فضيحة سراي بنت جبيل الأشبه بخربة

صفاء عيّاد

الإثنين 2019/03/11
حال سراي بنت جبيل على مثال "من الخارج رخام، وفي الداخل سخام". فمشهد جدرانه من الحجر الصخري المنمق، وضخامة أبعاده، يشي بالفخامة والجمال. لكن ما أن تطأ قدمك أدراج المدخل حتى تفوح الروائح الكريهة من المجارير، وروائح العفونة والرطوبة في غرف السراي. فإذ كنت تنوي الدخول إليه لإتمام معاملة ما، عليك اصطحاب كمامة لتفادي الروائح الكريهة، أما الموظفون فأغلبهم باتوا بحاجة لأجهزة تنفس اصطناعي، لإكمال دوامهم.


الحال المزرية
السراي الذي لم يمض عشر سنوات على افتتاحه، يبدو كعجوز في سن التسعين، يعاني الموظفون فيه من سوء حاله وغياب الصيانة عنه منذ أربع سنوات. يشهد إنقطاعاً للمياه في الصيف، وانفلات مياه المجاري العائمة في موقف السيارات، والمصاعد معطلة، لا بل لم يتم تشغيلها أصلاً منذ افتتاح المبنى، وفق ما ينقل الوافدون إليه. بلاط الدرج متفكك ومحطم، والصعود والنزول عليه قد يكلفك حياتك أو كسراً في أنحاء جسمك.

السقوف الاصطناعية محطمة، والسقف الزجاجي الأساسي الذي يهيمن على مجمل الباحة الكبيرة، التي تتوسط المبنى، أصابته الشقوق والتصدعات والهشاشة، ما حول الباحة إلى بركة عائمة في فصل الشتاء. والجدران البيضاء تحولت إلى سوداء من شدة اتساخها. أما الكهرباء، فتغيب عن بعض الدوائر الرسمية التي تعمل في السراي. فلك أن تتخيل دخولك إلى مكتب القائمقام في المبنى، وتجده معتماً بلا كهرباء! أما الإدارات الأخرى، وحسب العاملين، فلا اعتمادات مالية لشراء المازوت للتدفئة، وبعضها قام بتمديد إشتراكات كهربائية من البلدية، والأخرى ساعدها مكتب اتحاد بلديات بنت جبيل بتقديم الكهرباء لها.

السراي الذي يضم  القوى الأمنية بفروعها كافة، وسجناً يبلغ عدد نزلائه 60 شخصاً، إضافة إلى محاكم مدنية وجعفرية، ومكاتب لوزارات عدة ومؤسسات عامة، يهاب موظّفوه التحدث عن معاناتهم اليومية. وحده علي ياسين، أحد موظفي وزارة الزراعة، تسلح بحق التعبير على حسابه الخاص على فايسبوك موثقاً بالكلمة والصورة حال السراي في المدينة، متسائلاً: "من المسؤول عن الواقع الذي أوصل مبنى حكومياً إلى حاله المزري هذا".

من الواضح أيضاً، أنّ تشييد المبنى قد تمّ بمواد إنشائية رديئة النوعية، ما جعل مرافقه من تمديدات صحية وكهربائية تتهالك سريعاً. كما أن تصميمه الداخلي في استغلال المساحات يفتقد إلى أي تدبير هندسي سليم.

المئة وخمسون موظفاً ليسوا المتضرّرين الوحيدين من واقع السراي، بل الأهالي من جيران المبنى. فالشكاوى بالجملة تقدّم يومياً إلى بلدية بنت جبيل، لمعالجة كارثة الصرف الصحي التي تفيض على البيوت المجاورة، وتتسبّب بروائح كريهة في الشارع الحيوي بأكمله. فالمختار وحيد سعد، ومن كثرة المناشدات التي أطلقها من دون أي جدوى، نشر يافطات احتجاجية فوق مكتبه المقابل للسراي، قائلاً: "لربما ينتفض الأهالي يوماً ويحتجون، للفت انتباه المعنيين. لكن، على ما يبدو، أصبحوا مبرمجين وفق أهواء زعماء المنطقة". وينقل زوار السراي شائعات السرقة التي شهدها المبنى في فترة بنائه، لكن ما من شيء موثّق ولا دليل لدى السلطات المحلية. إذ يقول محمد بيضون: "كلمة سرقة مثل مشروع مكافحة الفساد، لا أحد يعرف من المسؤول عنها".

المتعهد المسؤول
رحلة البحث عن سبب العلة في المبنى، تتنقل بنا من وزارة الأشغال إلى المتعهد، إلى بلدية بنت جبيل واتحاد بلديات بنت جبيل، مروراً بنواب المدينة. فوزارة الأشغال هي الممولة للمشروع، وتعهدته شركة المقاولات والتجارة لصاحبها وجدي العظمة، فيما المهندس الاستشاري للمشروع هو حسن الجشي. ونسي المتعهّد العظمة الذي هو حالياً خارج البلاد، التكلفة المادية للمشروع الذي يعود للعام 2004. وينفي المتعهد في حديثه لـ"المدن"، أي مخالفات لمواصفات بناء المبنى، مرجعاً سبب المشهد المخزي اليوم إلى سوء إدارة الدولة لمواردها، وسوء الصيانة.

يؤكّد محمد بزي، أحد المهندسين الذين أشرفوا على التشطيب النهائي للمشروع، بأن لا عيوب إنشائية في المبنى، من ناحية التلزيم، فلم يتم التلاعب بالمواصفات ولا بكميات مواد البناء. لكن الخلل الفعلي الذي جعل السراي أشبه بخربة، هي التلزيمات الداخلية للمبنى، وأبرزها الأسقف المستعارة والخيمة البلاستيكية، وتمديدات الصرف الصحي، التي لم تأخذ بالاعتبار السعة الاستيعابية للمبنى، وطريقة تصريفها.

خطة طوارئ
من جهته يلفت رئيس بلدية بنت جبيل عفيف بزي في حديث لـ"المدن"، بأنّ ترك السراي بشكله الحالي "هو محاولة لترحيل الدولة من المدينة، التي عملنا جاهدين بعد التحرير لنستعيد تواجدها في المنطقة". متسائلاً: "هل من الممكن أن يُترك مبنى من دون صيانة، فتغيب عنه أهم مقومات الحياة، مثل المياه والكهرباء وشبكات الصرف الصحي؟". فالبلدية مع اتحاد بلديات بنت جبيل، قدمت 100 مليون ليرة بين أعمال للصيانة وتأمين متطلبات المؤسسات العامة، لتبقى في السراي, علماً أنها ليست من صلاحية البلديات ولا الاتحاد. مشيراً، إلى أن لا سلطة بيد قائمقام المدينة، وجوابه المتكرر أن لا ميزانية ولا اعتمادات للصيانة... وحتى عامل النظافة في السراي عينته البلدية، ويتقاضى راتبه منها.

وحسب بزي، ينتظر السراي وعداً بأعمال الصيانة منذ آذار الفائت، إذ عقد لقاء بين النائبين حسن فضل الله وعلي بزي مع وزير الأشغال يوسف فنيانوس، الذي رصد مبلغ مليار ونصف ليرة لبنانية لأعمال الصيانة. لكن عملية التلزيم، التي رست على شركة دنش، توقفت بسبب سعرها المنخفض الذي تقدمت به، وهو 300 مليون ليرة. ويعتبر رئيس البلدية بأن المطلوب هو خطة طوارىء فعلية لحال السراي، وعدم انتظار المناقصات والتلزيمات، التي تأخذ وقتاً وروتيناً إدارياً بين وزارت الدولة، وإلا فأن أبواب السراي ستقفل بوجه أبناء المنطقة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024