"فضائح" مطمر تربل: اعتداء بالضرب وسمسرات سياسية بالجملة

جنى الدهيبي

الخميس 2019/08/15

قد يصحّ "مشروع" مطمر تربل أن يكون تجسيدًا صريحًا للواقع اللبناني برمّته، وعنوانه العريض: لا ثقة بالدولة. وإن كان نهار الأربعار 14 آب الطويل في تربل، طغى عليه مشهد اعتداء عنصر من القوى الأمنية بالضرب على سيدة تحاول منع شاحنات النفايات والآليات بجسدها، تبيّن لاحقًا أنّها شقيقته، إلّا أنّ ثمّة مشاهد أخرى لا تقلّ خطورة عن ازدراء واقع النساء في لبنان، يلخصها حجم المتاجرة السياسية بالناس، من بوابة طوائفهم وعواطفهم ومناطقهم وصحتهم، إلى أن يدفعوا وحدهم ثمن هذه المتاجرة غاليًا جدًا.

العودة إلى الصفر
بعد مهلة الـ 24 ساعة التي أعطها رئيس الحكومة سعد الحريري، بتجميد العمل في مطمر تربل، نتيجة اتصاله مع وزير البيئة فادي جريصاتي، وقد تمددت المهلة بفعل عطلة عيد الأضحى، شهد نهار الأربعاء غضبًا شعبيًا عارمًا في الشارع، وبدا استكمالاً لما جرى في ليلة الثلاثاء 13 آب. فأثناء اجتماع ممثلين عن منطقة المنية وجوارها، ومن بينهم صاحب مشروع ميرادور الاستثماري في جبل تربل، أحمد الدوري، وعلم الدين (الذي عاد من اجتماع مع الرئيس الحريري عرض فيه دراسات لبدائل أخرى من مطمر تربل)، مع الوزير جريصاتي، وفيما كان المجتمعون يبحثون عن بدائل لتربل، كان فوج من العناصر الأمنية وقوّة من الجيش اللبناني، تواكب آليات المتعهد عبد الهادي حسون (وهو قريب من تيار المستقبل)، استئنافًا لعمل إنشاء المطمر.

على إثرها، بدأ حرق إطارات السيارات وقطع الطرقات على أوتوستراد المنية – العبدة الدولي في الاتجاهين، تزامنًا مع تجمعات في محيط الأرض التي يتم العمل على إنشاء المطمر عليها، كما قطع آخرون الطرق المؤدية إلى تربل لجهة الضنية، تحديدا عند منطقتي الزحلان وعزقي.

أزمة البحث عن بديلٍ لمكبّ عدوة، الذي جرى إغلاقه قبل نحو ثلاثة أشهر، وكان يستقبل نفايات الأقضية الشمالية الأربعة الكورة وزغرتا وبشري والمنية والضنية، وقع في آخر المطاف الخيار على أرضٍ عقارية في تربل تبلغ مساحتها 6000 متر مربع. لكن هذه الأزمة دخلت سجالًا سياسيًا معقدًا لم تغب عنه مؤشرات المتاجرة الشعبوية. من جهة، يعود استئناف العمل في مطمر تربل لقرارٍ حصري من وزارة الداخلية، أيّ بموافقة الحكومة ورئيسها الحريري. ومن جهة أخرى، يأتي قرار التجميد أو الإقلاع عن العمل في المطمر، من ضغطٍ يمارسه أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري (علمًا أنّ المتعهد حسون قريب من التيار) وعلى لسان نائب التيار عثمان علم الدين! وفي خضم المعارك "الافتراضية" وعلى الأرض في تربل، أصدر أمين التيار بيانًا يرفض فيه أن يتحول جبل تربل "إلى مطمر خبيث للنفايات، على حساب ناسنا، كبارًا وصغارًا". وقال: "أهل المنية أدرى بشعابها وجبالها، ولا كلمة تعلو فوق كلمتهم المحقة الرافضة لإقامة المطمر، وكلمتهم كلمتنا، ونحن وإياهم على كلمة سواء وصرخة واحدة في وجه كل المعنيين: لا لإقامة المطمر، لا اليوم ولا في أي يوم". ثمّ يستلم النائب علم الدين دفّة التناقض في المواقف، ويعلن "معتزًا متباهيًا" وقف العمل في مكبّ تربل بـ "أمر من الرئيس الحريري" ويدعو الأهالي إلى الصعود لتربل!

وفي ظلّ هذا التناقض "الغريب" في المواقف لدى التيار الأزرق الحاكم في السلطة التنفيذية والعامل في الشأن السياسي، استمرت "كتلة الوسط المستقل" التي يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي بموقفها، ودعا النائب علي درويش الوزير جريصاتي إلى "الاسراع في إجراء دراسة الأثر البيئي حول هذا المطمر وإعلان نتائجها أمام الناس لكي يبنى على الشيء مقتضاه"، مشدداً على "أننا لن نتهاون في مواجهة أي أضرار يمكن أن تصيب الأهالي من أي جهة أتت".

في سياق "التناقض" أيضًا، وفيما أكّد النائب فيصل كرامي بأنّ "ما يرضي الأهالي يرضينا"، فـ"لتجد كل منطقة أو كل قضاء أو كل اتحاد بلديات الحل البيئي الذي يناسب الأهالي، وفي كل اتحاد بلديات أو قضاء يوجد أراض ويستطيعون معالجة مشاكلهم من خلالها"، كان حليفه في "اللقاء التشاوري" النائب جهاد الصمد داعمًا لحلّ "مطمر تربل"، ولموقف حلفائه في زغرتا الزاوية. من جهة أخرى، أكد النائب طوني فرنجية أنّ "حرصنا على صحة الناس وصوننا للبيئة والمياه الجوفية في سلّم الأولويات، ولا مكان للمزايدات في شمالنا شمال العيش المشترك وسنتابع التقنيات بدقة وفق أعلى المعايير الصحية والبيئية منعا لخطر التلوث أو السموم". ومن جهة أخرى، رفع النائب ميشال معوض الصرخة على ما أسماه بـ"الصفقات" قائلًا: "‏لن أسمح بصفقات في موضوع النفايات. والحقيقة ستظهر. وسترون أن كل هذه الهجمات والمزايدات والتطييف لا علاقة لها لا بالحلول المطروحة، ولا بالمياه الجوفية، ولا بالمسيحيين ولا بالسنّة، بل بأشخاص يسعون للسيطرة على معمل الفرز، وتأجير الأرض للدولة وبصفقات مالية على حساب صحة أولادنا".

"البيئة" غاضبة!
هذه الأجواء المشحونة بالغضب والسجالات والتناقض، دفعت وزارة البيئة إلى الواجهة، لا سيما أنّ الوزير جريصاتي يواجه سيلًا من الاتهامات الشعبية والسياسية والمدنية بأنه ينفذ أوامر السلطة السياسية ضدّ مصلحة الناس، ويمتنع عن إجراء دراسة الأثر البيئي. إلّا أنّ مستشار الوزير شاكر نون، عاد وأكد لـ"المدن" أنّ قرار العمل في المطمر أو تجميده، هو حصرًا بيد وزارة الداخلية وتنفذه البلديات من بعدها. فـ"نحن كوزارة لسنا معنيين باتخاذ القرارات، وإنّما بُلّغنا بقرار تعيين الأرض العقارية في تربل، ووجهنا قرارًا بإلزامية الفرز من المصدر، وألزمنا الأقضية الأربعة أن يكون لها أراضٍ لتجميع نفاياتها"، وقال: "لا دور لنا إلا أن يقدموا لنا أراضٍ لدراستها، وحاليًا، لدينا نحو أربعة بدائل عن تربل في صدد دراستها، من بينها إما في البداوية، أو بحنين أو أرض أخرى في تربل". وذكر نون أنّ كلّ لحظة نتأخر بها "يدفع الناس ثمنها بتراكم نفاياتهم على أطراف الشوارع، بينما نحن نتعاطى مع حالة طارئة نستعجل حلّها إلى حين الانطلاق بالحلّ المستدام".

اعتراضات مدنية
وتعليقًا على قضية تربل الخلافية، أشار الناشط الاجتماعي ابراهيم وهبة لـ "المدن"، أنّ أقل ما يمكن وصف آلية معالجة الأزمة بـ "المسخرة". فـ "وزير البيئة يبرر عدم  إجراء دراسات الأثر البيئي بضيق الوقت، وصاحب الأرض يشير إلى امتلاكه لدراسات ألمانية، والنائب معوض يهدد بفضح السمسرات". وقال: "يغيب أهل السياسة عن الساحة، تأتي الأوامر بنقل النفايات إلى تربل تحت حماية أمنية ليلاً، بسحر ساحر، يتحرك الشعب ويرفع صوته، يظهر أهل السياسة من جديد رافضين للمطمر متضامنين مع الشعب، ثمّ يزف نائب من المستقبل للناس خبر توقف العمل بالمطمر، بينما وزير البيئة يقول نحن بحاجة للمطمر وسيتم فتحه،  ومحافظ طرابلس ينتقد المعتصمين".

وكان محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا قد أشار أنّ "الاعتراضات التي نشهدها على مطمر تربل هي من دون مبرر". وأضاف خلال ترؤسه اجتماعًا في قاعة الاستقلال في سرايا طرابلس، قبل أن يعلن النائب علم الدين وقف العمل بالمطمر: "لقد تلقينا منذ ثلاثة أيام قراراً من وزيرة الداخلية ريا الحسن بالسير في مطمر تربل وبلغنا الأمر لقوى الامن الداخلي، ونحن كإدارة وبلديات واتحاد بلديات مستمرون في تنفيذ القرار حتى الآن، في انتظار أي تطور سياسي أو حكومي. فنحن في النهاية ننفذ القرار السياسي، قرارات الحكومة وقرارات وزارة الداخلية وقرارات الوزارات المختصة. وحتى الساعة، هذا المطمر هو الأقل ضراراً، وعملي، لأنه بعيد عن الناس، وسيبنى له عازل. وسنتبع طريقة طمر النفايات تفادياً لانتشار الروائح، لذلك لا حاجة إلى الاعتراضات التي نشهدها اليوم، فهي من دون مبرر".

وكانت " لجنة متابعة مشاريع طرابلس" حضرت اجتماع السرايا وأصدرت بيانًا أسفت فيه على "تغليب المنطق السلطوي على النهج العلمي". وأكدت اللجنة على غياب الثقة بوزارة البيئة والسلطة بشكل عام، "وفقاً للخبرة السابقة، ووفقاً للإجراءات الجارية، وما نراه ليس سوى تلاعب بأعصاب الناس ومصائرهم كسبًا للوقت، وتنفيذًا لمخطط ظاهره بيئي وباطنه صفقات تبدأ بالمطامر وتنتهي بالمحارق". وأضافت: "إن الادعاء بأن المطمر المستحدث في تربل صحي ومؤقت، ليس سوى هراء وكذب على الناس. نظرًا لعدم صلاحية الموقع جغرافياً وجيولوجياً واجتماعياً، حسب الخبراء البيئين والجيولوجيين. فضلاً عن ضرب الوزراة بعرض الحائط كافة القوانين البيئية والمراسيم، وذلك باعتماد الموقع وإعطاء الموافقة باستخدامه من دون إجراء دراسة أثر بيئي تبين  صلاحيته من عدمها. كما عمدت لطمر النفايات فيه دون عزله وتأهيله ليكون مطمراً صحياً كما تدعي". كما "تعمد الوزارة إلى استغفال الناس عبر الترويج لتقرير كشف ميداني أولي على أنه دراسة أثر بيئي، بينما هو نفسه يوصي بإجراء دراسة. وفوق ذلك تروج لمفهوم مطمر مؤقت Parking غير موجود في قاموس البيئة العالمية، باستثناء القاموس اللبناني، إذ أن كل جمع للنفايات في أي موقع ولو لساعات، له فعل تدميري للبيئة لا يمكن عكسه".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024