ولادة طفل سوري بأيدٍ فلسطينية على طريق خلدة الغارق

أحمد الحاج علي

الأحد 2019/12/08

يولد الإنسان مع الدم والألم والصراخ.. لكن في حالة الطفل أمين مصطفى، ثمة شيء مختلف ربما، وهو الذي وُلد على الطريق في زحمة السير، والماء يكاد يُغرق السيارات التي انتظرت لساعات ما بين خلدة وصيدا. فهذا الطفل السوري ربما سكنه الفرح حين وُلد بأيدٍ فلسطينية، وحضنته أكف لبنانية، وأدفأته مناديل العالقين في تلك الزحمة التي عرّت مسؤولين، لكنها فجّرت أجمل ما في دواخل أناس يعيشون في هذه البقعة الجغرافية، على اختلاف منابتهم والمناطق التي أتوا منها. قصة أمين تستحق أن تكون وصفة لحب أوسع وأعمق، وعلاجاً ضد الكراهية.

الرضيع أمين مصطفى (المدن)

تشعر خديجة العلي ببعض عوارض الولادة. يتصل زوجها سامر مصطفى بالطبيبة، فتطلب منه التوجّه من حيث يسكن في بعبدا إلى مستشفى كترمايا. يركب سيارته برفقة زوجته وابنه محمد، الذي وُلد قبل عشر سنوات من دون قدرة على الحركة حتى اليوم، ويوشك أخوه الأول أن يستنشق الأكسجين بنفسه خلال وقت قصير. لكن الساعات تطول على الأوتوستراد الساحلي الغارق بوحول السلطة الراكدة. يتوقف السير تماماً في منطقة خلدة. ينزل ماء الجنين أو ما يُسمى "ماء الرأس"، إيذاناً بقرب إطلالة رأس المولود القادم.

الممرضة منى الوحيد
يرتبك الأب السوري القادم من "جسر الشغور" أكثر فأكثر، خوفه يزداد من أن يفقد الأم والابن في لحظة لم يتوقعها، كما يقول لـ "المدن". ينزل ويصعد من السيارة، عدة مرات. توتّر لم تخطئه عينا ممرضة كانت في حافلة لوكالة الأونروا الخاصة باللاجئين الفلسطينيين. تنزل منى الوحيد برفقة السائق فتدرك الخبر. هي متخصصة في قياس "الضغط" و"السكري" بعيادة الأونروا في مار الياس، ولم يسبق لها أن دخلت غرفة عمليات للتوليد.


كانت في الطريق إلى بيتها بمنطقة وادي الزينة حين صادفها الحدث. مع ذلك، قررت أن تأخذ المبادرة بشجاعة "لأنه لا يوجد حلّ آخر، خاصة بعدما بدأ يطلّ رأس الطفل"، كما تقول لـ"المدن". نزل موظفو الأونروا من الحافلة، وشرع العديد من السائقين بالخروج من سياراتهم. بلحظات كانت الستائر تلف السيارة، تهيئة للولادة المرتقبة. أحضروا، بخطف البصر، المقص والمشدات والمعقمات وكل ما طلبته منى من صيدلية قريبة. ظنت خديجة أنها بين يدي طبيبة متخصصة، اطمأنّت. أخذت الممرّضة تتذكّر ما درسته قبل سنوات، كما تُخبر "المدن". نجحت بإخراج الطفل، وربطت حبل السرّة. كل ذلك داخل سيارة، لا غرفة عمليات.

لاحظَت منى أن الطفل يكاد يختنق، فطلبت شفاطة (شلمون)، وشفطت الماء من أنفه. لقد أنجزت المهمة. كان الناس يخلعون مناديلهم وستراتهم ليُغطوا أمين. طلبت اقتياد الطفل مباشرة إلى سيارة تابعة للأونروا قريبة من الحافلة، ليتم تدفئته "فلم يكن من الممكن تشغيل المكيف الساخن في سيارة الأب، حتى لا تُصاب الأم بنزيف"، كما تقول منى، التي، ومنذ ذلك الحدث، تزور خديجة وسامر يومياً، للاطمئنان على صحة أمين ووالدته، وحظيت بتكريم المدير العام للأونروا في لبنان كلاوديو كوردوني. 

العفوية الإنسانية انتصرت، ولم يلتفت فلسطينيون وسوريون ولبنانيون إلى تغريدة في ذلك اليوم أطلقها عضو مكتب سياسي في تيار الكراهية يعبّر عن استيائه لأنه لم ينتحر بعد لاجئ سوري أو فلسطيني، داعياً إلى مصادرة المعونات المقدّمة للاجئين الفلسطينيين والسوريين. انتصرت العفوية الإنسانية اليوم كما انتصرت قبل أقل من شهرين، حين خرج متطوعو الدفاع المدني الفلسطينيون من مخيماتهم للمساهمة في إطفاء الحرائق المشتعلة. العالم أكبر من جدران الكراهية. العالم أجمل من دونها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024