أجنحة الجامعة اللبنانية المتكسّرة

عزة سليمان

الإثنين 2018/11/19

ليس غريباً أن تكون قضية الجامعة اللبنانية في السنوات الأخيرة محوراً للنقاش في مختلف الأوساط السياسية، رغم اختلاف الدوافع والهواجس، وذلك بسبب التراجع الملموس في دورها، سواء في إنتاج المعرفة ونشرها، أو بتقديم الصورة المشرفة للواقع الثقافي والحضاري للبنان.

 

الحركة الطلابية

واذا كانت الجامعة قد تطورت وازدهرت و ساهمت في تطوير المجتمع وارتقاء مكوناته، فان ذلك يعود إلى الحركة الطلابية، التي فرضت نفسها كقوة تغييرية في سبعينات القرن الماضي، وبفضل نشاط أساتذتها والتفافهم حول أداتهم النقابية، ومع الحرب الأهلية بدأ دورها بالتراجع، ولم تعد ذلك الصرح التربوي، الذي يوفر البيئة المثلى لتلاقي الشباب اللبناني والانصهار في بوتقة الوحدة الوطنية، متجاوزين انتماءاتهم الفرعية. كما تراجع دورها في معالجة المشكلات وإنماء المحيط وإغنائه بالدراسات والبرامج التنموية، ضمن مفهوم التنمية المستدامة. كما تراجع مردودها في إنتاج المعرفة ورفد الثروة الوطنية بالأدمغة والكفاءات المهنية والعلمية. هذه الثروة التي تحولت مع التحولات الاقتصادية إلى مصدر يساهم في استقلالية الجامعة المالية، وبالتالي الإدارية، وينعكس تلقائياً في دعم الحريات الأكاديمية.

 

التجارة المذهبية

وللأسف تحول التعليم الرسمي في لبنان، بمنظومته وأدواته ونتائجه، إلى عبء على الدولة، بدلًا من أن يكون مكونا أساسيا من مكونات الثروة الوطنية. الأزمة تعكس الخلل القائم في القطاع التربوي كواحد من قطاعات الدولة المتهالكة. ورغم الجهود المبذولة للمحافظة على المستوى الأكاديمي وسط هذا الزخم من التجارة المذهبية في التربية، تتحول الجامعة اللبنانية إلى نموذج للخطاب الطائفي وعقلية الحصص في المراكز "الإدارية والأكاديمية"، وفق أول قاعدة مكتوبة صادرة عن سلطة مختصة، تكرّس ما يحاول الحاكمون توثيقه عرفاً مصطنعاً، ممهداً لانقسامات مؤسساتية رسمية.

 

ولم يتوان الإعلام الفئوي عن السماح لنفسه بالتطاول على هذه المؤسسة الوطنية والافتئات على جودة التعليم فيها لحسابات طائفية صغيرة، تتعلق بشغل هذا المركز أو ذاك من مراكزها الإدارية أو الأكاديمية.

 

الإستزلام

وأسهم تراجع الدور النقابي لطلابها وأساتذتها، في إضعاف الجامعة اللبنانية، فجنحت القضايا الأساسية الضامنة لها، والمدافعة عنها وعن المكتسبات التي تحققت عبر نضال نقابي طويل، لتتحول إلى قضايا ذات أبعاد شخصية أو فئوية. وبدت صورة الأستاذ الجامعي مستزلما على أبواب الزعامات الفئوية ولاهثا للحصول على نعمة التفرغ أو المنصب ، بعيداً عن دوره العلمي والاجتماعي، مما أفقد الجامعة رمزيتها وأبعدها عن أهدافها الأساسية. وأصبحت الرتبة أو الصفة العلمية أداة مصطنعة للتمايز، ومنصة للترقي الانتهازي في الإدارة أو السلطة. وما زاد الطين بلة تحول العلاقة بين المؤسسة والأستاذ الجامعي إلى علاقة وظيفية بحتة، متمثلة بشكليات روتينية وقرارات إدارية، أبعدت أخلاقيات المهنة عن فعاليتها ومسؤوليتها. وبدلا أن يكون هذا الصرح الأكاديمي مركزاً للحوار الفكري والسياسي بين مختلف المكونات الثقافية، ونموذجاً للإدارة الفعالة المبنية على المشاركة، نرى أمامنا حالات يلاحق فيها الأستاذ الجامعي بتهمة التعبيرعن رأيه.

 

لم يقتصر تحويل مهنة الأستاذ الجامعي إلى وظيفة، بموجب نص أبعد ما يكون عن المعايير العالمية، الضامنة لممارسة حق النقد والمساءلة، بل تجاوز أبسط الحقوق التي كرسها الدستور اللبناني، كحرية التعبير والتجمع، إلاّ وفق أطر محددة مسبقاً ومفصلة ضمناً، سواء على مستوى انتظام الأساتذة داخل رابطتهم أو خارجها، أو على مستوى الطلاب الملزمين بالمجالس الطلابية غير المنتخبة منذ عشر سنوات. 

 

الانهيار والتحول

ولا ينحصر هذا الترهل والتراجع بالمؤسسة التعليمية، ولكنه متصل بالانهيارات والتحولات في المنظومات المختلفة، بدءا بالسياسية وصولاً إلى الأخلاقيات، محلياً أو دولياً. إنما تبقى الجامعات، وبشكل خاص الرسمية منها، محط أنظار لاستقراء مستقبل يُرتَسم، والتماس حقيقة الواقع، بعيداً عن الصخب الافتراضي والتحكم الإعلامي بالوعي المجتمعي، نظراً لما تتضمنه من كفاءات، ولما تفترضه من واجبات ومسؤوليات، تجاه مرفق عام أساسي، وأمام حق الطالب في الحصول على تعليم بجودة عالية.

 

وإذا لم يفطن المسؤولون والأكاديميون لأهمية دورهم الريادي، ويبتعدوا عن الحساسيات الشخصية والمصالح الضيقة والانتماءات المذهبية، واذا لم يلتزم الأستاذ الجامعي واجبه الأخلاقي، ويقدم النموذج الأرقى للعاملين في المرافق العامة عامة، وإذا لم يكن قدوة يحتذي به طالب العلم وطالب الأمل، فاعلم أن أجنحة الوطن ستتهاوى على أنغام أجنحة الجامعة المتكسرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024