مشايخ الوعظ في سجوننا: لماذا يخرّجون متطرفين دينياً؟

نهلا ناصر الدين

الأربعاء 2019/09/11
"البراء من المُختلِف. الجهاد للخلاص من مجتمع كافر، للعيش في مجتمع إيماني. النساء فاسقات على الأرض، ولكم الحوريات في الجنة. الاختلاط بالنساء، وبمن يدين بالولاء إلى دين آخر حرام. مبايعة الشيخ الذي يعلّمك أصول الدين". هذه بعض  من عبارات تتردد في بعض سجون لبنان، حسبما روى (م.ع) لـ"المدن"، وهو أحد المساجين السابقين.

هو مكث مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر في السجن، أولها في "روميه" وآخرها في سجن "القبة" في طرابلس. تهمته "تمويل الإرهاب"، لإرساله مبلغ 100 ألف ليرة لبنانية إلى عامل سوري شغّله في مؤسسته التجارية الصغيرة، فطلب منه المبلغ لعائلته في سوريا، ليتبين لاحقاً أن العامل من المجاهدين في جبهة النصرة شمال سوريا.

بعد خروجه من السجن روى (م. ع) أن "التلقين الأيديولوجي الذي يتعرّض له السجناء المسلمون الذين يشعرون بالغبن والمظلومية، ويعانون من ضيق العيش في سجون لا تشبه حتى السجون، يتركهم فريسة سهلة للفكر المتعصب وتبنّيه وتطبيقه في محيطهم بعد خرجهم من السجن".

الأزعر شيخاً
سجين آخر تأثر بمرحلة من المراحل بأجواء الحرب السورية، وذهب للجهاد في دير الزور، وعاد منها بعد مقتل رفاقة بغارة جوية، متخلياً عن الجهاد وتحرير سوريا والأفكار الجهادية التي تلقنها في أحد مساجد طرابلس. سلّم نفسه للقوى الأمنية اللبنانية ليعيد بناء حياته من جديد، فسُجن مدة ووصف تجربته السجون اللبنانية: "هربت من الجهاد وأعلنت التوبة منه، وإذا بأفكار التعصب والتشدد تلاحقني إلى السجن، يبشر بها شيوخ لا أعلم كيف ومن سمح لهم أن يحاضروا بالمساجين. وتعاليمهم أشد خطراً على الشباب اللبناني من المنابر خارج السجون".

وهذا (ح. خ) الذي قبع في سجون طرابلس أكثر من سنتين، بتهمة تعاطي المخدرات وترويجها، وكان من "زعران الميناء" يخرج من السجن وقد "أخفى آثار التعذيب والوشوم التي ملأت جسده بعباءة دينية، وأطال لحيته وحلق شاربيه، وأصبح من الدعاة المتشددين، وعاد إلى السجن بعدما أطلق النار على أحدهم".

ظاهرتان مختلفتان
هذه الحالات وليدة ظاهرتين مختلفتين: السجناء الإسلاميون المتهم بعضهم بالإرهاب، أو الذين قُبض عليهم عشوائياً في إطار ما نجم من احتقان في بعض المناطق اللبنانية أثناء الثورة والحرب في سوريا. ويتنامى لدى هؤلاء شعور بالغضب والمظلومية، إذ يمكثون مدة طويلة في السجن بلا محاكمة، فيما يُحتفل بعناصر حزب الله الذين يشاركون بفخر في الحرب السورية إلى جانب النظام ومجازره بالشعب السوري.

الظاهرة الثانية تتعلق بنزلاء السجون من فتيان أو شبان "الشوارع" المهمشين والتائهين بلا رعاية أسرية أو عائلية ولا تعليم ولاعمل، في أحياء الفقر والبؤس الاجتماعيين (مثل باب التبانة في طرابلس). وهؤلاء يحملهم وضعهم هذا إلى الجنوح والعنف، وتعاطي المخدرات الرخيصة، وارتكاب بعض الجرائم الصغيرة التي تؤدي ببعضهم إلى السجن.
ويتخالط في السجون اللبنانية أبناء هاتين الفئتين، ويزورهم في السجون مشايخ لهدايتهم وإرشادهم دينياً.
فمن هم أولئك الشيوخ الذين يسمح لهم بالدخول إلى السجون وإلقاء المواعظ الدينية فيها؟

غسيل أدمغة
يؤكد (ح.ع)، وهو أحد الشيوخ المتعاقدين مع دار الفتوى، أن هؤلا المشايخ "يدخلون السجون بتصريح من دار الفتوى، من دون أن يتلقوا علوماً دينية، ليغنّي كل منهم على ليلاه، من دون حسيبٍ أو رقيب. وبعضهم يعزف على وتر حاجة السجناء المادية، لغسل أدمغتهم، في مقابل حوافز مالية تقدمها جمعيات دينية مرتبطة بدول عربية".
ويذكر أسماء بعض هؤلاء الشيوخ، ويشير إلى أن "معظمهم منتدب إلى سجون الشمال، ويُقدر عددهم بـ 25  شيخاً، يتناوبون على التدريس في السجون، هم من أصحاب الفكر الاسلامي المتشدد".

أحد المتعاقدين مع دار الفتوى، يؤكد كلام زميله في شأن خطورة ما يحصل في السجون، ويرى أن "المشكلة تكمن في شهادات العلوم الدينية التي توزعها معاهد غير شرعية وهي ليست سوى دكاكين للسلفية الدينية التي تُنقل أفكارها مشافهةً. وهم يدخلون السجون بحجة تأهيل المساجين". ويشدد على أن رقابة الدولة عليهم استنسابية، وتغيب في سجون وتحضر في أخرى: "تغيب عن سجون الشمال، وفي مقدمها سجن القبة، وعن سجن روميه أيضاً، وتحضر في باقي السجون".

لا خطة للدين
للوقوف على صحة المعطيات السابقة، اتصلت "المدن" بمفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، لمعرفة عدد الشيوخ المنتدبين للتدريس في السجون، مهامهم، والجهة التي تراقبتهم... قبل أن يجيب الشعار طالب معرفة خلفيات الأسئلة، وتوجّس من الأمر، ثم رفض الإجابة، وحدد لنا مقابلة بعد أيام عشر.

حاولنا الاتصال بأمين سر دار الفتوى في لبنان خلدون القواص، الذي وجّهنا بدوره إلى رئيس هيئة السجون ومدير عام الأوقاف الشيخ محمد أنيس أروادي الذي بادرنا قائلاً: "خَيْر؟!"، وقبل أن يعرف خلفية الاتصال رفض تزويدنا بعدد محدد للشيوخ المنتدبين للسجون، "لأنهم متعاقدون ويتبدلون وغير ثابتين".
ولفت أروادي إلى أن مهام هؤلاء الشيوخ هي "الإرشاد الديني والسؤال عن حاجيات المساجين التي نحاول تأمينها بالحد الأدنى". وعن المنهج المتبع يقول أروادي: "هذا دين، لا خطة في الدين، وهم يعلّمون المساجين دينهم. نراقب العملية عبر هيئة رعاية السجناء، ونحدد لكل شيخ ماذا يفعل". وعندما سردنا على أروادي الحالات الوصوفة أعلاه، انتفض وقال: "انتِ تتهمين الشيوخ المنتدبين ودار الفتوى بالتطرف؟! لا يمكنك طرح اسئلة كهذه". نحاول تهدئة أروادي بالقول: "لو كنت أريد اتهامك ما كنت اتصلت بك لاستيضاح الأمر". فاستمر على غضبه: "لا يمكنك اتهامي، أنا دار الفتوى، ومع احترامي لكِ هذا كلامٌ فارغ وغير صحيح وهناك مراقبة داخل السجون".

مهام دينية نفسية
وتواصلنا مع الشيخ صفوان الشعار، أحد المدرسين المنتدبين من دار الفتوى إلى سجون الشمال (القبة، أميون، زغرتا، وحلبا)، فنفى وجود شيوخ متعصبين ومتشددين يدرّسون في السجون، مؤكداً أن دار الفتوى تصرح لهم بالتعاون مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ويتناوبون على التدريس في السجون، ثلاثة أيام في الأسبوع، ويواظبون على إمامة صلاة الجمعة، ويزورون السجون في حالات الطوارئ، كالإضراب عن الطعام للمطالبة بالعفو العام، كما حصل في القبة قبل أسبوعين، لامتصاص غضب المساجين وتهدئتهم".

وأوضح الشعار: "عملنا مع المساجين نفسي وروحي. نهدّئ من روعهم عند غضبهم بسبب الأوضاع المزرية التي يعانون منها والمظلومية التي يشعرون بها. ونقوم بتوجيه ديني للسجين. نكلّمه بأمور المغفرة والتوبة الى الله، والعودة عن الخطيئة واللجوء للفضيلة، ونعطيهم دروساً في القرآن الكريم ونعلمهم الشريعة، كما نساعد بقدر الامكان مع بعض الجمعيات والخيّرين بدفع غرامات مالية لإخراج بعض سجناء الأحكام البسيطة".
ويؤكد أن لا منهج موحّداً يتبعه الشيوخ بل "كتاب الله وسنة رسوله، وكل شيخ يتعاطى مع المساجين انطلاقاً من خبرته واختصاصه الجامعي، لكن هناك مسائل فقهية ولكل حالة حكمها وظرفها". وعن مراقبة هذه العملية، يلفت الشعار إلى أن لا رقابة، بل متابعة.

الاكتظاظ هو المشكلة
ويرى الشعار أن أم المشاكل في السجون هي اكتظاظها: "في سجن القبة 970 سجيناً موزعين على 16 غرفة. كل غرفة فيها من 60 إلى 65 سجيناً. وهناك مشكلة تأخر المحاكمات. فأمام القاضي الواحد 26 دعوى يومياً. لذا يجب زيادة عدد القضاة وحل مشكلة الاكتظاظ التي تؤدي إلى وضع نفسي متوتر في السجن".

وسألنا الدكتور زهير حطب رأيه في تأثر السجين بالتلقين الأيديولوجي، فرأى أن "شعور السجين بأنه مدان ومعاقب على ما اقترفه، يدفعه إلى الثأر، ويولّد لديه ردة فعل سلبية وغاضبة ضد المجتمع. وعندما يخضع لتعاليم أشخاص لديهم توجه متشدد، ينشأ لدى السجين حقد وعنف يزيدان تطرفه الذي يروح ينمو داخل السجن، ويبرر أفعاله".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024