"المدن" بمقر مهرّب الفلسطينيين من لبنان.. وتكشف عمليات خطف

أحمد الحاج علي

الإثنين 2021/11/15

على الأرجح لن تحظى بتحديد موعد للقاء مهرّب الفلسطينيين الأبرز إلى خارج لبنان، إلاّ بعد أسابيع من طلبه، فعدد طالبي الهجرة هو الأكبر منذ سنوات، رغم ضعف الأمل بالوصول لبلدان أوروبية يحددها المهرّب غالباً. والأخبار لا تزال تصل عن فلسطينيين ابتلعهم البحر، أو تاهوا في بلاد أميركا اللاتينية، أو يمكثون في غابات بيلاروسيا. لذلك كان علينا مرافقة صديق، يتردد دائماً إلى مقر المهرّب منذ خمسة أشهر أملاً في تحديد موعد قريب للسفر، بعد أن دفع له 25 ألف دولار من أجل السفر إلى ألمانيا، على أن يدفع له مبلغاً مماثلاً بعد استكمال إجراءات المغادرة له ولزوجته وأولاده الثلاثة.

عشرة آلاف دولار للفرد
لا حاجة لاختيار مكان في ضواحي العاصمة، أو بعيداً عن الأنظار، إنه في قلبها تماماً، فيوحي ذلك بالكثير عن قوة نفوذ ذلك المهرب، ويجعله المقصد الأول لطالبي الهجرة والهرب من الفلسطينيين. عند الباب يقف حارس أمني، يرتدي سترة بلا أكمام، وقد غطت الأوشام كلتي يديه. يسأل عن الأسماء، ويتأكد من وجودها بالكشف الذي بحوزته. يحتجز الهواتف. ثم يسمح لنا بالدخول، من خلال إشارة بيده. غرفة الانتظار تعج بالعشرات من الفلسطينيين، ويكاد يخلو المكان من جنسيات أخرى. إشارة كافية أن ما يجري أكثر من مشروع ربحي.

وجوه عابسة، وهدوء رغم الحشد. الاستماع إلى بعض الحكايات يمنح تلك العبوسة المختلطة بالقلق الكثير من الأعذار. رغم التحفظات والإحجام عن الكلام، إلا أن الوجه المألوف لصديقنا لدى الكثيرين، يبدد بعض التردد بالكلام لديهم. السؤال البديهي عن كيفية تأمين المبلغ المطلوب، فتكلفة سفر الفرد الواحد هو عشرة آلاف دولار، وعائلة مكونة من ستة أشخاص، مع "المراعاة والتوصية"، تدفع 55 ألف دولار. لتنطلق حكايات عن بيع الحلي، والبيوت، والاقتراض. لكن ماذا لو خسرتم كل ذلك، ولم تستطيعوا الوصول إلى بلد أوروبي؟ لا أحد يجيب، لأنه لا أحد يريد أن يفكر في هذا السؤال. أن لا تسأل، هو الشرط الأول للقبول بالمخاطرة.

أول الغارقين وآخر الناجين
من مخيم نهر البارد ومخيم الرشيدية، وما بينهما من من مخيمات وتجمعات فلسطينية، جاؤوا وقد دفنوا أي أمل بمستقبل في بلد هم أول الغارقين فيه وآخر الناجين، إن نجوا، لذلك فالمغامرة تستحق، كما يرون. الاستماع للحكايات، لن يمنع من أن ترمي ببصرك بعيداً بين الغرف الكثيرة والمعتمة، لتتخيل عالماً سرياً داخلها، على الأقل لتسلية النفس خلال ساعتين من الانتظار. ستمنع اكتمال حبكة "العالم السري" في الرأس، رواية محمد القادم من مخيم عين الحلوة، حول سبب سفره. فهو يعاني من شلل جزئي في قدمه اليسرى، يكاد يحملها بدلاً من أن تحمله. قيل له إن تكلفة عمليات إصلاحها سيزيد عن 50 ألف دولار، ما يعني أن دفعه لعشرة آلاف دولار، ووصوله إلى إحدى دول الرفاه الأوروبية، توفير، وتأمين لحياة بقدمين، كما يأمل.

كثر هنا، قد يئسوا من تحديد موعد للسفر، وبعضهم دفع المبلغ قبل عامين. يحاولون استرداد المال، لكن المهرّب الأشهر، له تسعيرته للدولار، فيشترط سعراً بخلاف سعر السوق، ما يسبب صدامات كثيرة، لكن تدخّل الحراس داخل المكتب يمنع تفاقمها. خمسة حراس وُظّفوا لهذه الغاية. تراقب الوجوه مجدداً، تأمل كلها بالخروج من بلد محطّم، لكنها تبدو غير سعيدة. هل هو القلق من عدم نجاح المهمة، هل هو الخوف من الذهاب للمجهول، أم التعلق بالمكان مهما بدا بائساً؟ ربما. اعتاد الفلسطينيون تغيير الأمكنة لكثرة الحروب. كم عليهم أن يمحوا من الذاكرة، بعضهم يستطيع، وبعضهم سيصير أسير الذاكرة، كما كثيرون منهم هاجروا لدول إسكندنافية في الثمانينيات.

تحت علم فلسطين
تأذن موظفة لنا بالدخول إلى مكتب المهرّب، وهي واحدة من ست موظفات يعملن لديه. عند الزجاج الخارجي خط عبارة "وما توفيقي إلا بالله". رغم أنه لم يقف عند دخولنا إلا أنه بدا طويل القامة من خلال قدميه الممتدتين عند أطراف مكتبه الفخم. مكتنز الجسم، وشعر أشيب طويل، وعمر يقارب الستين عاماً. على يمينه علم فلسطين، يحتل الجزء الأكبر من سارية تدنو سقف الغرفة بقليل، وتعلوها كوفية. راح يُطمئن صديقَنا بأن موعد السفر قد اقترب جداً، رداً على تذمره من أن الانتظار زاد عن خمسة أشهر "صاحبك وصل من أيام على النمسا عند أولاده، طوّل بالك شوي". يحدّثنا أنه وجد طريقاً إلى فنلندا للعزّاب، من خلال عقود عمل، ويسترسل في الحديث للبرهان على صدقه وقدراته. لكنه ما زال يفضّل بلجيكا للفلسطينيين لأسباب يوضحها. يبدو مطمئناً، على خلاف ما كان عليه مهربو الفلسطينيين في التسعينيات. كانوا يصطنعون القلق أحياناً، على الأقل لحماية مسؤولين يؤمّنون لهم الحماية. هذا مختلف تماماً، ومطمئن أكثر.

قبل أكثر من عامين حاول محمد عطعوط وعائلته، من مخيم برج البراجنة، اللجوء إلى أوروبا من خلال هذا المهرب. يروي لـ"المدن" أنه دفع 54 ألف دولار، على اشتراط أن يردّ المهرب له المال إن لم تنجح المحاولة، خاصة وأن عطعوط اقترض أكثر من 75 بالمائة من المبلغ. كان مقصدهم إسبانيا، فسافروا برفقة مجموعة فلسطينية إلى أثيوبيا ثم البرازيل ثم بوليفيا، وهناك قُبض عليهم. وأعيدوا إلى لبنان، لتبدأ رحلة أخرى أكثر صعوبة، هي رحلة محاولة استعادة المبلغ. مشادات كثيرة داخل مكتب المهرّب "كنت جاداً بفعل أي شيء، خاصة وأن المطالبين بأموالهم كانوا يضغطون. وعندما لمس جديّتي أعاد إلي 35 ألف دولار. لكن كثيرين لم ينالوا شيئاً".

إجرام وخطف
لهفة الفلسطينيين إلى السفر، والوصول إلى أوروبا، دفع جماعات إجرامية لاستثمار ذلك، وخطف طامعين بذلك، والمطالبة بفدية لإطلاق سراحهم. طارق حمود، شاب في العشرين من عمره، يسكن مخيم شاتيلا. قرأ إعلاناً للراغبين بالسفر إلى ألمانيا. تواصل فوراً من خلال الرقم المدرج في الإعلان. طُلب منه أن يتوجه إلى جسر الكولا لملاقاة المهرب. هناك، أخبروه بوجوب ذهابهم لطرابلس. ومن هناك توجهوا به إلى الحدود السورية، لتختفي بعدها آثاره. يخبر والده "المدن"، بأنهم بدأوا في البحث عنه، إلى أن جاء العائلة اتصال من هاتف يحمل رقماً سورياً "ادفعوا 8000 دولار لإطلاق سراح ابنكم"، قال المتصل.

أخبرهم الوالد أن العائلة لا تملك هذا المبلغ، وسألهم كيف يمكن التأكد من أنهم سوف يطلقون سراح ابنه في حال دفع مبلغاً من المال. دلوه على شباب خطفوهم من قبل، زارهم ثم تأكد أن ابنه أصبح في ضواحي مدينة حمص. وبعد أسبوعين من المفاوضات، دفعت العائلة 1500 دولار، وأُطلق سراح الشاب طارق عن طريق البقاع. أخبر الشاب أن الخاطفين هم أكثر من 20 شخصاً، ولم يكن وحيداً في الحجز، بل هناك آخرون من المخطوفين. لماذا توجه إليهم رغم أنه لا يملك المال للسفر؟ "كنت آمل باقتراضه"، يردّ طارق.

موجة جديدة من الهجرة الفلسطينية من لبنان. الهجرة التي بدأت فعلياً بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، إلى الخليج ثم ألمانيا بشكل خاص، وفي الثمانينيات إلى الدول الاسكندنافية. يقول ممثل منظمة التحرير الأسبق في لبنان، شفيق الحوت، إنه هاجر حوالى 70 ألف فلسطيني من لبنان عام 1983 وحده. كان من نتائج الهجرة أن الرقم الواقعي لعدد الفلسطينيين في لبنان يقارب 250 ألفاً، بينما الرقم المسجل لدى وكالة "أونروا" هو 475 ألفاً، وإذا أضيف إليهم غير المسجلين، فإنه يُقدّر أن حوالى ثلثي اللاجئين الفلسطينيين هاجروا من لبنان. ولم تثن المخاطرُ الفلسطينيين من المحاولات المتكررة للهجرة، وهناك العشرات منهم اليوم في غابات بيلاروسيا. فرغبة الفلسطيني في الهجرة مستمرة لأنها رغبة في استمرار العلاقة مع الأمل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024