من هم المتخشّبون.. متسلّقو الانتفاضة اللبنانية النضرة؟

فادي طفيلي

السبت 2019/11/16

كشفت الانتفاضة اللبنانيّة الكبرى، بعد أيّام قليلة من اندلاعها، عن أفرادٍ يُطلقُ البعض عليهم صفة "مُتسلّقين". والصفة هذه نسبةً إلى محاولاتهم المبتذلة في إصرارها على تسلّق الانتفاضة الشعبيّة، والصعود على أكتاف صانعيها الكثر في الشوارع والساحات، والتحدّث باسم الثورة والسعي لقطف ثمارها، وتحقيق مكاسب شخصيّة من هنا، وقنص مناصب واهيةٍ من هناك. وهذا كله لن ينتج سوى المزيد من العبث والفشل والإحباط.

بين المهذار والمتخشّب
إلى هؤلاء المُتسلّقين - وهُم في الغالب أشخاصٌ مُجرّبون وخبراء في الهذر الكلاميّ والانصياع التام لصنّاع قرارات واستراتيجيّات كبرى مزعومة -  ثمّة صنف آخر من الأشخاص كشفته الانتفاضة اللبنانيّة، فأخرجته من قواقعه الكثيرة الطبقات، والعناوين والديكورات الثقافيّة في أغلب الأحيان. وهؤلاء، مقارنة بالمُتسلّقين الأكثر سرعةً ونشاطًا وتهوّرًا في الهرولة خلف الانتفاضة نحو بؤر الضوء والإعلام، يتّسمون بالقِدم وبشيء من البطء والبلادة والانفصال عن الواقع، ويعانون تخشباً فكريًّا، الأرجح أنه ناجم عن اختبائهم المديد في حجرات اطمئنانهم الإيديولوجيّ - السياسي.

وهم إذ يُستدرجون اليوم بفعلِ الثورة المباغتة، ويحاولون مواكبتها وممارسة "الأستذة" غير المقنعة عليها، كما اعتادوا في كلّ حدث أو مُصاب، فإنّهم يُفصحون عن مقدارِ إدمانهم على أنفسهم وعلى مرآة ذواتهم وتجاربهم العقيمة السابقة. تلك التي عجزوا طوال أعوامٍ، بعد توقّف الحروب الأهليّة المُلبننة، عن مقاربتها مقاربة نقديّة وجادة، لتجاوز إرثها المُقيم الثقيل.

ينطبق على هؤلاء توصيف "مُتيبّسين" أو "متخشبين"، على وزن متسلقين. وهم تيبّسوا في الزمن واحتموا لعقودٍ في زوايا النكران والنفي والتمويه الكلامي - الإيديولوجي، وفي سرديّات ماضٍ انتقوا منها ما يلائم خرافاتهم الصغيرة عن أنفسهم. وكان ظنّهم - وَهُم المستلبون بصورهم القديمة في مواقع قياديّة بائدة، تابعة وفارغة من أيّ معنى - أنّ في وسعهم اليوم السير في موازاة النهضة الشعبيّة التي يتصدّرها جيل جديد فتيّ ونضر، وقوى نسويّة مُتفجّرة، والظهور في سياق الانتفاضة بمظهر الفاعل والمؤثّر، أو المُصلح والمصوّب، أو بهيئة واضع التعريفات والوصفات والنظريّات والبرامج.

حسب هؤلاء أنّ ما يحدث في الشوارع والساحات اللبنانيّة هو فعل خالصٌ تامّ يُحيطون به. فعلٌ حدث وتحقّق وباتوا جاهزين لنُصحه والتفكّر فيه، لإكسابه منطق يلائم منطقهم. وكأنّه لعبة من ألعابهم القديمة، أو حادث سيّارة يشاهدونه، أو أتو لمعاينته كخبراء الحوادثِ المحلّفين. وهم جاهزون لتوصيفه وتحديد نِسب المسؤوليّة فيه، وما يترتّب عليها من مواقف وتدابير وتعويضات وإصلاحات.

مرشدو الانتفاضة
وحين اندلعت الانتفاضة في 17 تشرين الأوّل، سارع بعض أولئك المتيبّسين في الإدلاء بدلو كلامهم، مُتفوّهين ناصحين، وموجّهين كلامهم للثوّار عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنابر. المشهد المتسارع اللاهث في الشوارع والساحات، استدرجهم للإفصاح عن مكنونات كيانهم السياسي المغلق، وعن أحوالهم النفسيّة الراهنة. تلك التي تُشير إلى مقدار انقطاعهم عن روحيّة الشوارع المحليّة، وتعلّقهم بـ"الطوطم والمحرمات" في السياسة اللبنانيّة العروبيّة "المُقاوِمة"، المُكرَّسة بالفساد، والمُقيمة بالسلاح والسطوةِ الذكوريّة الكاريزميّة.

مع توالي أيّام الثورة، راحت - بين كلّ تعليق وآخر يدلون به لاهثين خلف الانتفاضة - تنكشف دواخلهم عن ذاك الأب الدهرّي العنيد المقيمُ في أنفسهم، وذاك الذّكر القوّام الذي يريد أن يسوس، ورجلُ السلطةِ المدمنُ على ممارسة سلطته، وخبيرُ النضال التكنوقراطي، والكرّازُ المُدرّبُ، صاحب السوابق الذي يحترف الوصل بين الراعي والقطيع.

أحدهم أخذ بثقة من شهد مئات الثورات وخبِرها، ينصح الشبّان اللبنانيين الذين يقفلون الطرق بأجسادهم لتعطيل عاديّات الذلّ اليوميّ، والقهر اليوميّ، والفقر اليوميّ، والفساد اليوميّ، فقال لهم: "كفّوا عن قطع الطرق"، واذهبوا إلى الكلام ووضع البرامج المرحليّة، والهيكليّات، والنقاط، والمطالب. فأتت تلك النصيحة لمجتمع ينتفض من أعماقه وبمختلف قطاعاته، وكأنّها نصيحة صادرة عن امرئٍ فقد الصلة بواقع العيش، وراح يتداعى من حجرات لاوعيه المعتمة بعباراتٍ تنضح بنوازع السلطةِ ورغبات السيطرة، وتُشير إلى مدى تماهيه مع خطاب التسلّط القائم في لبنان اليوم.

الشتيمة الطازجة
وذهب بعض هؤلاء في محاولات أخرى لمواكبة الانتفاضة الشعبيّة اللبنانيّة والتقرّب من أجوائها الخارجة على جمود اللغة وشكليّات التهذيب المنفصل عن مرارة العيش. وذلك عن طريق تقليدها والسعي إلى محاكاة لهجتها. فقام ذلك البعض بالخروجِ عن مألوف كلامه المعتاد، مستعيرًا من الانتفاضة الراهنة سلاحها الشتائمي الموجّه مباشرة، ومن دونِ مواربة أو تمويه أو تحفّظ، لأركان السلطة اللبنانيّة وشخصيّات نظامها الفاسد والتشبيحيّ الاستغلالي. لكنّه حين فعل ذلك واستعار الشتيمة وشوكة العبارة، وجّههماعلى نحوٍ لا يخلو من الهزل، إلى خارج بعيدٍ بعيد. فراح يخاطب وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو، قائلاً له: "بومبيو سِد نيعك". وقد أتت تلك الشتيمة العابرة للقارات، وبفعل مجالها المترامي الأبعاد، مُفرَّغةً من وقعها وفعلها المباشرين على من وُجّهت إليه. ودخلت في نطاقٍ من التجريد الذي أفقدها تأثيرها وحدّتها. إذ من شرط الشتيمة المؤثِّرة أن يسمعها المشتوم في أذنه ويستشعر انتشارها في مسرح عيشه وطموحاته.

ومن المعلوم أن الشتم يمثّل سلاحًا قصير المدى، لا يصيب إلّا في مجالاتٍ مُحدّدة، وفي المسرحِ العضويّ المباشر لمن يُوجّه إليه. وما أصاب "وزير العهد" الحالي في لبنان - بفعلِ شتيمة وجّهها إليه ملايين اللبنانيين في الأسابيع الأولى من انتفاضتهم، من تهشيم سياسي حاد يطعن عميقًا بموقعه الوزاريّ الحالي في الحكومة المستقيلة، بعدما كان طامحًا بمنصبٍ لا يقلّ عن رئاسة الجمهوريّة - جاء خير دليل على فعل الشتيمة الحية الطازجة في المسرح المباشر للأحداث وتأثيرها.

أمّا شتم ترامب عن بُعدٍ، وهذا ما مارسه ملايين البشر في القارات الستّ على مدى أشهر خلال حملته الانتخابيّة وقبل انتخابه رئيسًا، فقد بقي عاجزًا عن الحؤول دون اختياره من معظم الأميركيين رئيسًا لدولتهم.   

والشتيمة التي انتقاها صاحبنا ليوجهها إلى وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو، وعلى الرغم من تأثّره بأجواء الانتفاضة اللبنانيّة، تُشير إلى أن المنطلقات الشتائميّة التي يعتمدها تبقى نابعة من إرث شتائميّ لا يماشي تمامًا "نضارة" الشتيمة التي يمارسها اللبنانيّون في انتفاضتهم الراهنة، ولا يطابق ابتكاريّتهم في انتقاء عباراتها ونحتها وسبل توجيهها. لا بل أنّ المرجع الشتائميّ للرجل، شتّام بومبيو، يبدو أقرب إلى النظام الذي يتمرّد عليه اللبنانيّون.

فهو حين يتناول وزير الخارجيّة الأميركي ويقول له "بومبيو سد نيعك"، فإنّه  يدمج الشتيمة "الواكيميّة" (نسبة إلى النائب السابق نجاح واكيم) الشهيرة في التسعينات (سد بوزك)، بالشتيمة "العلي عمّاريّة" (نسبة إلى النائب الحالي علي عمّار) المعاصرة في البرلمان اللبناني الحالي (طهّر نيعك).

وهنا يمكننا ربّما الاستنتاج بإنّ الشتيمة التي أرادها مطلقها تقرّبًا من الثورة اللبنانيّة العارمة، على كلّ ما يمتّ بصلةٍ إلى نظام الفساد والتبعيّة والميليشياويّة وطوطميّة السلاح اللبنانيّة، تفصحُ من دون إرادة على الأرجح، عن قرابته العميقة التي لا فكاك منها بهذا النظام الأخير، وعجزه الفعليّ عن الخروج عليه.

القلوب المشطورة
وكان سجناء "الحلال والحرام" الوطنيّ وإرثهما العميق، وأصحاب المواقف السياسيّة الخشبية القابعة في مفاهيم مؤبّدة جامدة، كتلك المتعلّقة بـ"المقاومة" و"القضيّة المركزيّة" و"الثورة"، وغيرها ممّا يقيم معنا منذ ستينات القرن المنصرم - كان هؤلاء قد أصابهم ارتباك عاطفي، وحلّت بهم أزمة تموضع سياسي مع تفجّر ثورات العالم العربي في العام 2011. فما أن بدأت الانتفاضات والثورات، حتّى شعر أبناء ذلك النمط بوجوب الانحياز إليها كونهم في الأساس مع شعار "الثورة" المطلق الذي طالما ردّدوه واستخدموه في مقارباتهم السياسيّة وتنظيراتهم.

لكن ما أن راحت الثورات في العالم العربي تُظهر تمايزها العميق عمّا يتصوّرونه في شعار "الثورة" وشكلها وطبيعتها ومضمونها ومواضع خروجها وحركيّتها، حتّى ارتبكوا، وترجموا ارتباكهم ذاك انشطارًا في القلب، شطرًا خصّصوه لضخّ التعاطف والتأييد لثورةٍ قائمة هنا، وشطرًا لضخّ التخوين والتردّد، أو الارتياب والتمويه والغموض أمام ثورة مشتعلة هناك.

وكان بين هؤلاء المشطورة قلوبهم، أشخاصٌ أكثر حذاقة وحذلقة من غيرهم في رسم المواقف السياسيّة وموضعة الانحيازات وتبطينها. وقد تجلّت حذلقتهم في أبهى حللها في السياق السوريّ القريب، حيث اندلعت ثورة شعبيّة عارمة ضدّ نظام حكم يعتبرونه علمانيًّا وحامٍ للـ"مقاومة" وسندًا لها ومعبرًا حيويًّا لسلاحها النوعي واقتصادها الشبحي. وأمام تلك الحال، صعب على هؤلاء الوقوف ضدّ الثورة الشعبيّة السورية على نحوٍ صلف، وفي مواجهة مع "المقاومة" التي يُجلّونها ويقدّسونها ويتمرّغون على أعتابها، فسارعوا إلى محاولة وضع معادلة طوطميّة وترميزيّة لما تحياه قلوبهم من انشطارٍ عاطفي وقسمةٍ ضِيزى بين "الثورة" الشعبيّة المشتعلة، وبين "المقاومة" التي راحت تفتك بالشعب الثائر وتسحق قراه ومدنه. وفي يومٍ من أيّام الثورة السوريّةِ  اليتيمة، خرج علينا أحد هؤلاء الحاذقين المتحذلقين،  ببالون اختبار رائدٍ يمكنه، بحسبه، التحليق بأمانٍ فوق حقول الانتفاضة الشعبيّة، وفوق مواقع المقاومة في آن. بالون حاذقٌ ومدروس، صنع جلده من كلام التعاطف مع الشعب المذبوح، وملأ جوفه بهواء نَعي "شهداء" المقاومة والتباكي عليهم، لا سيّما الرموز منهم من ذوي الإرث النضالي السبعيني الميليشياوي الذي يُدغدغ مشاعره، والذين راحوا يتساقطون تباعًا خلال مشاركتهم الفعّالة في ذبح الشعب السوريّ وثورته.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024