موسم الحشيشة الكبير: شعار الدولة "إعمل نفسك ميت"

لوسي بارسخيان

الأحد 2020/09/06

إتخذت الدولة اللبنانية، في نيسان العام الجاري خطوات عملية لتشريع زراعة الحشيشة، عبر إقرار مجلس النواب لمشروع قانون يتيح زراعة "القنب الهندي" أو الحشيشة "لأغراض طبية وصناعية". إلا أن ذلك لم يسهم حتى الآن في شرعنة "الأمر الواقع"، الذي فرضته زراعة الحشيشة وتجارتها بشكل غير شرعي في منطقة بعلبك الهرمل، حيث ارتفعت مساحاتها المزروعة إلى 28 ألف دنم خلال الموسم الحالي، وفقاً للمسح الذي رفعته مديرية مكافحة المخدرات إلى السلطات القضائية، بالمقارنة مع 20 ألف دنم كانت مزروعة في العام الماضي، و32 ألف دنم أحصيت في سنة 2013، تاريخ آخر عملية تلف لحقول الحشيشة في البقاع، ليشكل تراجع حزم "الدولة" في مكافحة هذه النبتة من بعدها، إشارة ضمنية بغض النظر عنها.

هيمنة على المزروعات
لم يعكس تراجع مساحة الحشيشة بين 2013 و2019 توجهاً لمنح فرصة للنقاشات التي رافقت قوننة الزراعة لأغراض طبية. بل يعيده المطلعون إلى تراجع أسعاره العالمية، فأصبحت كلفة الإنتاج في بعض الأحيان توازي ثمن بيعه، فيما وجد أصحاب الحقول في تزايد أعداد النازحين السوريين، يداً عاملة رخيصة، قد تعينهم باستعادة نسب أرباحهم السابقة.

بوقاحة، يمتد مشهد الحقول على مشارف الطرقات التي تنقل قاصدها من بلدة "حشيشة" إلى أخرى. وثمة مؤشرات كثيرة في هذه الحقول لهيمنة الحشيشة على غيرها من الزراعات. ولكن أبرزها يبقى فيما يمكن مصادفته من كروم عنب حديثة بقي ثمارها مهملاً على "عرائشها"، إلى كميات من دوار الشمس التي يمكن نبش قرصها من بين الردميات، بعد اختلاطها بنبتة الحشيشة، ما يعكس قرار المزارعين النهائي باقتلاع هذه الزراعات، ودفن خطط إدراجها كبدائل هدرت الأموال عليها من دون طائل.

عند مدخل منطقة اليمونة في شمال البقاع، يطالع من يقصد البلدة حقل "حشيشة" كبير، تشقه المياه المتدفقة من أقنية الري، لتوفر للنبتة مقومات صمودها بوجه درجات الحرارة غير الإعتيادية بمثل هذا الوقت من السنة. بقلق يواجه المزارعون هذا التطرف المناخي الذي يحرم نبتة الحشيشة غذاءها المستمد من "ندى" أيلول، أحد أبرز مقومات جودة النبتة المنتجة في سهل البقاع، فلجأ بعضهم إلى زيادة كميات ريها خوفاً من أن تفعل الطبيعة ما عجزت عنه الدولة.

التجار والعصابات
ليس هذا الحقل وحيداً في البلدة، بل تكاد زراعة الحشيشة فيها تحل مكان شهرتها بإنتاج "تفاح اليمونة"، لتشكل بامتدادها وحدة حال مع مساحات واسعة تنتشر على طول سهل بعلبك- الهرمل، من الكنيسة إلى مرجحين فاليمونة ودار الواسعة ودير الأحمر وبوداي والعلاق ومناطق الهرمل الأخرى.

إلى بؤر دائمة لزراعة الحشيشة تحولت هذه القرى، التي يتحكم بإنتاجها وفقاً لمطلعين بضعة تجار، إما يزرعون الأرض على مسؤوليتهم، أو يضمنون إنتاجها مباشرة من مزارعيها، ليتولوا تصريفها على مسؤوليتهم داخل الأراضي اللبنانية أو خارجها.

كان يفترض أن يشكل "قانون تشريع زراعة الحشيشة لأغراض طبية" واحداً من خطط مواجهة عصابات تجارة المخدرات المزدهرة في هذه المنطقة، ومعاصيهم المسيئة لسمعة بعلبك واقتصادها عموماً. ولكن.. من يمكن أن يتوقع من "دولة" لم تنجح حتى الآن في تطبيق قانون منع التدخين بالأماكن العامة، أن تكون أقوى من "عصابات" تخفي معاصيها بعباءات العشائر، وسط "صمت" داخلي وخارجي، يضع الجميع في موقع "المتواطئ" مع الحشيشة وزراعتها.

قررت الدولة "تعمل نفسها ميتة" في تعاميها عن هيبتها التي تختفي وسط حقول الحشيشة المنتشرة بالمنطقة و"على عينك يا تاجر". مزينة عجزها بنزعة التعاطف مع المجتمعات الحاضنة لها، في ادعائها الاستعانة بالحشيشة لمواجهة قساوة الظروف الاجتماعية والمعيشية التي ترزح تحتها المنطقة. حتى لو كان الكل مدركاً تماماً للتداعيات الاجتماعية والمآسي التي يخلفها الإدمان في صفوف تلاميذ المدارس والجامعات وفي النوادي الليلية والمنتجعات، وحتى في المجتمعات التي تحتضن الزراعة.

انحلال الدولة.. والسلاح
وفقاً لمطلعين، لا تريد الدولة هنا أن تواجه عصياناً مدنياً آخر، ينزع لتفجير السلاح بوجهها متى تعلق الأمر بالحشيشة والمخدرات، زراعتها والإتجار بها. ليظهر صمتها كمساومة على نكسها والأحزاب المهيمنة على المنطقة بوعود تحقيق الإنماء المتوازن في هذه المنطقة.

فيما واقع الحال يشير إلى اقتران انفلاش هذه الزراعة بانحلال الدولة أمام سلطة السلاح المتفلت، لتقع تحت هيمنة "بؤر محمية"، نفوذها أقوى من الدولة في فرض إرادتها على بعلبك وأهلها بشكل عام.

جاء تشريع الحشيشة من قبل مجلس النواب في المقابل، كجزء من توصيات شركة ماكينزي الأميركية للاستشارات المالية العالمية، والتي اقترحت للنهوض من الكبوة الاقتصادية، "قوننة" زراعة الحشيشة لأغراض طبية. وقد قدرت الشركة الأرباح التي يمكن أن تجنيها الخزينة العامة من هذه الزراعة بنحو مليار دولار سنوياً.

ناقشت اللجان النيابية مشروع قانون وافق عليه مجلس النواب لاحقاً يهدف إلى الاستفادة من زراعة النبتة في مجال التصدير، لما لها من استخدامات في قطاع المنسوجات وصناعة الأدوية، إلى تلبية الطلب المتزايد على زيت القنب.

إلا أن اتساع مساحة حقول الحشيشة غير المقوننة هذه السنة أيضاً، بدد فرص "السلطة الشرعية" في الاستفادة من مداخيل هذه الزراعة، طالما أن أي خطوة عملية جدية لم تتخذ حتى الآن لتطبيق القانون وفرضه، ولو بالقوة.

فلا الهيئة الناظمة لهذه العملية قد أقرت، ولا تدابير مشددة اتخذتها الدولة لفرض عملية الإنتقال من زراعة الحشيشة كمادة ممنوعة إلى تلك الأنواع التي تستخدم لأغراض طبية، ولا حتى باشرت بتجهيز البنى التحتية التي تتيح لها تسلم الإنتاج، لتحويله مواد صناعية وفقاً للطموحات التي رسمتها.  

خطر الهيرويين
بالنسبة لمزارعي الحشيشة وتجارها، فقد وجد معظمهم وسط الأزمات المتكررة التي لا يزال لبنان يعاني منها هذا العام، بدءاً من انفجار "الثورة" بوجه السلطة الحاكمة، إلى جائحة كورونا، وإلى الفراغ السياسي الذي خلفه إنفجار مرفأ بيروت، والإرباك الذي تتخبط به السلطة السياسية، والتي جاءت كلها بعد مرحلة من اللاستقرار الأمني والإضطرابات الإقليمية التي خلفتها أحداث سوريا.. فرصاً لمراكمة أرباحهم من زراعة الممنوعات والإتجار بها. فعمد بعضهم وفقاً لتأكيدات أمنية إلى زراعة "الهيرويين" الأكثر خطورة، وإن كانت مساحاته التي لا تزال محدودة جداً حتى الآن، تهرب وسط أكوام الحشيشة التي تغطي مساحات السهل من دون حسيب أو رقيب...

إلا أن مصادر أمنية تؤكد بأن "التغاضي" عن الزراعة، لا يوقف الجهود الأمنية المستمرة لمكافحة الإتجار بالمخدرات، سواء عبر المعابر الشرعية أو غير الشرعية، أو في البؤر التي تروج للمخدرات على المستوى الداخلي. وهنا تبدو العمليات محفوفة بالمخاطر، خصوصاً أننا نتحدث عن عصابات تحتمي بعباءات "العشائر"، لتتفلت من كل الضوابط القانونية والأمنية وحتى من التزاماتها تجاه الأحزاب الحاضنة للمنطقة، فتفرض نمطاً بوليسياً دائماً يخطف المجتمع البعلبكي ليلصقه بوصمة "الخارج على القانون" بشتى الأساليب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024