عدالة لبنان معطلة: القضاة يقررون الاستمرار باعتكافهم

جنى الدهيبي

الثلاثاء 2019/06/11
يبدو أنّ أزمة اعتكاف قضاة آيلة إلى التفاقم والتعقيد، بعد مضي شهرٍ كاملٍ على تعطيل قصور العدل في لبنان.  قبل نهار الاثنين في 10 حزيران 2019، تاريخ عقد الجمعية العمومية للقضاة اجتماعها، من أجل تحديد مصير الاعتكاف، كان قضاة لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا المضي في معركة اعتكافهم، أو الرجوع عنها والعودة إلى أقواس المحاكم. لكنّ القضاة، الذين عقدوا جمعيتهم العمومية في قاعة محكمة التمييز في قصر العدل في بيروت، أجروا التصويت بالاقتراع السري بين القضاة المجتمعين، واتخذوا القرار بأكثرية الأصوات المضي بالاعتكاف.


البيان والتباين
في البيان الصادر عن الجمعية العمومية، التي تبادل فيها 230 قاضياً مجتمعًا الأفكار والطروحات بتعليق الاعتكاف أو الاستمرار فيه، كان التوجه إلى البقاء على الوضع الحالي، أيّ الاعتكاف، "مع استثناء الموقوفين والحالات الضرورية والأمور الملحة التي يخشى أن تحدث ضررًا للمواطنين لا يمكن تداركه". ثمّن القضاة الموقف الإيجابي الذي صدر عن رئيس الجمهورية ميشال عون الداعم للقضاة، وتوقفوا عند تفهم رئيسي لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل وسائر النواب الداعمين لمطالب القضاة وهواجسهم، كما أثنوا على العريضة الموقعة من 250 محامياً دعمًا "لاستقلالية السطة القضائية"، وجميع الداعمين لمشروع إقرار قانون استقلال السلطة القضائية.

وفيما أكّد القضاة المجتمعون على أنهم منفتحون على أي خطوات ايجابية ملموسة، تصدر عن المعنيين لملاقاتها بالمثل، وعلى تطلعهم أن يحصل ذلك في أقرب فرصة ممكنة، باعتبار "أنهم مكرهون على الاعتكاف"، وفق تعبيرهم، ثمّة ملاحظات عدّة على قرار الاستمرار بالاعتكاف لا بدّ من تسجيلها.

في تحقيقٍ سابقٍ لـ "المدن"، جرى عرض المطالب الكاملة للقضاة الذي يحمل شعار المطالبة بـ"استقلالية السلطة القضائية"، والندوة الأولى من نوعها التي عقدها نادي قضاة لبنان برئاسة القاضية أماني سلامة. لكنّ اجتماع الجمعية العمومية، الذي وُضع في سياق التصدي لـ"استهداف السلطة السياسيّة لصندوق تعاضد القضاة ومكتسباتهم الماليّة"، ضمّ 230 قاضياً، من أكثر من 600 قاضٍ في لبنان. وفي نتائج التصويت، بلغ عدد القضاة المؤيّدين لاستمرار الاعتكاف 142 قاضيًا، مقابل 87 قاضيًا صوّتوا مع تعليق الاعتكاف والعودة إلى العمل. كذلك، تخلل الاجتماع كلمة للرئيس الأول لمحاكم الاستئناف في بيروت القاضي سهيل عبود، دعا فيها إلى "تعليق الاعتكاف موقتًا"، بانتظار ما ستؤول إليه مباحثات مشروع الموازنة في مجلس النواب، إلى جانب مداخلات أخرى لعدد من القضاة، أظهرت نوعًا من التباين في المواقف بين مؤيّد لاستمرار الاعتكاف ومعارض له، قبل أن يلجأ الجميع إلى التصويت بشكل سري، خلافًا للتصويت العلني كما جرت العادة سابقاً، فانتهت النتيجة بأرجحية واضحة للمنادين باستمرار الاعتكاف، مع تسجيل غياب عدد كبير من القضاة عن الجمعية.

ديموقراطية وكسر حاجز الصمت
لا شكّ أن مطلب القضاة المعتكفين بـ"استقلال القضاء في لبنان"، هو مطلب وطني بامتياز، يُعنى به كلّ مواطن، بعد أن أثبتت بعض التجارب أنّ القضاء في لبنان سقط في فخّ التدخلات السياسية وارتهاناتها. لكن، بدا جليًا أن القضاة الذين يعتكفون دفاعًا عن عدم المساس بمكتسباتهم المالية أولًا، يسعون إلى تعميم اعتكافهم على جميع قضاة لبنان، الذي غاب أكثر من نصفهم عن الجمعية العمومية. أحد القضاة المعتكفين الذين حضروا في الجمعية العمومية، يشير لـ"المدن" أنّ "جميع القضاة الحاضرين قرروا الالتزام بقرار الأكثرية، وعلى هذا الأساس قام التصويت، فضلًا عن أنّ قرار الاعتكاف يُلزم جميع القضاة".

القاضية أماني سلامة، رئيسة نادي قضاة لبنان، أشارت في كلمتها في الجمعية العمومية، ردًا على اتهام القضاة بـ"تعطيل العدالة"، أن "الاعتكاف المقرر لم يشل بتاتًا مرفق العدالة كما حاول البعض توصيفه"، بل "بقي القضاة يقصدون مكاتبهم بشكل طبيعي ويسيّرون قضايا الموقوفين وكل القضايا التي يكون ضرر تأجيلها وعدم البت بها غير قابل للتعويض سواء بالقضايا المدنية أو الجزائية". وذكرت سلسلة من النتائج الإيجابية التي حققها الاعكتاف، على المستويين الداخلي والخارجي، وأولها " خلق واقع ديموقراطي في العدلية"، إلى جانب "كسر حاجز الصمت وإعادة مفهوم موجب التحفظ إلى حجمه الطبيعي عبر الإدلاء بآرائهم في الجمعيات العمومية"، وغيرها الكثير.

مواجهة مع المحامين؟
وفي ظلّ تداول المعلومات، وربما الشائعات، عن خلفيات سياسية تتحكم بتوجهات عدد من القضاة المعتكفين المؤثرين بالقرار الجماعي، اعتبره مصدر قضائي أن إشاعة هذا الجوّ هي "محاولة لتشويه وضرب مسار نضال القضاة المعتكفين لحسابات تصبّ بمصلحة خصوم مطلب استقلالية القضاة". لكنّ الأكيد، أنّ استمرار القضاة في اعتكافهم، سيدفع نقابتي المحامين في لبنان إلى فتح نار المواجهة من جديد مع القضاة، باعتبارهم "الأكثر تضررًا من الاعتكاف بتعطيل عملهم"، رغم توقيع 250 محامياً عريضة للمطالبة باستقلالية القضاة. وبذور هذه المواجهة التي يضعها القضاة المعتكفون في سياق "الاستفزاز" (راجع "المدن": "المحامون يفتحون معركة ضد القضاة المعتكفين")، بدأها نقيب المحامين في طرابلس والشمال محمد مراد على صفحته فايسبوك، كتعقيبٍ غير مباشر على استمرار القضاة في اعتكافهم، وردًّا على القاضية سلامة من دون أن يسميها قائلًا: "نقابتا المحامين لهما تاريخ لا يقرأه إلا الراسخون في العلم، وإن التي نصّبت نفسها اليوم لتصنيف المحامين بين أحرار وغير أحرار لا تعرف من الحرية إلا التحرر والتملص من الواجبات التي أقسمت اليمين على القيام بها، وهذه حرية أسوأ من الفوضى".

لكن، ماذا عن موقف المجلس القضاء العدلي عن استمرار القضاة باعتكافهم وهو المعارض لهذا الاعتكاف؟
يبدو واضحًا أنّ مجلس القضاء الأعلى يعوّل على "تقلصّ" أعداد القضاة المعكتفين، بدل اللجوء إلى اتخاذ أي خطوة تصعيدية مباشرة للضغط نحو فكّ اعتكافهم. وفي السياق، يشير مصدر رسمي رفيع في مجلس القضاء لـ"المدن"، أنّ ترويج قرار الاعتكاف الصادر عن الجمعية العمومية بوصفه ملزماً لجميع قضاة لبنان ليس صحيحًا على الإطلاق. فـ"قرار الاعتكاف ليس ملزمًا لأحد، لأن "كلّ قاضٍ حرّ"، وفق المادة 44 من القانون العدلي، ولا أحد يستطيع أن  يلزمه برأيه. عدد القضاة يفوق الـ 600، وإذا قررت مجموعة منهم الاعتكاف لا يعني أن الجميع معتكف، ونحن نقول أنّ قسماً كبيراً من القضاة يعمل، والقسم الآخر سيستأنف العمل بدءًا من اليوم".

يعتبر المصدر أنّ القضاة المعتكفين غفلوا عن "إقامة توازن بين الحقوق والمطالب المشروعة وبين الأضرار الناتجة عن الاعتكاف، التي تقع على المواطنين أولًا وأخيرًا. وقد أصبح الضرر من هذا الاعتكاف أكبر من فائدته". يقول: "الاعتكاف يجب أن يكون للفت النظر، وصرخة أمام المسؤولين للانتبهاء، وهذا ما حصل. لكن نحن سلطة مسؤولة عن مرفقٍ عامٍ في البلد، وهو العدالة، ويجب أن نحتكم لضميرنا ومسؤوليتنا، بعد أن صار هذا الاعتكاف نوعاً من الأذى المباشر على المواطن والمجتمع والمؤسسة، بمعزل عن أحقية المطالب".

يرفض المصدر اتهام مجلس القضاء الأعلى بالتسييس، ويضع هذا الاتهام في خانة "الشعارات الشعبوية التي لا أساس لها من الصحة"، إذ "هناك مؤسسة مؤتمنون عليها، ومسألة التعيينات في المجلس تقوم  وفق معايير موضوعية ونصوص قانونية واضحة وصريحة".  يضيف أيضًا: "الضرر الحاصل لا يتفاقم في قصور العدل، وإنّما على المواطن نفسه، وقد أصبحت مصداقية القضاة على المحكّ أمام الشعب اللبناني الذي كلفه أن يحكم باسمه لا أن يعتكف عنه، لا سيما أنّ هناك مطالب تحققت وأخرى في طريقها للحلّ، ولم نعد نفهم سبب الاستمرار بالاعتكاف المفتوح، بدل البحث عن أطر أخرى لطرح المشاريع ومطالب القضاة، بعيدًا عن المساس بمصلحة المواطنين العليا".

تعويل مجلس القضاء على عودة القضاة إلى عملهم، يطرح تساؤلًا عن متانة هذا الاعتكاف، وإن كان هناك من يسعى لإحداث شرخٍ داخل نادي القضاة وبين القضاة المعتكفين، على أن تبقى الأمور رهن مباحثات  نقاشات لجنتي الإدارة والعدل والمال والموازنة، بخصوص مشروعي الموازنة واستقلالية السلطة القضائية، في جلسات مجلس النواب المقبلة. وإلى ذلك الحين، يبدو أنّ العدالة ستبقى رهن الشلل والتعطيل في لبنان.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024