الذكاء الاصطناعي يغير نظام الطب في مستشفياتنا

حلا نصرالله

الأحد 2019/06/09
قادتني أسباب عائلية إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. كنت برفقة مريضة تراجع طبيب الأورام. ورغم أن المستشفى ليس المكان الأمثل للحديث والوصف، كونه يعني المرض والمعاناة، إلّا أن مشهد المعاينة الطبية كان مذهلاً. فقد أمسك الطبيب ملف المريضة وأخذ يُقلب صفحاته، ووضع صورة الأشعّة على شاشة يشعّ منها اللون الأزرق، ثم أخذ بيده مايكروفون متصل بكومبيوتر وراح يلقّنه كامل المعلومات البيانية التي جاءت في تقرير نتيجة الخزعة وتقرير طبيبة الأشعة. وسمعته يتمتم عن نوع الورم، الذي بلغ حجمه سنتيمتراً واحداً، وأن الصورة لا تشير إلى وجود أي ورم في الغدد الليمفاوية، ولا تاريخ وراثياً لهذا المرض في عائلة المريضة.. وكانت الشاشة مع كل عبارة يلفظها الطبيب تظهر جملاً حمراء لم أستطع قراءتها بسبب شاشة الخصوصية الإضافية.

المعاينة والتشخيص
من المؤكّد أن خلف الكومبيوتر يعيش طبيب آخر من الذكاء الاصطناعي، ساعد الطبيب الذي أمامنا على اتخاذ أفضل خيار علاجي، والتعمق بطبيعة المرض. طلب الطبيب من السيدة أن تجلس على السرير خلف الستارة الرمادية. سألها ما إذا كانت تشعر بألم، فأجابته بالنفي. طلب منها أن ترفع يديها إلى خلف رأسها، وأخذ ينقل أصابعه بمهارة: "لم يسبق لي أن شاهدت طبيب مثله يقوم بذلك" حسب قولها، ثم فتح كفيه وضغط بعمق تحت إبطيها، ومررهما أسفل زنديها.

حمل الطبيب المايكروفون مجدداً، وقال مصطلحات طبية لم أستطع فهمها. طلب من السيدة أن تنهض من السرير، وسألها "لماذا تشعرين بكل هذا القلق، لا تخافي". فسألته عن تساقط شعرها بسبب العلاج الكيماوي، وإذا ما كانت ستتألم. كانت السيدة مرعوبة من فكرة "الألم" فأجابها: سننتظر نتيجة الزرع بعد عملية استئصال الورم، ولكن أريد أن اخبرك شيئاً شبه متيقنٌ منه. أرجّح أنك لست بحاجة إلى علاج كيماوي، سننتظر النتيجة لنرى ما إذا كنت ستتفاعلين مع العلاج الهرموني.

ليس لدي فكرة إذ كانت المعلومات البيانية التي يستند إليها الطبيب مقتصرة على الحالات التي عالجها هو فقط، أو أنها تشمل كل حالات سرطان الثدي التي تلقت العلاج في المستشفى، أو أنها متطورة جداً وتشمل قاعدة بيانات مرضى من شتى أنحاء العالم، ولكن ما أعلمه أن طريقة تشخيصه للمرض تلائم المستقبل.

يقول الطبيب شادي نصار لـ"المدن"، الذي يتخصص حالياً في جراحة الجهاز الهضمي وجراحة المنظار في الجامعة اللبنانية، ومستشفى الجعيتاوي، ويسافر دورياً إلى فرنسا لدراسة الجراحة الروبوتية، أن الذكاء الاصطناعي بات يُستعمل لتحليل البيانات الاحصائية. فـ"كما نعلم أن علم الإحصاء هو من ركائز الطب الحديث". كذلك تساهم "البيانات التحليلية في استخلاص استنتاجات كان لها تطبيقات عملية في مختلف الاختصاصات، وغيرت العديد من المفاهيم الخاطئة وفي اعتماد طرق علاجية". كذلك يحسم نصار أن الخيار الأخير بالعلاج يتخذه الطبيب، وليس الذكاء الاصطناعي، الذي لا يمكن استخدامه لوحده في التشخيص.

استهداف الألم والسرطان
ليس الموت وحده ما يخافه حاملو الأمراض المستعصية، بل يخافون كثيراً من الآلام المرافقة له. كذلك يرتعبون من المستشفى في حال كانت زيارتهم إليها بسبب مرض السرطان. غير أن الذكاء الاصطناعي يرسم مستقبلاً مختلفاً للمستشفى والتشخيص الطبي ولمعالجة الأمراض المستعصية والآلام الشديدة.

أحدثت التكنولوجيا ثورة جذرية في الطب. فما كان يعجز عنه العلماء سابقاً، شق الذكاء الاصطناعي، والبيانات الكبرى المتعلقة بالأمراض، طريقاً لفهمه بشكل أفضل. الجيل الجديد من الأطباء يتسلحون بعدّة تكنولوجية قد تقهر أمراضاً فتكت بأرواح عشرات الملايين من البشر. يأخذ الجيل الجديد على أسلافهم من الأطباء أنهم انشغلوا بمعالجة المراحل الأولى لتشكل الأمراض من دون معالجة المراحل المتقدمة. وتقول دراسات حول السرطان أن علة الطب الحالية هي أن المرضى المصابون بمراحل متقدمة يعانون من النبذ الطبي، لأن عددًا كبيرًا من الأطباء يعجزون عن معالجتهم، فيُتركون صرعى مرضهم وينتظرون الموت.

هذا "النبذ" سيختفي في المستقبل. إذ يخوض الذكاء الاصطناعي معركة مع المراحل المتقدمة من الأمراض المستعصية. وقد ذكر تحقيق نشرته "المجلة الطبية"، أنه بحدود عام 2033 سيصير بإمكان الطب معالجة أكثر من 22 ألف حالة ستصنف ضمن المراحل المتقدمة جداً من السرطان، وتقف صحتهم على عتبة موت أكيد. كون الذكاء الاصطناعي يمنح الأطباء نظرة أعمق للآلية التي يتطور بها السرطان، ليصير سرطاناً انتقالياً يغزو كافة أعضاء الجسم، وتعد الوسائل "التكنوطبية" الحديثة بجعل السرطان النقلي، وهو أخطر مراحل هذا المرض، حالة قابلة للشفاء. 

آلة "النانو"
يشكل العلاج المناسب للألم تحدياً طبياً كبيرًا. الألم يقتل. يسبب نوبات قلبية في حال كان قوياً جداً. وهو ما تعمل على حله ومكافحته "آلة النانو". تسبب الأمراض والعمليات الجراحية آلام مبرحة. فالسيدة تعاني حالياً من آلام مبرحة في مكان العملية الجراحية، وتقول إن الألم يشبه الحريق.
حين يزور المريض طبيبه يخبره عن ألم يشعر به. قد يمنحه الطبيب مضاداً للألم، ولكن الطبيب لا يمتلك القدرة الكافية على فهم حجم الألم ومدى انتشاره في الجسم، وقد يعجز في بعض الأحيان عن كبح جماحه.

لقد وفرت التكنولوجيا الحديثة إمكانية زراعة "آلة نانو" - لا يتجاوز حجمها بضع نانومترات (النانو متر واحد من مليون من المتر) - داخل الجسم. ستتجول الآلة داخل الجسم وفي حال رصدت أي تغيّر، أو تشكل بؤر صغيرة للأورام، ستشن حرباَ عليها. ويقول البروفسور جيرمي باومبرغ أن "آلة النانو تعمل أيضاً كآلة استشعار تقيس حجم الألم ومكانه الدقيق"، ما يمنح الطبيب بيانات تساعده على تحديد عيار الدواء الموجه نحو منطقة الألم.

نقلة نوعية
حسب نصار: "حقق تطور التكنولوجيا نقلة نوعية في الجراحة المايكروسكوبية، والتي تعتمد على مبدأ تقليص الجروح قدر الإمكان، واعتماد الجراحة على الفتحات الطبيعية في الجسم البشري، كاعتماد الانف للوصول إلى قعر الجمجمة والفم والشرج. وصنع جروح متناهية الصغر عبر جراحة المنظار، التي تجنب عمليات جراحية كبيرة، قد تسبب لاحقاً آلاماً وتشوهات ومخاطر التهاب، كذلك تقلل هذه الجراحات من استخدام المسكنات".

حتى الآن لا يزال الطب يعتمد على سماعة الطبيب وآلات التصوير الشعاعية والصوتية، ومؤخرًا المغناطيسية والنووية لتشخيص حالة المريض ومعاينته، ووضع برنامج علاج أو جراحة على ضوئه. ولكن خلال فترة وجيزة ستحل محل كل ذلك أجسام ميكروسكوبية صغيرة قادرة متى دخلت الجسم على الإنذار المبكر بالمرض والابلاغ عنه لاسلكيًا إلى ملف المريض الالكتروني والتعامل معه علاجيًا، بواسطة حمل الدواء إلى نقطة الخلل نفسها، ما قد يعفي من الكثير من الجراحات والآلام والمعاناة.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024