"البرابرة" يدمرون ما تبقى من بيروت الفينيقية الرومانية.. (2)

منى مرعي

الخميس 2019/02/28
تنشر "المدن" الجزء الثاني من هذا التحقيق، على نية أن نتابع هذا الملف بتحقيقات أخرى. فما يجري لإرث بيروت يستحق اهتماماً استثنائياً، بل واستنفاراً لإنقاذ الذاكرة والتاريخ، ولصون ما تبقى من هوية بيروت الحضارية. فمن يستخف بطبقات آثارها وشواهد عصورها غير المنقطعة عن حياة لأكثر من ألفي سنة، ويطمس أو يدمر أو يسرق هذه الثروة، إنما يستبيح المدينة بماضيها وحاضرها ومستقبلها. البرابرة وحدهم يتجرأون على ذلك 


على بعد بضعة أمتار من الموقع الأول في أسواق بيروت، يمتثل العقار 0/17 الذي يُظهر جزءاً من خندق، وما تبقى من سور يعود للحقبة العباسية. من المفترض أن يمتد هذا الخندق لشارع المصارف. ولكن، لم يتبق منه إلا بضعة أمتار. انتشرت الخنادق مع الحقبة الإسلامية. وهو خندق دفاعي لمدينة بيروت من الناحية الغربية. بالقرب من الخندق، هنالك لافتة تشير، وفقاً لما كتب عليها، إلى تراث بيروت الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، بينما تعود المعالم الأثرية إلى القرن السابع ميلادياً. على مقربة من هذه اللافتة، وُضِعت على إحدى بلاطات سوق أياس، إشارة فولاذية بعنوان "Beirut Heritage Trail".. أي مسار بيروت التراثي. حسب تعريف منظمة الأونيسكو، ُيعتبر تراثياً كل ما يعود تاريخياً إلى ما قبل فترة المئة عام. أما ما هو أثري فيجب أن يكون عمره ثلاثمائة عام وأكثر. الأمر الذي يحتّم تساؤلاً حول خلفية هذه اللافتة: تعود مسؤولية الحفاظ والوصاية على المعالم الأثرية إلى وزارة الثقافة، وتحديداً المديرية العامة للآثار. هل غاب عن المديرية العامة للآثار (على سبيل المثال) أمر هذه اللافتة المضلّلة؟ أم أن هنالك رغبة بطمس الجوانب الأثرية لأسواق بيروت؟ إن اعتُبر الأمر جهلاً من قبل الجهات المعنية كائناً من كانت فهي مصيبة، وإن كان تجاهلاً مقصوداً فهي مصيبةٌ أكبر.

عصّور.. والخندق الغميق
لم تحصر الجولة بالمواقع المذكورة أعلاه. فبعد المرور أمام السراي الصغير، المقابل لمبنى النهار، وأمام الموقع الأثري 004، الذي يُعرَف بحديقة الغفران، تم التوجه إلى منطقة الباشورة. على مقربة من جسر فؤاد شهاب، وفي أسفل الشارع المؤدي إلى الخندق الغميق، هنالك مرآب كبير من الإسفلت. بالقرب من هذا المرآب، يوجد العقار 740، وهو تابع لشركة عاليه.

على هذا العقار، تم الكشف عن جزء من السور الروماني لمدينة بيروت. والأهم من هذا اكتشاف مقبرة رومانية. المستعمَرة الرومانية الأولى في الشرق، كانت مستعمرة بيريتوس، والتي سميت "مستعمرة جوليا أوغسطوس السعيدة". وتوجد قطع نقدية تشير إلى المستعمرة "Colonia Julia Augusta Felix Berytus". وقد بنى الأمبراطور الروماني أغسطس هذه المستعمرة، لإيواء قدامى المحاربين من الفيلق المقدوني الخامس، وفيلق غاليكا الثامن Gallica VIII، من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة، كما من أجل استخدام مينائها، الذي يقع في منتصف الطريق الاستراتيجي، بين شمال ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي وجنوبه، والذي يسمح بحملات عسكرية بحرية في حال حدوث تمرد. بشكل عام، تتموضع المقابر خارج أسوار المدينة. وغالباً، ما يتلاقى موقعها مع الطرق الرومانية، التي تصل المدن بعضها ببعض. وهنا تكمن أهمية موقع المقبرة الرومانية: إذ يُرجح، وفقاً لبربارا ستيوارت وهانس كيرفيرز، اللذين نشرا عام 2013 خريطتين عن بيروت، في حالتيها عام 1841 وعام 1857، أن الأضرحة والمقابر الرومانية وضعت على جوانب الطريق، التي تربط بيريتوس بهليوبوليس (أي ما يعرف اليوم ببيروت وبعلبك). وكان كل من يدخل ويخرج من وإلى بيروت الرومانية، كان قادراً على رؤية الأضرحة، التي لا تعتبر فقط مكاناً دينياً، إنما هي أيضاً مكاناً للذاكرة ولإحياء الذكرى. كما من المرجح أن تعود الأضرحة إلى أشخاص ذوي مكانة اجتماعية عالية، في تلك الرومانية.

على هذا السور تمّ، في مراحل لاحقة، بناء أبواب بيروت السبعة. ولربما بني السور الروماني على أُسس أخرى أكثر قدماً. وصف ابن حوقل بيروت بأنها "مدينة محصنة قديمة السور". ويذكر صالح بن يحيى في مخطوطته "تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البُحتريين مِن بني الغرب" أن الأمير "بَيدَمُر نائب الشام قد جدّد سور بيروت، جاعلاً أوله من الحارة التي على البحر، واصلاً إلى تحت البرج الصغير عمارة تنكر (تِنكز)، ويُعرف ببرج البعلبكية. وجعل بين آخر هذا السور وبين البرج المذكور باباً، وركب عليه سلسلة تمنع المراكب الصغار من الدخول والخروج، وسمي باب السلسلة".

العقار 740 وغطاس خوري
في كتابه "بيروت في التاريخ والحضارة والعمران" يفيد الشيخ طه الولي أن ولاة العهد العثماني أهملوا السور، ولم يعيروه وأبراجه أي اهتمام. وذلك، لأن المدينة لم يكن لها أي أهمية عسكرية استثنائية، إلى حين قدوم أحمد باشا الجزار، الذي انتزع الحكم من الأمير يوسف الشهابي، فأعاد تحصين السور، في أواخر القرن الثامن عشر، وأقام على محيطه أبوابا ً ضخمة، كانت تفتح للداخلين إلى المدينة والخارجين منها. وقد لجأ ابراهيم باشا إلى إقفال أبواب السور في أوقات محددة كل يوم، وذلك لمنع دخول "بعض الأشقياء من رعايا جبل لبنان". ولبيروت سبعة أبواب. ويُحكى أن باب يعقوب يفضي إلى  ساحةٍ رملية فيها بعض أشجار الجميز، وتُعرَف بـ"ساحة عصّور" (أي على السور) وهنالك كان يقضي أهل بيروت مواسم أعيادهم الدينية. وفي مجلة سوريا الصادرة عام 1921، يصف  الكونت دو بويسون الفضاءات التي تمتد خارج أبواب المدينة. إذ كان المرء يرى بعض البساتين والمقابر غير المنتظمة وكثبان الرمل.. هذا غيضٌ من فيض ما تكتنفه كومة الحجارة التي فُكِّكت وسُتِّفت بعشوائية في العقار 740.

منذ ما يقارب الخمسة أعوام، وإثر أعمال بناء كانت تقوم بها شركة عاليه في العقار 740، وُجِدت مكتشفات أثرية في الموقع. يجزم كثيرون أن تلك المكتشفات تعود للمقابر المحاذية للسور الروماني. كما تمّ الكشف عن جزء من السور، وهنالك قنوات ري وأحواض، كما تظهر صور موقع تقرير بيروت. يحوي الموقع على مقابر تتضمن 250 مدفناً ومئات الهياكل الأثرية. ما يجري حالياً، هو محاولات تدريجية لمحو معالم هذا الموقع، شيئاً فشيئاً. وكان آخرها إصدار وزير الثقافة السابق غطاس خوري قرارين يجيزان، وفقاً لجمعية "التجمع للحفاظ على التراث اللبناني"، للشركة العقارية بـ"إجراء تفكيك الآثار المكتشفة، وبالإيجاز للشركة المذكورة بالمباشرة بالأعمال". الأمر الذي يخالف المرسومين 3057 و3058. إذ تنص المادة 17 من المرسوم رقم 3057، على سبيل المثال لا الحصر، أنه لا يمكن تفكيك أي من المكتشفات الأثرية غير المنقولة في الموقع، خلال إجراء الأعمال الأثرية أو بعد الإنتهاء منها، إلا بقرار مسبق من المدير العام للآثار، ويكون مبنياً على تقرير معلل وموثق من قبل الأثري المسؤول أو المدير العلمي. وقد تقدّم التجمع بمراجعة قانونية أمام مجلس شورى الدولة، بعد أن تقدّمت المحامية فداء عبد الفتاح بمراجعة شبيهة، ورُدت لعدم صفتها للتقدم بدعوى لحماية الملك العام. وفي أوائل كانون الأول عام 2018، صدق مجلس شورى الدولة بالإجماع على مطالب الجمعية بوقف قراري الوزير (995 و1488)، اللذين يقضيان بتفكيك السور وباستكمال أعمال البناء. كما وطلب المجلس من الوزارة المستدعى ضدها، تقديم الملف العلمي للحفرية. وهذا ما لم يتمّ حتى اليوم.

موقع الجريمة والوزير الجديد
بدافع الصدفة المحض، دخلت إلى هذا الموقع عام 2014: كانت الزيارة جزءاً من عرض أدائي خاص يحمل عنوان "انتا وراجع لورا انتبه"، للمخرجة سحر عساف، و امتد تقريباً على طول منطقة الخندق الغميق. انتهى العرض في المقبرة الرومانية. لم يعرف أحدنا حينها بكل حكاية السور والمقبرة. أحسسنا - رغم ذلك - برهبة المكان. كانت الأرض تخفي تحتها الكثير من القناطر والنتوءات والأحواض.. اليوم، أصبح جزءٌ كبيرٌ من الحفرية عبارة عن أرضٍ جرداء، وتلال رملية، وبعض الآثار المكدسة في طرف المكان. المثير للسخرية، أن العرض الذي قدمته عساف تحدث عن تحريف الذاكرة والتاريخ، عبر دليلين سياحيين يعرفان عن الأبنية المحيطة بتعريفات غرائبية، بينما ينفذ بين ثانية وأخرى عبق ذاكرة المكان الحافل بالعنف. يبقى هذا العقار مهدداً في كل لحظة. إذ يخاف الكثيرون أن يلتحق مصيره بمصير ما سبق من حفريات مهمة، خصوصاً وقد تمّ تدمير أو تفكيك جزء لا يستهان به من الموقع.

منذ أيام، وفي نشاطه الأول منذ تسلّمه وزارة الثقافة، حضر الوزير محمد داوود داوود ورشة عمل، حول صون التراث الثقافي غير المادي، والذي تنص عليه اتفاقية اليونيسكو2003. ثم قام بزيارة المكتبة الوطنية. نشاطان مرتبطان بشكل جوهري بالذاكرة.. استحقاق أساسي إذاً أمام الوزير الجديد، فيما يتعلق بحفرية الباشورة.. هل سيكون مصيرها كمصير عشرات المواقع التي ستُمحى فجأةً بين ليلةٍ وضحاها؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024