامعتين بالتحديد، وهو ما يدل على حجم التأييد الذي حظيت به هذه التحركات. أما بعد رأس السنة، فمن المفترض أن يشهد الشارع المزيد من التصعيد باتجاه جميع المطالب المشتركة التي رفعتها الحركة الطلابيّة مؤخراً، سواء تلك المتعلّقة بالأقساط، أو تلك المرتبطة بمشاكل الجامعة اللبنانيّة والعقد الطلابي.

في كل الحالات، وبمعزل عن مصير التحركات الحاليّة، بات من الواضح أن عمل المجموعات العلمانيّة في الجامعات والنتائج التي تمكنت هذه المجموعات من تحقيقها مؤخراً، نقلت العمل الطلابي إلى مستوى مختلف تماماً عن ما قبل الانتخابات الطلابيّة الأخيرة. كما بات من الواضح أن هذه المجموعات تمكنت بالفعل من ترجمة الزخم الذي بدأ بالانتخابات الطلابيّة إلى معارك مطلبيّة على الأرض، في مواجهة إدارات الجامعات أولاً، وفي مواجهة الدولة التي لطالما تغاضت عن لعب الدور المطلوب منها في القضايا الطلابيّة. أما السؤال الأهم، فسيتعلّق بمدى قدرة الحركة الطلابيّة على التأثير في المجريات السياسيّة على النطاق الأوسع، وهذا ما ستحدد إجابته التطورات على المدى الطويل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024