زمن الانهيار: مجتمع يرقص فوق البؤس وآخر يُشهر التكفير

نادر فوز

الثلاثاء 2020/06/30
قيل لنا إنّ منطقة جونيه انتعشت في زمن حصار بيروت والاجتياح الإسرائيلي للعاصمة. نشأت فيها حياة اجتماعية بديلة للهاربين من ويل الصواريخ الإسرائيلية، ولو أنّ منها كان بالإمكان معاينة قصف بيروت براً وبحراً وجوّاً. 
كان ذلك زماناً، يبقى في حيّز شهادات أو تجارب شخصية. لكن تجربة مماثلة حصلت خلال حرب تموز 2006، يوم انتقلت الحياة الاجتماعية، من سهر وترفيه ولقاءات وجلسات، إلى أعالي جبل لبنان. بين المتن وكفردبيان وفقرا واللقلوق وغيرها. كانت مشاهد وصور تلك الحياة تصل إلى بيروت التي صمّها قصف ضاحيتها الجنوبية وما فيها من بنى تحتية ومرافق حيوية.
في زمن البؤس عموماً، حروباً كانت أو انهيارات، تنشأ مجتمعات بديلة أو تتنشّط على الأقل لاستقبال جمع يبحث عن انفصال الواقع. والسردية نفسها، نراها اليوم تتكرّر. انهيار مالي واقتصادي، إفلاس، فقر، عوز وجوع، مشهد عام يدفع المئات إلى قصد مجتمعات بديلة يكونون فيها بمنأى عن كل هذا. لهم حياتهم، وللآخرين حياة أخرى. ولا شيء يجمع.

الدولار إلى 10 آلاف
انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي يوم الأحد الماضي، فيديو لجمع من اللبنانيين في حياتهم البديلة تلك. من حق أي مقتدر وغير متقدر، أن يهرب من يوميات الذل العام. أن ينسى لساعة أو اثنتين أو يوم كامل كل هذا البؤس الذي يحيط بنا. الهروب من هذا البؤس واجب. لكن أن يأتي ذلك على أنغام والفرح بموال "ما أحلى الصحبة والعشرة، اليوم الدولار بـ9 آلاف، بكرا رح يوصل للعشرة"، فهو ضرب جنون. انفصال تام عن الواقع، لا بل تنكيل بالمذلولين. قد يكون هذا المشهد تجسيد لـ"الشعب العنيد". تكريس لأسطورة "لبنان الكرامة والشعب العنيد". وفي الواقع السياسي، خطاب الكرامة في جهة، والشعب العنيد في جهة أخرى. الأول يوزّع عزّة وسلاح بدل خبز وطحين، والثاني غير آبه في مجتمعه البديل. والاثنان يطبقان على شعب كامل.

تكفير في صور؟
وفي حين يختفي هؤلاء في مجتمعهم البديل، تظهر أعراض أخرى على من تبقى في مجتمع البؤس. ينحدر بعضهم إلى افتعال الأزمات وابتداع القضايا. يبحث عن خرم إبرة ليحشر فيه جملاً. هذه حال الشيخ عباس حطيط. قد يبدو غريب الأطوار، إذ وجد يوم الأحد الماضي أيضاً في مايوهات النساء على شاطئ مدينة صور مادة للسجال الديني وما بعده، التكفير. من حيث لا نعلم استفاق حطيط على واقع أنّ صور أجمل المناطق البحرية المختلطة والمنفتحة في لبنان. فكتب منشوراً على مواقع التواصل الاجتماعي هاجم فيها "متزعمّي مجتمعنا" الذين "هم أعجز من أن يعملوا على ستر بنات مجتمعهم في قلب جبل عامل العظيم الذي باتت شواطئه وشوارعه لا تختلف كثيراً عن شواطئ وشوارع أوروبا وأمريكا.. وإسرائيل!!". هو شبه موقف تكفيري، "شواطئ أوروبا وأميركا"، وربما الاتهام بالعمالة أيضاً، "شوارع إسرائيل". والردّ على موقف مماثل لا يستوجب جهداً كبيراً، التمسّك بهذه المساحة العامة المنفتحة وتحصينها من خلال تكثيف الزيارة إليها، فقط. وللمناسبة، حطيط عينه يطرح نفسه نداً لحزب الله وقيادات الطائفة الأخرى.

إطلاق نار في الخرخار
وفي موقف آخر، أكدت مواطنة من بلدة عربصاليم أنها تعرّضت وعائلتها لإطلاق نار عند نهر الخرخار. ذاع صيت المكان مؤخراً بعد نشر شابة لصورة لها تسبح فيها في النهر. احتجّ عدد من الغيارى على المشهد قالوا إنهم لن يسمحوا بتدنيس "موطئ أقدام المجاهدين والشهداء". لكن الاحتجاج تحوّل هذه المرة إلى إطلاق نار، حيث أكدت مواطنة من البلدة أنّ "أزعر بطلجي شبيح قوّص علينا، على سيّدات كبار العمر (60 سنة) والأطفال (9 سنوات) بالمخفي، وهو عديم الأخلاق وعديم الدين". مساحة عامة أخرى، يسعى البعض إلى مصادرتها، من باب ديني أو عقائدي أو سياسي لا يهم. ثمة جمل عليه أن يحشر في إبرة الخرخار.

جمل آخر ظهر في طرابلس أيضاً، من خلال التحريض على بعض المقاهي والمطاعم لإقفالها. فبثّت رسائل تحريض عليها لأنها تعمل وغلّة بعضها 35 مليون ليرة. مبلغ مضخّم طبعاً مصحوب بعبارة "هذا كفر بحق الشعب المحروم"، قيل في الرسالة التحريضية التي انتشرت. دعوة تبيّن أنها صادرة عن بعض المسترزقين من فرض الخوّات على المصالح والمحال التجارية. وجدوا خطاباً ثورياً، فركبوه، وظفّوه، ويبيعون الناس أماناً وهمياً بعد التحريض عليهم.

انقسم المشهد من جديد بين مجتمع بديل بحياته البديلة المحصورة بأعضاء نواديها، وأبرة مجتمع البؤس وجمله. مشهد مكرّر، يبدو أن لا مفرّ منه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024