مَقَاتِل قبضايات الزعماء بملاهي بحمدون وبيروت الليليّة في الخمسينات

محمد أبي سمرا

الأحد 2020/07/05
منذ قيام الدولة اللبنانية الحديثة في عشرينات القرن العشرين، ظهر على مسرح الحياة العامة المحلية في أحياء مدينة بيروت وقرى ساحل المتن الجنوبي، قبضايات الأحياء وفتوّاتهم، بأدوارهم وشبكاتهم المرتبطة بالزعماء السياسيين.

إميل الخوري (راجع مقالة "زعماء السياسة ومافيات قبضاياتهم: هنري فرعون وإميل الخوري) واحد من هؤلاء القبضايات في قرية حارة حريك بساحل المتن الجنوبي في الأربعينات والخمسينات. فكيف تكوّنت شخصية هذا القبضاي بوصفه "فتوّة" مافيوية محلية؟


القبضنة والمقامرة
روى ميشال الأبيض أن والد إميل الخوري عاد من مهجره الأميركي إلى حارة حريك بعيد الحرب العالمية الأولى، فأنجب ما يزيد على ستة أبناء: أحدهم فتح مقهى على شاطئ الجناح، فجعله ملقىً للمقامرون. ابن آخر يدعى أديب عمل - وفقًا لرواية خليل خالد الفغالي - في شبكات تهريب اليهود إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل نشوء دولة إسرائيل، فاختفى وقيل إنه قضى غرقًا في البحر. أما إميل فكان مشاكسًا شرس الطباع منذ فتوته الأولى تلميذًا في مدرسة الغبيري الرسمية التي أسسها وأدارها والد الفغالي، فلم يستطع المدير المدرّس أن يكبح جموح الفتى إلى استعدائه التلامذة وضربهم. حتى أنه طعن أحدهم بسكّين، فطُرد من المدرسة. وهذه كانت حال الراوي الفغالي الشقيّ والعنيف.

سرعان ما اقتنى الخوري مسدسًا في فتوته. لكن على خلاف الراوي في فتوته - تكفل والده المفتش التربوي العام، رعايته، فكبح جموحه وخلّصه من التمادي في جنوحه وتورطه في شبكات القبضنة شبه المافيوية، بإدخاله في سلك شرطة بيروت - لا يبدو أن والد الخوري سعى في الحد من جنوح ابنه وتورطه في تلك الشبكات. لذا أخذته المقامرة، وإحدى من شبكات القبضايات، فبرز فيها وتصدّرها ما بين ملاهي بيروت الليلية وملاهي الاصطياف في عاليه وبحمدون. وهناك كان حنا يزبك - وهو صاحب "مشيخة شباب" في المزرعة - يملك أكثر من ناد للمقامرة. كانت تلك النوادي ملقى أمثال إميل الخوري، الطامح إلى السطوة في هذا الوسط ودوائره، فجمع حوله مجموعة من الأتباع والمريدين، وأدمن المشاجرة وإطلاق النار من مسدسه ترويعًا لخصومه، أو مصيبًا أحدهم إصابة قاتلة أحيانًا.

راقصة في ملهى ليلي ببيروت الخمسينات


"قمصان" سباق الخيل
وبما أن هذه النوادي وشلل قبضاياتها المقامرين كانت في حماية الزعماء السياسيين الذين كان يتصدّرهم هنري فرعون في هذا المجال. وكان فرعون من أهم ملاك الخيول في لبنان، وصاحب نفوذ واسع في ميدان سباقها ببيروت. لذا كان لا بد لمن تحظى شلّته من القبضايات بسطوة قوية، أن يصير صاحب "قميص" في ميدان سباق الخيل. أي أن فرعون كان يمكّن قبضاياته من امتلاك خيول يحق لها المشاركة في سباقات ميدان بيروت.

وهذه حال متري العقدة، الطرابلسي المولد، المقيم في المزرعة. وهو كان جنديًا في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، فأصابته رصاصة في رجله تسبّبت له بعرج دائم. وفي مطلع عهد الاستقلال شغّله حنا يزبك حارسًا على مدخل ملهاه وناديه للمقامرة في بحمدون، فقتلَ عام 1959 توفيق الشميساني (سكّير مقامر، وصاحب عصبة من  أمثاله) طعنًا بسكّين في قلبه، لأنه شاكس العقدة في الدخول إلى الملهى. وقام يزبك بتسليم القاتل العقدة إلى العدالة، فحُكِم عليه 15 سنة سجنًا و15 سنة أخرى "ألبند" (كلمة تركية تعني النفي أو الإبعاد، وكانت لا تزال مستعملة في المصطلح القضائي اللبناني). لكن هنري فرعون، حامي حنا يزبك، أخرج العقدة من السجن بعد سنتين، ومنحه "قميصاً" في ميدان سباق الخيل، فأثرى.

مَقَاتِل القبضايات وطائفيّتها
نكايةً بقتيله وأهله، أخذ العقدة يتقصّد الجلوس أمام مقهى مطلّ على بيت الشميساني في المزرعة. وهذا ما حمل شقيق القتيل، حسن الشميساني - وهو عنصر في سلك شرطة بيروت - على قتل العقدة برصاصات من مسدسه الوظيفي، أطلقها عليه في مقهى قصر العدل القديم (مجلس الإنماء والإعمار اليوم)، ثم سلّم نفسه للشرطة العدلية. وفي بدايات عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958 - 1964)، حُكِمَ حسن الشميساني بالإعدام، فقامت في بعض أحياء بيروت الإسلامية تظاهرات احتجاج تصدّرها أخوة الشميساني ووالدته وشبكة من كانوا في "مشيخة شباب" توفيق، قتيل العقدة في بحمدون. وسارت أقوى التظاهرات في الطريق الجديدة، حيث حمل بعض المتظاهرين أسلحة حربية، وأشعلوا إطارات الكاوتشوك في الشوارع. وفي المقابل خرج شبّان المزرعة المسيحيون من أتباع العقدة في تظاهرات مماثلة. وكان الراوي الفغالي - إبان خدمته في جهاز التحري - شاهدًا على تلك المظاهرات، فأبصر بين المتظاهرين المسلحين عناصر من الحزب السوري القومي، وشابًا فلسطينيًا يعرفه، وهو شقيق مصارع معروف آنذاك يدعى جورج ديراني.

ولابد من التنبّه إلى أن هذه الحوادث كانت من ذيول حوادث 1958 التي كان أبطالها قباضايات وفتواتهم في الأحياء البيروتية المتقابلة، أمثال الشميساني والعقدة ويزبك.

لكن مقتل القبضاي إميل الخوري في الملهى - النادي الليلي  البحمدوني إياه قبل سنوات من الجريمتين الموصوفتين، لم يثر تظاهرات ولا نعرات طائفية. فقاتل الخوري أثناء سهرة مقامرة صيفية، قُتِل في اللحظة نفسها، وكان مسيحيًا: إنه ابن شقيقة صاحب الملهى، فرج الله يزبك الذي ما إن استل مسدسه حول طاولة القمار، حتى استل الخوري مسدسه أيضًا، فأطلق كل منهما رصاصات أردتهما معاً وفورًا.

الفتّوات مفاتيح انتخابية
على خلاف الفغالي الذي كبح والده جماحَ جنوحه وتهوره في فتوّته بأن تدبّر أمر دخوله إلى سلك شرطة بيروت، ساقت الأقدار أمثاله وورّطتهم في أدوار شبه مافيوية أدمنوها حتى القتل، فتحول الشرطي الفغالي المنتقل إلى سلك التحري شاهدًا على تلك الأقدار، وراوية شغوفًا لأخبار شخصياتها.

ومثل الفغالي لم يكمل الراوي الآخر ميشال الأبيض، سيرته فتّوة في حارة حريك. فهو انتقل من سلوك الفتّوة ليصير مفتاحًا انتخابيًا في الحارة، وعضوًا في مجلسها البلدي، بعد مقتل إميل الخوري وتراجع دور تابعه حليم الأبيض، ناطور سقي حارة حريك المنخرط في تجارة السلاح، وعمّ الراوي ميشال.

في فتوّته عمل ميشال الأبيض مخلّص معاملات للسيارات في "النافعة". وهذا عمل تقوم به شبكات سلْكِيّة تَعرَّف الأبيض الشاب إلى أحد أقطابها في الخمسينات: القبضاي البيروتي أبو سعيد الجنّون، الذي كان "شيخ شباب" في محلة قصقص، ومن أتباع رئيس الوزراء عبدالله اليافي، ومن مفاتيحه الانتخابية.

كان الجنّون قد تأهل لدوره هذا فتىً، عندما كان، في العقد الثاني من عمره في عشرينات القرن العشرين، مخلّص معاملات الدخول إلى مدينة بيروت، على مدخلها الجنوبي في قصقص، أيام كانت المدينة لاتزال عاصمة ولاية عثمانية، وكان جبل لبنان متصرفية. على مدخل بيروت ذاك، كان على ناقلي الخضر من قرى الساحل التابعة للمتصرفية، ومهرّبي سواها من السلع إلى المدينة وأسواقها في الحرب العالمية الأولى خصوصًا، أن يدفعوا "دخولية" وإتاوات لأمثال الجنّون الذي أثرى لاحقًا من تخليص المعاملات في "النافعة" (إدارة تسجيل السيارات، وجمع رسومها المستحقة)، وشيّد بناية من طبقتين ليصطاف في العبادية.

كنيسة الطيّار والفلسطينيون
وروى الأبيض أن جريس الطيار، تاجر العلف في طرف حارة حريك لناحية الشياح في الأربعينات، لم تكن تجارته هذه مصدر ثرائه. بل هو أثرى من دوره مفتاحًا انتخابيًا للكتلة الدستورية، ومن محاسيب عِمادها الرئيس بشارة الخوري. وبواسطة شقيق الرئيس سليم الخوري - الملقب "السلطان سليم"، كناية عن قوة نفوذه في الإدارة العامة - ضَمِنَ الطيّار، طوال سنين عشرة (الأربعينات من القرن العشرين)، التزام تنظيف مجرى نهر بيروت من الحصى والرمول التي تراكمها فيه السيول في فصول الشتاء.

كانت طنابر جريس الطيار التي تجرّها الخيول والبغال، تنقل الحصى والرمل من مجرى النهر، فيبيعها من مشيّدي البيوت في قرى الساحل والبنايات في بيروت. هكذا جمع ثروة كبرى اشترى بجزء منها أراضٍ واسعة في الشياح وحارة حريك. وعلى الحدود بينهما بدأ بتشييد كنيسة، لإظهار وجاهته وتثبيتها.

وفي عهد الرئيس كميل شمعون الذي والاه الطيار، حاول شقيق الأمير مجيد أرسلان، الأمير نهاد الشمعوني الولاء أيضاً، أن يلتزم تنظيف مجرى نهر بيروت. وأُقيمت لذلك مناقصة، فتحولت مبارزة حامية بين الطيّار والأمير نهاد الذي كان صياد طيور ماهر، ويضع مسدسه على خصره في أثناء المناقصة - المبارزة التي اتخذت شكل مزاد علني حامياً بين الملتزمين.

ووسط التهديد والوعيد بينهما (الطيار وأرسلان) رسى الالتزام أخيرًا على الطيار الذي زايد بمبلغ فلكي تجاوز 60 ألف ليرة لبنانية. لكن الملتزم لم يدفع المبلغ على الأرجح. فملتزمو الأشغال العامة في الدولة هيهات أن يدفعوا ما يستحق عليهم لماليتها. بل هم يتقاسمون أرباح التزاماتهم مع رجال الحكم والسياسيين النافذين الذين يمكّنونهم من حيازة التزام الأشغال العامة.

وجريس الطيّار الذي أثرى من مثل هذه الالتزامات، استعمل شطراً من أمواله لإظهار وجاهته في ساحل المتن الجنوبي. فبدأ بتشييد كنيسة على الحد الفاصل بين الشياح وحارة حريك. لكنه توفي أثناء الشروع في تشييد الكنيسة، فلم يكتمل بناؤها على طراز معماري مبالغ في حداثته، إلا بعيد حرب السنتين (1975 - 1976) على يد ابنه جوزف الطيّار.

ولم تفتح كنيسة الطيار (وهذا اسمها الفعلي) أبوابها إلا لماماً، وهُدمت في مطلع الثمانينات، من دون أن يصلّي فيها أحد. فمسيحيو الشياح وحارة حريك وسواهما من أحياء ما صار ضاحية بيروت الجنوبية، لم يبق أحد منهم في دياره تقريبًا.

أما معمل "لافروتا" الذي أنشأه الطيّار الإبن على أملاك والده الواسعة، على مسافة قصيرة من كنيسة مار مخايل في الشياح، فقد نُهب وأحرق في بدايات الحرب. وهذا مصير محطة المحروقات التي انشأها الراوي ميشال الأبيض في حارة حريك، من دون أن ينتبه في روايته للعلاقة بين ما أصاب محطته ومشهد الفلسطينيين، عندما كان يرى جموعًا منهم في بدايات لجوئهم إلى مخيم برج البراجنة على تخوم الحارة. ووصف ميشال الأبيض مشهدهم على النحو الآتي: في كل صباح ما بين مطلع الخمسينات وبدايات الستينات، كان يخرج من المخيم ما يزيد على 80 رجلًا وشابًا فلسطينيًا، ليتوزعوا عمالًا مياومين وقوة عمل رخيصة، بين بساتين حارة حريك وورش البناء فيها. وهذا فيما كانت لمخفر الأمن اللبناني سطوة عرفيّة غاشمة، بالغة الشدة والقسوة، ولا رادّ لها من قانون ولا من مجير، على اللاجئين في المخيم. فدركيّ لبناني واحد من رجال المخفر، كان يُشاهد وهو يوقف من يشاء من الفلسطينيين، ويقتادهم خلفه في أي وقت، منكسرين أذلاء في رهطٍ طويل، وسط فرح الغالبية الساحقة من أهالي الحارة (المسيحيين) وابتهاجهم وافتخارهم بما يفعله الدركي اللبناني بالفلسطينيين المحتَقَرين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024