سنة أولى ثورة: لا يمكن لأشباه الأنظمة أن تسقط!

نادر فوز

السبت 2020/10/17
سنة أولى ثورة واحتجاجات وإنجازات. وسنة أولى انهيارات وإفلاس وتشبّع بالبؤس والمأساة. مضى عام على أولى ليالي تشرين المجيد، ليلة الخميس 17 تشرين الأول 2019، الذي بشّر بالخلاص. لم يمرّ على تلك الليلة سوى عام. 365 يوماً، 8760 ساعة، فقط. إلا أنّ استعادة عام الثورة كاستعادة حدث حصل قبل مئة عام. ليلة أولى لحقت بها أحداث ومشاهد وصور لا تحُصى. منها الثقيل المقزّز، ومنها البديع السلس يهفّ القلب لها. سنة أولى من تعايش الأضداد. نور وظلام، خير وشرّ، شعب وسلطة، أعزل ومسلّح، مدنية وطائفية، إصلاح وفساد، ناس وميليشيات.. واللائحة تطول. كأنّ عالماً قديماً بحاله انقلب على نفسه، لكن بقي قائماً بكل ما فيه من المآسي والشقاء. انقلب من دون أن يتهدّم، في معادلة عجيبة ونادرة تتحدّى قوانين الطبيعية والفيزياء. انكسر من دون أن ينهار، وانهار من دون أن يسقط، وسقط من دون أن يتشظّى. فلا يمكن لأشباه الأنظمة أن تسقط. 

حكومتان وتعطيل مجلس
في عام واحد، سقطت حكومتان. حكومة الرئيس سعد الحريري الذي استقال نتيجة الضغط الشعبي من جهة، وتمسّك شركائه السلطويين بلغة التشبيح السياسي والميداني من جهة أخرى. وحكومة الرئيس حسان دياب، التي وُلدت لتعلن عدم دفع الديون الخارجية، ولتشكيل لجان وهيئات المتابعة المختلفة. فسقطت من الداخل على وقع جريمة 4 آب في مرفأ بيروت. وعلى المستوى النيابي، شلّت احتجاجات الشارع عمل مجلس النواب ثلاث مرّات رئيسية، في جلسات تشريعية ومنح الثقة لحكومة دياب. وهي الجلسة التاريخية التي انطلقت من دون نصاب قانوني عاد وأمنّه الشركاء السياسيون لبعضهم. يوضح ذلك أنّ السلطة مجتمعة، لم تحكم خلال عام. وحين حكمت لم تساهم في تحسين الواقع المالي والمعيشي والاقتصادي والاجتماعي. وهو الأمر الذي يمكن التيقّن منه بدءاً بمراقبة انهيار الليرة اللبنانية وسعر صرفها مروراً بكل المعطيات التي تشير إلى رفع الدعم الحكومي عن الدواء والمحروقات والقمح.

كسر الهالات
في عام واحد، كسر لبنانيون كل الهالات السياسية. رؤساء، زعماء، سياسيون، رجال دين سياسيون، أحزاب، علّقت مشانقهم في ساحات بيروت والمناطق. مزّقت صورهم في مقار رسمية وأخرى حزبية. حرقت مكاتب وممتلكات لهم. في البلد العديد من الرموز، أولها رئاسة الجمهورية ومقامها، فتم تكسير صور الرئيس وحرقها في مقار رسمية. أهمّ الرموز، أمين عام حزب الله الذي تم شنق مجسّم له في ساحة الشهداء. تحدّى الناس وقال إنّ حكومة الحريري لن تسقط، فسقطت. أعاد التحدي وأكد على أنّ حكومة دياب لن تسقط، فكان سقوطها مدوياً. وأبرز الرموز، رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي حُرقت صوره. أين؟ في صور وخلدة والضاحية. سقط الحريري من علياء رئاسة الحكومة، أطيح بالطموح الجامح لصهر الجمهورية، الوزير السابق جبران باسيل. تجرّأ الناس على رموز الحرب والسلم، وعلى ما أفرزوه في الطبقة السياسية الحاكمة. تجرؤوا على طغاة بشكل أيقونات مفترضة. فعكس الأحوال في الأنظمة الأخرى، في لبنان طغاة لا طاغية واحد، دول بوليسية لا دولة واحدة، جيوش لا جيش واحد. كل هذه الهالات انكسرت في الشكل، أما في المضمون فسبق أن تحطّمت بفعل واقع الأزمات المتلاحقة في عقدين أو ثلاثة.

مكاسب كثيرة
عدا كسر السلطة ورموزها، قدّمت ثورة 17 تشرين خطاباً جامعاً عابراً للمناطق والطوائف. والأهم من ذلك أنها وجدت التضامن الخارج من تلك المناطق والطوائف. من طرابلس، تضامن الناس مع صور. ومن النبطية مع جل الديب. ومن الزوق مع بعلبك. ومن جبيل مع برجا والإقليم. ومن صيدا مع الفاكهة والبقاع الأوسط. لم يأت هذا التضامن بفعل بيان معلّب خارج من صالون اجتماع سياسي، بل جاء بتلقائية ومن دون تكلّف ولا حسابات سياسية أو تحالفات. جموع من البشر وجدت نفسها تشبه بعضها، في مطالبها وحاجاتها ومعاناتها وعدوّها، من الجنوب إلى الشمال ومن بيروت إلى البقاع مروراً بالجبل. تبدّل المشهد في الجامعات، وخرج تلامذة المدارس في مسيرات لامعة ومفاجئة احتلّت الشوارع. ونتج عنها أيضاً ولادة تجمّعات نقابية قدّمت البديل في تلك المجتمعات المهنية. في المحاماة والهندسة والإعلام والصحافة والتصوير والفن والعمل الثقافي وغيرها من القطاعات، انتظموا بمختلف مدارسهم وأهوائهم. أسقطوا مشروع سدّ بسري المدمّر للاقتصاد والبيئة والطبيعة، فازوا في نقابة المحامين في بيروت، فازوا في الانتخابات الطالبية في الجامعة اللبنانية الأميركية. حوّلوا جلسات أعضاء الطبقة السياسية في الحيّز العام إلى جلسات ترهيب وخوف دائم. فضحوا السلطة وزيفها. انتزعوا من السلطة قوانين إصلاحية وتراجع عن ضرائب.

الاعتراف بالفشل
والأهم من ذلك أنّ ثورة 17 تشرين، بمجموعاتها وائتلافاتها وناسها، سحبت من فم السلطة الاعتراف بالفشل. قالها الحريري علناً، وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ولحق بهما رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع. ومن يرفض الاعتراف بالفشل، أخذ الناس إلى جهنّم أو إلى طاولة المفاوضات مع العدو الإسرائيلي. ومن معالم الفشل، الموقف الدولي الذي أكد عدم الثقة في المنظومة ومن يمثّلها، فجاء الدعم المالي والعيني بعد جريمة 4 آب مشروطاً علناً بعدم المرور في مسارب الطبقة الحاكمة ومؤسساتها الحزبية والرسمية. ومن معالمه أيضاً، أنّ تجمّع أصحاب القرار السياسي اجتمعوا على طاولة واحدة، وفشلوا في التوافق على مشروع إنقاذ مالي. أين؟ في سفارة، بعد أن كالوا اللبنانيين المحتجّين عليهم بعبارات التخوين والعمل لأجندات سفارات. الفشل في المفاوضات مع البنك الدولي. الفشل في إدارة أزمة الليرة وسعر صرفها، وفي تعديل الواقع المصرفي وحماية أموال المودعين. وكل ما انبثق منها من أزمات الدراسة في الخارج وعمل المؤسسات وحماية الموظفين ووظائفهم. الفشل في وقف الفساد ومحاكمة الفاسدين، وفي تقديم حتى ورقة إصلاحية أو خطاب إصلاحي مقنع للداخل والخارج. الفشل في إدارة المعركة مع كورونا، الفشل في حماية الناس من جريمة 4 آب. وللفشل على المستويين الأخيرين، قصة أخرى.

قتل اللبنانيين
لم تتأخر السلطة، طوال العام الماضي من الاحتجاجات، في كشف وجهها الأمني والبوليسي والميليشياوي. كأنّ أركانها توزّعت الأدوار، مع جامع مشترك بالتشبيح الحزبي. فلم يتأخر أي حزب أو تيار سياسي في ممارسة البلطجة ضد المحتجّين. تربّع حزب الله وحركة أمل (الرينغ، الخندق الغميق، صور، النبطية، بعلبك، الفاكهة) على عرش البلطجة، تلاه التيار الوطني الحرّ (جونيه، مزرعة يشوع، جل الديب، بعبدا، الحدث)، ثم الحزب الاشتراكي (عاليه، قبشرمون، حاصبيا وراشيا وغيرها) وتيار المستقبل (وسط بيروت) والقوات اللبنانية (جل الديب). فكانت مشاهد القمع الوحشي على يد القوى الأمنية، بعد أن شبعت أيدي الشبيحة وعصيهم من الضرب والتنكيل. وتكّلل المشهد في جريمة 4 آب، في تأكيد على كون السلطة تعيش على الدماء. فانتهز عدد من السياسيين مشهد الدمار والقتل والضحايا للتأكيد على أنّ "حصاراً" قد انفكّ. شكّلت هذه الجريمة ضربة قاصمة للسلطة، في فسادها ولا مسؤوليتها. وضربة قاصمة للناس في الشارع، إذ أدركت الجموع أنّ قتل الناس كشربة ماء، كأيام العز الميليشياوي. سبق كل ذلك بطش وتوقيفات ورصاص حيّ وخردق. فاكتمل المشهد، ليتبدّل. طغى تاريخ 4 آب على موعد 17 تشرين. في الأولى دم ودمار، في الثانية أمل وخلاص.

المشروع السياسي
انتجت ثورة 17 تشرين العديد من الائتلافات والتجمّعات. منها من حاول، ولا يزال، التسلّق بمبادرة وزارية هنا أو مفاوضات مع السلطة هناك. ومنها من لا يزال يعمل على طروح تقدّم المشروع السياسي الذي لم يكتمل بعد، أقلّه من حيث الإجماع الواسع والتبنّي المطلق. ومن بين هذه التجارب، "درابزين-17 تشرين" التي جمعت المناطق والقطاعات والمجموعات. فيستمرّ الفرز على هذا الصعيد، مع استمرار أسئلة وتساؤلات كثيرة. مع حكومة اختصاصيين؟ مستقلين؟ مصغرّة؟ مع صلاحيات استثنائية؟ مع انتخابات نيابية مبكرة؟ وقفت ثورة 17 تشرين على عتبتين. الأولى عند قصر بعبدا والثانية في حارة حريك. مع تكريس سقوط الحكومة وتعطّل عمل البرلمان، بقيت الرئاسة الأولى بمنأى عن الحركة الاحتجاجية الواسعة. حفاظاً على "مقام" الرئاسة، تردّدت مجموعات عديدة وارتدعت المسّ بها. من دون أن يعني ذلك أنّ الساحات حملت المشانق وصور الرئيس ميشال عون، واتهّمته بالقتل والمسؤولية عنه. لم تقدر ثورة 17 تشرين على تجاوز الخط الأحمر المكرّس طائفياً ونفسياً، ولو أنّ اسم الرئيس أصبح على كل لسان ومكتوب على كل حائط. أما العتبة الثانية، الأصعب، فكانت في محاكاة جمهور الضاحية الجنوبية وسائر المناطق الواقعة تحت نفوذ حركة أمل وحزب الله. وهذه عتبة أخطر، سبق للمسؤولين عنها أن أظهروا السلاح واجتاحوا بيروت وأحيوا حفلات القمع ومنطق "قبل وبعد السحسوح". وطالما أنّ هاتين العتبتين قائمتان، تدور الثورة في مكانها.. بل تتقهقر.

الأحزاب والطوائف
من بين النقاط العالقة في أجندات 17 تشرين، ملف العلاقة بالأحزاب. اجتهادات وتحريك بحسب الأهواء السياسية. مع التنظيم الشعبي الناصري ضد الكتلة الوطنية، والعكس. مع حزب الكتائب ضد الحزب الشيوعي، والعكس. مع استبعاد حزب الله عن لائحة الفاسدين، مقابل الإطاحة بالقوات اللبنانية منها، والعكس. والواقعي القول إنّ 17 تشرين، نتيجة تنوّعها الفاقع وأهوائها السياسية المختلفة، عاجزة عن محاكاة المنطق السياسي ونسج التحالفات الطبيعية تبعاً للظروف القائمة. حتى أنّ ذلك انعكس على علاقتها بالطوائف. فكان سهلاً على ثوار 17 تشرين الحركة في المناطق السنية. وكانت حركتهم مهدّدة في المناطق المسيحية والدرزية، وتحت السوط في المناطق الشيعية. وعلى الرغم من ذلك، لم تنجح كل محاولات التطييف في جرّ خطاب المجموعات وتحرّكاتها إلى منعطف مذهبي أو طائفي. لا بل يمكن التأكيد على أنّ الثورة حقّقت النقاط الكاملة على هذا الصعيد. 

حقّقت ثورة 17 تشرين نقاطاً كثيرة على السلطة، وتلقّت ضربات كثيرة أيضاً. لم تنجح طبعاً، إلا انه من المؤكد أيضاً أنها لم تفشل. يوم 4 آب، حوّل تاريخ 17 تشرين إلى موعد بعيد، ولو كان على بعد أشهر فقط. حوّلها إلى محطة، تماماً كما سيتحوّل 4 آب، محطة قتل وإعدام. 17 تشرين محطة، مستمرّة بانتظار موعد جديد، فمن قال إنّ الربيع لا يأتي في الخريف؟ 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024