يوميات طالبة في ساحات الثورة: لبنان كلّه شعلةٌ واحدة

فيرينا العميل

الإثنين 2019/10/21

إنه اليوم الثاني للتظاهر.

كان موعد اللقاء في الواحدة والنصف، أمام مسجد محمد الأمين في وسط بيروت. لكن طلاب النادي العلماني في الجامعتين اليسوعية والأميركية، كانوا قد بدأوا تحركاتهم منذ ساعات النهار الأولى.

حلم يقظة طلابي
من الأميركية واليسوعية سيراً على الأقدام في الشوارع، وصولاً إلى رياض الصلح. وفي الساعة الثالثة والنصف انضمت إلينا مجموعات طلابية من سائر الكليات والجامعات… فتعالت الهتافات: "يا طلاب العلمانية ساحتنا صارت علنية" و " Aub يسوعية حركة وحدة طلابية"، و"كلن يعني كلن" و"14 و8 عملوا البلد دكانة".

المشهد يقظة من الحلم، بعدما كان حلم يقظتنا منذ سنة 2015.

ثورات ثلاث
ثورة الأرز في العام 2005 كانت لحظة وعيي الأولى وتفتحي على السياسة، التي لم أكن أفهم منها سوى قليل القليل يومذاك، عندما لم أكن قد تجاوزت بعد العقد الأول من عمري. لكن هذه مشاهد يوم 14 آذار انطبعت في ذاكرتي كأجمل صور خالدة، هي أقوى صور حشود البشر الملونة الزاهية في طفولتي.

أما حركة 2015 الاحتجاجية فكانت ثورتي الأولى الفعلية على نظام طائفي أدّى بمؤسسات الدولة إلى الهلاك، وطمر البلد بالقمامة، ففاحت منه رائحة فساد الطبقة السياسية.
بين الصور الخالدة لحشود 14 آذار في طفولتي، والثورة على النفايات والفساد، نضالٌ وأحلام بغدٍ آمن. وبين ثورة 2015 وثورة 17 تشرين الأول 2019 الراهنة قنوط وكفرٌ بالوعي الشعبي.

ثورتي هذه بركان أوقدته نيران كانت قد التهمت جورج زريق انكساراً، وبائع الكعك ذلّاً، والنفايات تلوثاً، وأخيراً التهمت غابات لبنان إهمالاً.

بلاد الذل والهوان
لا أعلم إن كانت الشرارة الأخيرة لانتفاضة شعبنا هي الضرائب على الواتساب، على ما يشير الإعلام العربي، أم أن الكآبة التي ولّدت غضباً جرّاء احتراق غابات "لبنان الأخضر". إهمال وكسل حالا دون صيانة طائرات الإطفاء. وخلافات سلطوية على تقاسم المغانم أدت إلى الفشل في تعيين حراس للغابات. فقطع اللبنانيون شكّهم باليقين بأنّ جرحهم واحد، وبلدهم واحد، وأنّ بيئتهم وطبيعة بلادهم وهواءها وترابها وماءها في خطر. وكرامة "الشعب العنيد" اضمحلت: لا كهرباء، لا ماء، ولا قوانين أحوال شخصية عادلة، وهدر وفساد مستشرٍ على حساب قوتهم. فحكّامهم تسيدوا عليهم بعد تفريقهم. تارةً بالنعرات الطائفية، وطوراً بالزبائنية الذليلة لنيل أبسط الحقوق.

الجمعة العظيمة وسبت النور
وكانت الجمعة العظيمة في 18 تشرين الأول الجاري، فإذا بلبنان كلّه شعلةٌ واحدة. استعرت نار الثورة والانتفاضة الشعبية من أجل "الرغيف والحريّة"، وضد الفساد والطائفية.

وامتدّ النور إلى السبت: من صور، مروراً ببيروت وكسروان إلى ساحة النور في طرابلس.

ضاقت الساحات بالمنتفضين المعتصمين يوماً بعد يوم.
وكان الأحد يوم قيامة الشعب اللبناني من سباته الذي بدا عميقاً، فكانت ثورة المليونين ونصف المليون. ثورة جمعت ما قسمته الثورة والثورة المضادة في آذار 2005. علت الأعلام اللبنانية، وغابت الحزبية. وعندما وصلنا بالمسيرة، نحن طلاب النوادي العلمانية، من الجميزة إلى ساحة الشهداء نهار الأحد، انقشع لعيني أنّ مرادنا تحقق للمرة الأولى. انصهرت المطالب وتقاربت، واجتمعت فئات المطالبين: طلاب وعمال وشبان وشابات ومسنون من الطبقات والمناطق والطوائف كلها. ورأينا أن الستاتيكو إلى انكسار.

مَن كان في الأمس القريب ينعتنا بالحالمين ها هو اليوم يهتف في ساحات النضال. فاستعدنا الأمل.

نتخوف من الأحزاب التي تروّج بأنها معارضة، وتحاول استغلال الثورة لصالحها. لكنها في الحقيقة ركن من أركان المنظومة أو الستاتيكو السلطوي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024