كندا 1917 ولبنان 2020: اللطف البشري لا يمكن محوه

سامي خليفة

الأحد 2020/08/09

بين غمضة عين وانتباهتها، دوى انفجار مسح مرفأ بيروت، الذي كان يتعامل يومياً مع 300 مرفأ عالمي ويستقبل نحو 3100 سفينة سنوياً، ومن خلاله تتم غالبية عمليات الاستيراد والتصدير. مسح عن بكرة أبيه. وتطاير لهيب الكارثة ليضاعف من مأساة لبنان، الذي يعيش أصلاً أوضاعاً كارثية على الصعد كافة، ما جعله مرتعاً للخراب وحوّل أبناءه إلى العيش على الهامش.

صورة مشابهة
تذكر كارثة لبنان، كما ورد في تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، بحادثة وقعت قبل قرنٍ من الزمن، في مدينة هاليفاكس، عاصمة مقاطعة نوفا سكوشيا الكندية. فالمشهد يتشابه إلى حدٍ بعيد، خصوصاً أنه في لمح البصر، قُضي على ميناء عانق ضفاف البحر الأبيض المتوسط لقرون، مخلفاً خسائر فادحة في الأرواح ودمار هائل وتساؤلات بين سكان بيروت عما يحمله الغد.

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، أصبحت هاليفاكس مستودع إمداد أوروبا. ومع ضغط لندن على كندا التي حاربت إلى جانب كل من بريطانيا وفرنسا ضمن مجموعة دول الحلفاء، من أجل توفير المزيد من الرجال والذخائر والسفن، امتلأ ميناء مدينة هاليفاكس الكندية بالسفن التي أقبلت عليه محمّلة بالجنود والعتاد.

بحلول عام 1917، شعر قائد ميناء هاليفاكس بأنه مضطر لتحذير رؤسائه من خطورة الوضع، وقام بإرسال رسالة جاء فيها : "لا يمكن تنظيم حركة المرور في الميناء، ومن المسلم به أنني لا أستطيع في هذا الصدد قبول المسؤولية عن أي حادث يقع".

في ذلك الوقت، اكتفى قباطنة السفن وأطقمها في الميناء والمسؤولون العسكريون والسلطات المحلية بالتحذير، مفترضين أن شخصاً آخر سوف يلتزم بالضمانات اللازمة لتجنب الكوارث. وأدى هذا لاحقاً إلى وقوع كارثة تشبه ما حدث في بيروت.

كيف وقعت الحادثة؟
بدأت القصة في تشرين ثاني 1917، عندما قام طاقم في بروكلين بتعبئة 6 ملايين رطل من المتفجرات شديدة الانفجار في عنبر سفينة فرنسية تُسمى "مونت بلان"، المخصصة لدعم مجهودات الحرب الفرنسية، ليصنعوا عبر تكديس المتفجرات مع وقود الطائرات، من دون قصدٍ، قنبلة مثالية.

في طريقهم إلى أوروبا، دخل القبطان وطاقمه بشغف إلى ميناء هاليفاكس الآمن عند فجر يوم 6 كانون أول. تزامن ذلك مع استعداد السفينة النرويجية "أس أس إيمو" المحملة بالمؤن المخصصة لصالح لجنة الإغاثة البلجيكية لمغادرة ميناء هاليفاكس. وبعد انتهاك قبطان "أس أس إيمو" الأعراف البحرية التي تفيد بضرورة تجنب مرور عدة سفن على جهة اليسار، وجد نفسه قبالة سفينة الشحن الفرنسية "مونت بلان" التي انطلقت من نيويورك لتحل بهاليفاكس قبل أن تواصل طريقها نحو بوردو.

حاول طاقم السفينتين بعد تبادلهما لرسائل تحذيرية، القيام بمناورات لتغيير المسار قبل أن يرتطما في النهاية ببعضهما ليحدث ما لم يكن في الحسبان. وبحدود الساعة 8:46 صباحاً، استعرت ألسنة اللهب بسفينة الشحن الفرنسية عقب اشتعال البنزين، واتجه طاقم السفينة على الفور لمغادرتها بهدف تحذير مسؤولي الميناء من إمكانية حصول كارثة.

كما حصل في لبنان، تجمهرت بعض الحشود على مقربة من المكان لمتابعة ما يحصل عقب مشاهدتهم للدخان المتصاعد وفرق النجدة التي حاولت، من دون جدوى، السيطرة على الوضع. وبعد ثمانية عشر دقيقة، انفجرت سفينة الشحن الفرنسية "مونت بلان"، وسوّت  في أجزاء من الثانية نصف مدينة هاليفاكس بالأرض، ما تسبب بمقتل 2000 شخص، وجرح 9 آلاف، وجعل 25 ألف شخص بلا مأوى. 

وقد كتب جي روبرت أوبنهايمر، أحد المحاربين في الحرب العالمية الأولى، ما شاهده حينذاك، قائلاً: "رأيت بعض المشاهد الرهيبة من الخراب في الجبهة، لكنني لم أرَ أبداً ما يشابه هذا الانفجار".

المساعدة الدولية.. بين الماضي والحاضر
قبل سبع سنوات، قررت حكومة لبنان تخزين 5.5 مليون رطل من نترات الأمونيوم المصادر، وهو مركّب كيميائي خطير للغاية، في عنبر بمرفأ بيروت. وللمفارقة، احتاج تيموثي ماكفي عام 1995، إلى 4 آلف رطل من هذا المركّب، في العملية التفجيرية أمام مبنى ألفريد مورا الفدرالي في مدينة أوكلاهوما الأميركية، التي أدت إلى مصرع 168 شخصاً.

لكن رغم المصاب الجلل، تشير الصحيفة الأميركية إلى بعض الانعكاسات الإيجابية على الصعيد السياسي، التي قد يخلفها الانفجار المهول. فقبل عام 1917، اتسمت علاقة الولايات المتحدة وكندا بانعدام الثقة والعداء. وكان لافتاً أنه بعد ساعاتٍ وحسب من الانفجار، إرسال الولايات المتحدة دون أي طلب رسمي من كندا، 100 طبيب و 300 ممرضة، وما قيمته مليون دولار(يُعادل 20 مليون دولار اليوم) من الإمدادات الطبية الأساسية. وساعد كرم أهل بوسطن في إعادة بناء هاليفاكس وتحويل الدولتين إلى حليفتين.

يرسل الاتحاد الأوروبي اليوم مسعفين ومعدات طوارئ إلى لبنان. وبالمثل، قدمت المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة المساعدة، واضعين بذلك الخلافات السياسية جانباً. وعلى الرغم من أهمية الالتزامات الكبيرة، فمن المرجح أن يتردد صدى هذه المساعدات لدى سكان بيروت بعد فترة طويلة من إزالة الأنقاض. وبالعودة إلى الماضي، نجد أنه بعد تسعة عقود من انفجار هاليفاكس، بقيت ذكريات الناجين عن الرحمة الرقيقة، كالجار الذي ينقذ قطة، والكنيسة التي تقدم معطفاً دافئاً، والحلاق الذي يزيل الشظايا الزجاجية بعناية من فروة رأس العميل ثم يرفض أن يتقاضى أجره مقابل قصة الشعر، مترسخةً في أذهان الناس مثل مشاهد الدمار المروعة.

أظهر الكرم الذي تدفق إلى هاليفاكس أن اللطف البشري لا يمكن محوه حتى خلال أعظم انفجار من صنع الإنسان شهده العالم على الإطلاق. ومن بين الدروس العديدة التي تحملها كارثة كندا لبيروت، حسب الصحيفة، هو تشّوق العالم دائماً للمساعدة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024