سيرة رينيه الديك: رعب الأم وجونيه من الجمال والفن

محمد أبي سمرا

الجمعة 2021/04/16
في مطلع شبابها لم تتحمل رينيه الديك الحياة الرتيبة في جونيه، فـ"هجرتها" إلى بيروت الستينات بحثاً عن الفن، رسمًا ومسرحًا وحياة. ربما لم تكن تدري حينذاك أنها "تنحرف" عن المصائر المرسومة لمثيلاتها من بنات جنسها، وتتجاوز حدود التقاليد السائرة.

ومن اختباراتها الأولى في محترف الرسام ميشال المير، إلى "مدرسة المسرح الحديث" التي أنشأها منير أبو دبس، إلى "موديل" للفنانين التشكيليين. ومن مسرحية "الإزميل" و"كاليغولا" في بعلبك و"الويست هول" في الجامعة الأميركية، ومن "عطيل" شكسبير و"الملك يموت" في دير القمر وبعض العواصم العربية، إلى "علماء الفيزياء" و"روميلوس الكبير" لدورنمات... شاركت رينيه الديك في صناعة تجربة المسرح اللبناني الحديث في الستينات.

وفي مناسبة رحيلها أمس الأول الأربعاء 14 نيسان الجاري، تنشر "المدن" مقتطفات من سيرة رينيه الديك، كما روتها بنفسها قبل سنوات. وهي تستعيد طفولتها وصباها في جونية، وبدايات تجربتها الفنية في بيروت، بعد اختيارها الخروج من الطريق المرسومة لفتاة الأهل والمجتمع والزواج والإنجاب، إلى امرأة المدينة (بيروت الستينات) والفردية في المسرح اللبناني الحديث. وهذه حلقة أولى من سيرتها غير المكتملة، تليها حلقة ثانية. وهي مكتوبة بصيغة المتكلم.

باب توما وكسروان والجميزة
وُلدتُ سنة 1943 في الجميزة، الحي البيروتي القديم، حيث استوطنت عائلة الديك الكاثوليكية. وفي رواية أهلي أنهم شطرٌ من عائلتهم نزح من محلة باب توما في دمشق، أيام الحكم العثماني. وفي بيروت تعرضت العائلة لملاحقات الأتراك، فقتل بعض رجالها. أما أمي -وهي من عائلة خويري المارونية من إهمز في جرود كسروان- فكانت طفلة صغيرة عندما وفد أهلها من قريتهم الجردية إلى بيروت، فأقاموا في الجميزة. وقاربت علاقات الجوار بين أبي وأمي في صباهما، فتعارفا واقترنا في مطلع الأربعينات من القرن المنصرم.

لم يدم طويلًا وئامهما على الإقامة في الجميزة. فأمي أخذها توق إلى الإقامة في ساحل كسروان، قريبًا من موطن أهلها الأصلي. لكن والدي الذي ولد في الجميزة، وكان أهله قد انقطعوا عن موطنهم الأصلي القديم، لم يكن لديه ميل للإقامة في غير بيروت، فلم يغادر الجميزة للإقامة في جونيه إلا مرغمًا. وربما عنه ورثت التوق إلى العيش في المدينة (بيروت) التي غادرتها عندما كنت في السنة الرابعة أو الخامسة من عمري، من غير أن انقطع عن منزل جدتي لأبي في الجميزة. فقد ظل بيت جدتي محور حياتي وعلاقتي بالمدينة في عطل نهايات الأسابيع المدرسية. وعندما مررت للمرة الأخيرة قرب ذلك المنزل القديم، رأيت العشب نابتًا على ما تبقى من جدرانه المتصدعة، وتذكرت حياة جدتي لأبي وحيدة فيه، قبل أن تغادره في أيام عمرها الأخيرة، لتموت في منزلنا في جونيه، وتدفن في الباشورة، حيث قيد نفوس العائلة.

المدرسة والبحر والجنس
في مدرسة راهبات العائلة المقدسة في جونيه كانت بي لهفة كبرى لتعلم اللغة الفرنسية. وفي مطالع الخمسينات كانت تندر السيارات في تلك المدينة الريفية الصغيرة، لكنها كانت تعج بالمدارس التي يقصدها التلامذة حتى من بيروت. وسوى الحياة المدرسية ورفيقاتها، كان البحر أمام البيت والحرج الصغير خلفه ملعب صباي. فإلى جوار بيتنا كان يقيم "ريس بحر" يداوم على زيارتنا في أوقات الغداء والعشاء. كان بيته قديمًا وفيه كتب عن التداوي بالأعشاب والتنجيم والأبراج، فقضيت أوقاتا في ذلك البيت مستغرقة في القراءة. وفي بعض الأمسيات كان ذلك البحار يصطحبني وأخي في زورق رحلاته البحرية لرمي شباك الصيد.

وفي صباي كان رفاقي ورفيقاتي في المدرسة يأتون إلى بيتنا، فنقوم بنزهات قصيرة، وبرحلات مدرسية، فتنشأ بين الفتيان والفتيات علاقات بريئة، وبعيدة عن النيات والرغبات الجنسية المؤجلة إلى أن يحين الزواج. وحتى عمر العشرين كانت تلك الرغبات بعيدة، ولا تحضر في حياتنا حضورًا ملموسًا، حتى أثناء الرقص في الحفلات الخاصة التي كنا نقيمها في المناسبات. وكان أهلنا مطمئنين لبراءتنا وطهارتنا. فالتعاون بين المدرسة والأهل كان متبادلًا في الأمور الأخلاقية والسلوك اليومي. ففي ذلك الزمن لم تكن مسألة الحرية الجنسية شائعة، بل كان التقديس يغلف كل ما يتعلق بالجنس الذي إطاره الزواج والإنجاب، فقط. لقد كان إعلاء المشاعر الجنسية مسيطرًا على حياتنا في انتظار أن تمنح الفتاة كيانها للشخص الذي سوف تحبه وتتزوجه. وكنا نتحمل ذلك الإعلاء ونلتذ به لقاء بقائنا، نحن الفتيات، طاهرات للشاب المنتظر. والشبان كانوا أيضاً يسلكون مثل سلوكنا هذا. فبقدر ما كانت الفتاة تمتنع عن الشاب، كان يتزايد احترامه لها. أما حين تستسلم له فكان ينظر إليها نظرة سيئة. وحتى بلغت الثلاثين ظلت هذه النظرة حاضرة في حياتي. وكنت آنذاك في فرنسا، عندما راحت نظرتي تتبدل مع ثورة الطلاب عام 1968. لكن هذا التبدل وصل إلى مجتمعاتنا مشوهًا: تفلتٌ جنسي ينطوي على كبت اجتماعي مقيم.

في التاسعة من عمري اكتشفت على التتخيتة في بيتنا بقايا مكتبة عامرة بالكتب. كنت وحدي في البيت، فحملت كتاباً منها وأنزلته، فاذا به كتاب "ألف ليلة وليلة"، فتمارضت كي لا أذهب إلى المدرسة، وبقيت في سريري أقرأ ذاك الكتاب سرًا. وحين جاء جارنا البحار لمداواتي بوصفات أعشابه الطبية، اكتشف الكتاب وأخبر أهلي بحيلتي. لكنني في الحمام واظبت على قراءة الكتب القديمة المكدسة على التتخيتة. وأمام المرآة في غياب أهلي عن البيت كنت أغني وأرقص وأحادث نفسي، وأحيانا أستمع إلى الموسيقى والأغاني. وما أسمعه من أغان لمرة واحدة كنت أحفظه غيبًا. كانت ذاكرتي قوية منذ طفولتي. وفي السابعة عشرة تعرفت إلى أغاني جاك بريل وجورج براسنز وليو فيري وتينو روسي. ومنذ طفولتي كنت أشارك في التمثيليات التي نؤديها على مسرح المدرسة. ولاحقًا رحت أمثلها وإخوتي وأخواتي في غرفة الطعام. ومعلم اللغة العربية في مدرستي -كان من آل البستاني- رأى أنني موهوبة في مادة الإنشاء العربية، فشجعني للمشاركة في مباراة للإنشاء والإلقاء بين مدارس جونيه. ومنذ ذلك الوقت قلت إنني أريد أن أكون كاتبة أو فنانة. وإذا لم أستطع أختار عملا إنسانيا، ممرضة أو طبيبة.



فن للزينة أو الخوف
لكن أمي كانت تنفر من هواياتي الفنية. فهي منعتني، مثلًا، من زيارة صديقتي التي تعزف على البيانو. فصرت أجلس خلف الشباك وأبكي. ففي تقاليد أمي ليس من المستحب أن تكون للفتاة هوايات فنية. فالفتاة مصيرها الزواج والبيت وإنشاء أسرة. حتى التعليم كان عندها من لزوم ما لا يلزم. وحدها الطبقة البورجوزاية العليا كانت تحرص على تعليم بناتها وتنمية هواياتهن الفنية. أما الطبقة الوسطى وما دونها، فما كان ذلك من تقاليدها، وهو غير مستحب أخلاقيًا. وميلي إلى الهوايات الفنية، كالرسم والموسيقى والتمثيل، كان غريباً عن زميلاتي في المدرسة. والهوايات هذه كانت تجسد ميل الطبقات البورجوازية والعليا إلى حب المظاهر الحديثة، أكثر من ميلها إلى الفن نفسه. أما الطبقات المتوسطة فكانت تخاف من هذه الهوايات خوفا أخلاقياً على بناتها. وفي المدرسة كان هدف الهوايات الفنية أن يظل البيت والمدرسة حدودها، فلا تولِّد في التلامذة ميلًا حقيقيا وشخصيًا إلى هذه الفنون التي تعتبر من التسليات، وتجسد في حياة الأسر ميلًا إلى التباهي ببناتها واستعراضهن.

على خلاف هذا، كان ميلي إلى الهوايات الفنية، داخليًا وشخصيًا. وقد شغفت بحياة الممثلين والممثلات الذين كنت أقرأ مقتطفات عن حياتهم في مجلة فنية اسمها "بون سواريه" على ما أذكر. أما زميلاتي في المدرسة فكن يقرأن هذه المقتطفات قراءة مزدوجة: في سرهن يهوين صور حياة الفن والفنانين والفنانات ويعشقنها. أما في العلانية العامة الاجتماعية والأخلاقية، فتخيفهن تلك الحياة، لأنها قد تجرفهن إلى الضياع والتيه والتحلل الاخلاقي. فالفتاة كانت تتصور أن حياتها تكون غير أخلاقية إذا احترفت التمثيل في المستقبل، وتعرّض مستقبلها لما لا تُحمد عاقبته، ما دام الزواج والإنجاب أفق المستقبل الأكيد، وربما الوحيد. لذا كانت أمي تخاف عليّ من ميولي الفنية التي كانت ترى أنها تفضي بي إلى الفساد.

الخوف من الجمال
كان حبي لوالدي وتعلقي به كبيرين. فمنذ كنت طفلة في منزلنا القديم في الجميزة، ما كان يطيق تعرضي لأذى أو مكروه، مهما كان صغيرًا. كان مثلًا لا يطيق أن أمشي حافية على أرض البيت، الذي كان يرغب في أن يكون لي فيه من يرعى شؤوني، فلا أقوم بأي عمل بيتي. وكان يغضب من أمي وجدتي إذا لم تعاملاني على ذاك النحو. لكن أمي كانت مثل كل النساء التقليديات: تفضل أبناءها الذكور على الإناث. فالصبي هو من يحمل اسم العائلة ويرث. أما البنت فكائن ثانوي، يحق لأخيها أن يتقدمها شأنًا ويسيطر عليها. وهذا ما كان يضايقني وينفّرني من أمي. كانت مثلًا تقول لي أن أسكت إذا تكلمت مدافعة عن نفسي حيال أخي. فأقول لها إنني حرة، وأريد أن أتكلم، فتستشيط غضبًا كلما سمعتني أقول: أنا حرة. وقد استمر هذا الصراع بيني وبينها منذ طفولتي وأنزل بي ألمًا كبيرًا، لأنه ظل يقوى ويشتد سنة بعد سنة.

وهذا لا يعني أن حياتي البيتية لم تكن جميلة في طفولتي وصباي. فالسهرات كانت عامرة في بيتنا. وكان الساهرون والساهرات من معارف أهلي وأقاربهم يدلعونني ويكثرون من مداعبتي وإجلاسي قربهم وفي أحضانهم. فأنا كنت جميلة، ويقولون إنني جميلة، ويدلعونني لأنني جميلة. وسرعان ما انتبهت إلى أن جمالي يجعلني محظية. فرحت أستزيد إظهار نفسي جميلة، لأكون دميتهم المحبوبة لأنني جميلة. حتى الجيران صاروا يقولون حين يرونني في الطريق: جاءت الحلوة، أو مرّت الحلوة. وهكذا رحت أرغب في أن أكون وأعامل كمحظية جميلة.

لكن أمي التي كان يؤنسها ويغويها أو تتغاوى بي، حينما كنت على هذه الصورة في طفولتي وصباي الأول، كرهت صورتي هذه إياها، وأرادت محوها، وما عادت تطيق أن يدلعني الآخرون وأكون محظيتهم، حين صرت صبية بالغة. لذا راحت تزجرني وتنفر من أن أكون محط أنظار الشبان والرجال. وهذا ما أدى إلى تفاقم النفور المتبادل بيننا. فأمي كانت لا تزال فتية وجميلة. وربما زاد هذا من اضطراب علاقتنا. كأنما خوفها عليّ من جمالي ومن سلوكي كمحظية، كان ينطوي على شيء من غيرة خفية مني. وفي عمر السادسة عشرة أو السابعة عشرة أخذت تمنعني من السهر مع رفاقي ورفيقاتي. ثم أُرغمتُ على ترك المدرسة ما بعد البكالوريا، وصار همّ أمي أن تزوجني. وهذا ما كنت أرفضه وأنفر منه.

قمع ورعب أموميان
منذ صغري كنت أشعر بشيء من الفراغ والوحدة. كأنني كنت في حاجة إلى أحد ما قريب مني يخلّصني من وحدتي الداخلية وعزلتي. وهذا ما ظل يرافقني حتى مرضت مرضًا نفسيًا وعصبيًا في الأربعين من عمري. لكن مرضي الذي شفيت منه، أكسبني وعيًا جديدًا لذاتي وللعالم، فتخلصت من شعوري المزمن بالوحدة والعزلة. فأنا من منذ طُرت من بيتي في بيروت في مطلع الثمانينات، وأقمت على ساحل جونيه، التجأت إلى الطبيعة والحيوانات الأليفة. وفي صباي وشبابي، وحده المسرح كسر حدة شعوري بالوحدة والعزلة. ففي أثناء مشاركتي في عمل مسرحي كنت أشعر أنني قوية ومأخوذة من نفسي. لقد ملأ المسرح حياتي. وإذا كان صراعي مع أمي قد غذّى ميلي إلى الفنون، فانا لست فريدة بين فتيات جيلي في ما تعرضت له من قمع أمومي. ففي المجتمعات الشرقية، تعيش الفتيات صراعًا مع أمهاتهن ينتهي بقبولهن بفكرة المجتمع الذكوري.

أمي كانت كسائر الأمهات: تريد أن يسيطر عليّ ذكرٌ ما، أبي، أخي، خطيبي، زوجي. لذا ما أن بدأت ألفت أنظار الشبان، حتى راحت تفتش لي عن رجل أتزوجه. لقد كان خوفها عليّ ومني كبيراً. ففي الرابعة عشرة من عمري أبعدتني إلى ضهور الشوير للإقامة عند أقارب لنا في فصل الصيف، لتبعدني من تلميذ من مدرسة قريبة من مدرستي في جونية، فلا أعود أراه ويراني. وهو تلميذ لم أبصره ويبصرني إلا من بعيد، وما تبادلنا غير نظرات صامتة وبعض الرسائل التي كان دارجاً آنذاك تبادلها بين الفتيات والفتيان في المدارس. لقد كانت تلك الرسائل وسيلة الاتصال الأقوى والأشد حميمية في الغرام. وأدى اكتشاف أمي رسائلنا تلك إلى تنبيه أقاربي في ضهور الشوير إلى تشديد رقابتهم عليّ، بعدما مُنعت من الاصطياف مع أهلي في جورة الترمس بكسروان. وفي منزل أقاربي اكتشفت خالتي رسالة كنت أنوي إرسالها إلى فتى أحلام مراهقتي، فضربوني وعاملوني كأنني مجرمة، فهربت مساء من بيتهم وقررت العودة إلى أهلي. دهمتني العتمة في حرج في الوادي، فتملكني خوف روعني، وألجأني إلى بيت رأيت ضوءه من بين الأشجار. قلت لأصحاب البيت إنني أبحث عن عمل، فأناموني عندهم حتى الصباح. وفي اليوم التالي وصل أقاربي وأمي مع دورية من المخفر يبحثون عني.

هذه الحادثة ضاعفت خوف أمي وتعجيلها في زواجي. لكنني بعد إنهائي صف البكالوريا رحت أبحث عن عمل، ولم يكن دارجاً آنذاك أن تكمل الفتيات تعليمهن الجامعي. تعرفت إلى ممرضة، وبواسطتها عملت في مختبر طبي في شارع بشارة الخوري. لذا، لم أعد أؤوب كل مساء إلى منزلنا في جونيه، بل أنام عند جدتي لأبي بمنزلها في الجميزة. وهذا ما كان يثير غضب أمي ويضاعف خوفها عليّ. ولما تعرفت إلى شاب مهندس يعمل في مكتب قرب المختبر، ومنزل أهله قرب منزلنا في جونيه، وتبادلنا الزيارات، أصرّت أمي أن نتزوج فوراً ومن غير تأجيل. ولأن هذا لم يحصل سعت إلى تزويجي من شاب آخر اختارته بنفسها، فرفضت وبقيت على علاقة بالشاب المهندس.

ميشال المير والشيوعية والفرار
قبل تركي المدرسة في جونيه، كان معلم الرسم في مدرستنا قد لمس حبي الرسم، أنا من كانت أمي ترفض مشاركتي في الأنشطة الفنية المدرسية، لأنها كانت مكلفة مادياً. وبعدما عملت في المختبر الطبي، تذكرت أن مدرّس الرسم كان قد زودني عنوان محترفه في الأشرفية، لتعليمي دروسًا خصوصية، فقررت أن أتعلم الرسم عنده، وكان رساماً معروفاً. إنه ميشال المير الذي كان في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، عندما رحت أتردد إلى محترفه في منزله سنوات كثيرة، وجمعت بين وبينه وزوجته وابنته علاقة ودٍ وصداقة، فرعاني كأب لي ومرشد لميولي الفنية.

وزاد حصار أمي لي، أنا من أعتقد أن جذوة الرفض انغرست فيّ منذ طفولتي، ورافقتني صبية في المدرسة، فرحت أشاكس الراهبات اللواتي نفرن من ميولي الفطرية إلى الثورة والشيوعية، قبل تعرفي إلى افكارهما الفعلية. ففي مجتمع جونيه الضيق والمتجانس آنذاك، كان غريباً أن تتمرد الفتيات، ولا وجود، إلا في ما ندر، لحياة شبابية مستقلة أو منفصلة عن حياة الأهل وتقاليدهم. لكن بيتنا كان يشهد، أحياناً، لقاءات اجتماعية محورها معارف والدي الغريب عن جونيه، والوافد إليها من بيروت. وربما من وحي ما سمعته في تلك اللقاءات تنطحتُ مرة لمجابهة الراهبة، معتبرة أن العمل الإنساني الذي تقوم به المدرسة لتعليم أولاد الفقراء مجانًا وتحت عنوان "المحبة والتآخي"، إنما هدفه غير بريء، بل لإظهار الراهبات منذورات لأعمال الخير. وقد دفعني إلى مجابهة الراهبة أن أولاد الفقراء الذين احتضنتهم المدرسة أبقتهم إدارتها الرهبانية معزولين عن غيرهم من التلاميذ. كأنما فقرهم كان وصمة يجب أن تظل ظاهرة ومعلنة في عدم اختلاطهم بغيرهم من غير الفقراء. وهذا يعني -قلت للراهبة- إن لا مساواة حقيقية، إلإ في الشيوعية التي ما كنت أعلم أن ميشال المير يعتنقها، إلا بعدما أهداني كتاباً عن الثورة البلشفية. قبل ذلك ظهرت لدي في المدرسة شكوك في فكرة وجود الخالق، غذّاها شعوري أن الناس من حولي لا يسلكون ولا يتصرفون ولا يتعاملون في ما بينهم انطلاقًا من إيمانهم بفكرة وجود إله خالق. وآنذاك كانت الأفكار الوجودية في بدايات شيوعها، فتسببت لي قراءتي كتاب سيمون دوبوفوار "الجنس الآخر" بتأنيب الراهبات، اللواتي استهجن ميلي إلى مثل تلك القراءات التي كانت تعتبر معيبة ومفسدة للأخلاق في بيئتي وفي الوسط المدرسي. ولما عرفت أمي بذلك، قررت أن تعرفني إلى خوري لاهوتي إيمانه فردي، واسمه الأب فرنسيس، كي يرشدني ويهديني. وسرعان ما صرت صديقة لذلك الخوري، الذي أراد أن يعيدني إلى الدين والإيمان من طريق المناقشة الفكرية والفلسفية. وقد استمرت صلتي بالأب فرنسيس إلى ما بعد تركي المدرسة ومغادرتي جونيه إلى بيروت، وانتقاله إلى طرابلس.

وكنت أنفر من سلوك الأغنياء في عائلتنا، ومن نظرتهم إلينا، لأننا لم نكن أغنياء مثلهم. لقد كانوا متشاوفين متعجرفين. وسرعان ما رحت أكره كل غني يسلك مثل هذا السلوك اللاإنساني الذي كان يسلكه أولادهم حين أسمعهم ينادون الخادمات كي يجلبن لهم أكواب الماء. لذا رحت أفكر في وسيلة تمكنني من أن أكون محترمة انطلاقاً من أعمالي وأفعالي وأفكاري.

وظللت على علاقة بالشاب المهندس الذي رفض أهله أن يتزوجني، لأنني لست من عائلة في مرتبة عائلته الغنية، وألحت أمي في زواجنا السريع. وأخيرًا خضع المهندس لإرادة أهله. ولما تعرف إلى فتاة فرنسية سافرا معًا للعمل في باريس. وبقيت وحدي في مواجهة حصار أمي. وأخيراً خيّرتني بين البقاء في المنزل وطاعتها أو المغادرة. أرادت الضغط عليّ معتقدة أنني سأرضخ لها ولن أجرؤ على المغادرة. لكنني غادرت منزلها ونزلت عند قريبة لنا كانت تقيم في عين المريسة، حيث أمضيت نحو سبعة أشهر، قبل أن يعثر أهلي عليّ. كانت قريبتي هذه تعمل موظفة في شركة، وتعيش وحدها بعد وفاة زوجها الفرنسي، وتجيد العزف على البيانو وتهوى الفنون. ولما عثر أهلي عليّ، راحت أمي ترجوني باكيةً كي أعود إلى المنزل في جونيه، فرفضت، فصارت هي تأتي لزيارتي.

وتوثقت علاقتي بميشال المير وأسرته ومرسمه. وهو كان يشبهني في وجه من الوجوه. لقد كان متطرفًا في أفكاره اليسارية، ويعاني من أن المجتمع الفني يرفضه ويحاربه. وهذا ما كان يؤلمه حتى البكاء. ثم راح يداوي ألمه بالكحول حتى إدمانها. ففي الصباح الباكر كان يستيقظ ويبدأ في النحت والشرب. وبعد سفري إلى فرنسا عام 1968، علمت أن إدمانه الكحولي قد قتله في العقد السادس من عمره. أذكر أن زوجته كانت تتشاوف عليه باعتبارها من عائلة مميزة أو معتبرة، ولم تكن تتفهمه كفنان. ولكثرة ما حثّها الناس، أقامت لأعماله معرضًا واحدًا فقط بعد وفاته.
(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024